تمهيد
قبل عقدَين من عمر هذا الوطن، وفي مثل هذه الأيام المشؤومة والحزينة من سنة 2003 في أعماق معظم أطياف الشعب العراقي وأحاسيسهم، على عكس الطغمة التي جاء بهم الإحتلال وَجَثّمهم على الصدور والرقاب، وإصطف إلى جانبهم المستفيدون منهم والمخدوعين بهم.
ذلك اليوم الذي طالت فيه أذرع المحتلّين وأيدي تابعيهم عموم الوطن قتلاً ودماراً ونهباً وسلباً وفساداً وسرقة وإنحطاطاً وسفالة وشيوع مخدرات، وأعادوا حياتنا في كل مناحيها إلى الحضيض، وأضاعوا عراقنا العريق وخرّبوه وحرقوه، بعد أن إقتحمت القوات المتحالفة الأمريكية-البريطانية أرضنا الحبيبة من دون قرار دولي، وتحت ذرائع ومزاعم وأكاذيب ثبُتَ بُطلانها على لسان مُطلِقيها، فأُحتُلت بلاد الرافدين خلال ثلاثة أسابيع، قابَلَه إخفاق مخجل لأداء القوات العراقية بشكل لم يُنتَظَر ولم يُتَوقّع، فإنهار نظام “صدام حسين” وإختفى عن الأنظار مع جميع القادة المقربين منه، فسابت البلاد أمام الغزاة، وتعرّضت لأنكى جرائم الدمار والحرق والنهب والسلب، وسالت دماء أبنائه أمام أعين المحتلين وتوجيهات الساسة المُنَصّبين والعملاء المأجورين وزعماء العصابات وقادة الميليشيات وعتاة المجرمين وأرباب السوابق، فضلاً عن العَوام.
ولمّا كنتُ ضابطاً في الجيش العراقي منذ عام 1964، وعشتُ أحداث العراق وتعايشتُ مع تفاصيلها حتى تقاعدتُ برتبة “عميد ركن” عام 1988، ثم مُحاضِراً وباحثاً لدى الكلّيات الأربع التابعات لجامعة البكر للدراسات العسكرية العليا، ومتابِعاً لنكبة غزو دولة الكويت الشقيقة وما تلاه سنة 1991 من الكوارث والحصار المرعب لـ13 سنة متتالية، ثم المواقف التي تصاعدت ضد العراق، ناهيك عن حضوري ندوات وبحوثاً ستراتيجية متنوعة عن توقّعات الغزو الذي بدا واضحاً لمّا بدت حشود القوات الأجنبية واضحة على مقربة من حدود وطني في أوائل 2003.
لذلك لا أرى نفسي بحاجة لمصادر ومراجع تُعينني في إعداد هذه الدراسة المتواضعة، فقد تابعتُ إستحضارات الغزو وسطرتُ ساعاته منذ صبيحة يوم الأحد 19 آذار 2002 ورصدتُ مُجرياته وأحداثه وأيامه.
وفي هذه الدراسة أحاول تسليط بعض الضوء على موجِبات النصر الحليف الساحق الذي تحقق، والإخفاق العراقي غير المستغرَب الذي وقع، موجِزاً اُموراً تستند إلى ثقافتي وخبراتي من خلال خدمتي الفعلية التي طالت 36 سنة، ومتابعاتي للأمور الستراتيجية حتى يومنا الراهن.
الإصرار الثنائي على الغزو
في أواخر سنة 2002 كانت القوات الأمريكية والبريطانية تتحشد جهاراً ولا تنكر عزمها لغزو العراق لإسقاط نظامه السياسي في قادم الأيام، تحت حجج إمتلاك العراق أسلحة جرثومية تُحَمّل على رؤوس صواريخ بالستية بعيدة المدى تكفي لإبادة الملايين من البشر خلال 45 دقيقة!!! والتي لم تَفِدْ معها إنكار العراق وعدم إمتلاكه ولو مليمتراً مُكعّباً واحداً من هذا السلاح المزعوم أو سواه، بعد أن جرّدته فرق التفتيش الدولية من أسلحته الكيميائية وصورايخه أرض-أرض بعيدة المدى كلّياً منذ عام 1992.
وفي تلك الفترة تواردت أنباء مؤكدة أن مجاميع من المعارضين العراقيين المتعاملين مع الدوائر المخابراتية الأمريكية والبريطانية، قبل أن يُدعَوا إلى “أربيل” ليغدوا تحت راية أحزاب كردية، ويستحضروا للإنطلاق من كردستان العراق لفتح جبهة حرب على 4 محافظات متاخمة للإقليم، ويقدموا على أعمال تربك الأمن الداخلي فيها بالتزامن مع الغزو.
وفي “هنغاريا” كان 2000 من شباب المعارضة العراقية يتدربون تحت إشراف ضباط عراقيين ذوي رتب عالية تحت إشراف وزارة الدفاع الأمريكية، لتشكيل فرقة خاصة تفتح جبهة حرب إضافية من إتجاه سيُحدد بعدئذ، أو تتوغل في أرض العراق بمثابة طابور خامس وتنفذ أدواراً وعمليات تدعم الغزو وتربك الأمن.
ومن العاصمة الجيكية “براغ” إنطلقت إذاعة المعارضة العراقية ينطق منها مذيعون مأجورون ومقدمو برامج عراقيون مجنّدون، يدفعون الجماهير للتعاون مع الغزاة تحت شعارات التخلّص من براثن الدكتاتورية الصدامية الشمولية، كي يتحقق للشعب العراقي مستقبل رغيد تحت مسمّيات الديمقراطية، الحرية، التعددية، الفيدرالية، والخدمات التي سترقاهم إلى مصاف دول العالم المتحضّر.
أما في أروقة مجلس الأمن الدولي، لم يستطع الثنائي الأمريكي- البريطاني إمرار مشروع قرار أممي مشترك لتخليص العالم من مخاطر أسلحة العراق المزعومة، بعد إعتراض شديد من دول عظمى وكبرى.. ولكنهما أصرّا على تكثيف حشود قواتهما البرية، البحرية، الجوية، وبعثا خمس حاملات طائرات عملاقة لترابط في مياه الخليج والشرق الأوسط.
وفي الساحة السياسية ظلّت القيادة العراقية منبوذة في أنظار الزعماء العرب وقادة العالم منذ نكبة الكويت، وأمست لا صاحب يسندها ولا صديق يدعمها.
وتردّد في وسائل الإعلام أن دولة الإمارات العربية عرضت على الرئيس صدام حسين أن يترك بغداد مع عائلته ليُستضاف لديها معززاً ومكرّماً، ويسلم العراق من الكارثة الآتية، ورفضه الشديد لذلك كما كان متوقعاً.
ووقتما حلّ مطلع شهر آذار 2003 أيْقَنّا 100% أن الغزو الأمريكي- البريطاني بات وشيكاً لا ريب فيه.
تقدير القيادة العراقية للموقف
رغم كل ذلك، ظلّ الرئيس صدام حسين صلباً كما عهدناه، يشيع في وسائل الإعلام المسيطر عليه آمالاً غير منطقية لا تمت إلى الواقع بصلة، مع التركيز على القوات المسلحة وتنظيمات حزب البعث، في حين واصل المتزلّفون والمنافقون وزائرو القائد الضرورة في القصر الجمهوري هتافاتهم وأهازيجهم وقصائدهم ومدائحهم الرخيصة وصراخاتهم المعتادة في سبيل إستحصال المكرمات والمكاسب الرخيصة، رغم إستجلابهم سخرية العراقيين وسخطهم خلف الأبواب الموصدة.
ولكن الأخطر من تلك المصائب، وإستناداً الى صديق عزيز كان برتبة “عميد ركن” لدى رئاسة أركان الحرس الجمهوري، نقل لي ما تفوّه به “قصي صدام حسين” -قائد قوات الدفاع عن “بغداد”- في لقاء خاص مع كبار قادة الحرس الجمهوري وضباط أركانهم الأقدمين قبل أيام من إنطلاق الغزو:-
((أيها الرفاق.. أنقل لكم أن القيادة العامة قدّرَت الموقف الستراتيجي، ورأت بما لا يقبل الشك أن العدوان قادم لا محالة، وأن الغزاة المنطلقين من أقصى الجنوب، لا يمكن أن يتقرّبوا الى ضواحي العاصمة إلاّ خلال مدّة لا تقلّ عن ستة أشهر!!! لأن كل محافظة جنوبية سوف تقاومهم فترة تتراوح بين 15-30 يوماً في كل مدينة، وتخوض قتالاً شرساً وسط الشوارع والمباني.. وهذا ما سيُحَسِّن موقف العراق ويُقوّي سمعته على مستوى العالم أجمع، عندئذ تتدخّل دول عظمى وكبرى بغية إيقاف الحرب، ليس لسواد عيون العراق، بل لمصالحها الذاتية والنفطية والإقتصادية)).
كل ذلك قبل أن يوجز “قصي صدام حسين” حديثه بغرور:-
((الأهم يا رفاق.. أن المنتصِر في هذه الحرب، هو من سيظل قائماً على قدميه في أرض بغداد))!!!!
مفاجأة اليوم الرابع المُحبِطة
وأضاف ذات الصديق العميد الركن حقيقةً مأساوية مفادها:-
]]في رئاسة أركان الحرس الجمهوري كانت القيادة والسيطرة مٌطَمْئِنة لغاية مساء اليوم الرابع من الغزو، حتى وردتنا معلومات تؤكد بأن طلائع القوات الأمريكية بلغت صحراء النجف وكربلاء، وأن إشتباكاً بنيران خفيفة حصل في ضواحي ناحية “ذي الكَفَل”، فكانت مُفاجأة مُحبِطة أنتجت تخبّطاً ملحوظاً في دوائرنا، وجعلتها ترتبك في توجيهاتها ونتخبّط في أوامرها، وأفقدتها القرارات المتأنّية أزاء تشكيلاتنا الميدانية المنفتحة جنوبي بغداد، وأمست تحَرِّك ألوية وكتائب من هذه المنطقة إلى تلك، رغم علمنا أنها محرومة من أي غطاء جوي، وستضحى تحت رحمة طائرات الهجوم الأرضي الحليفة، فوقعت في صفوفها خسائر كارثية خلال التنقّل فحسب[[.
التكافؤ المعدوم
في حين لا يمكن أن نستصغر من شأن الضابط أو الجندي العراقي، والذي تَمَرَّسَ على القتال ومجابهة الأخطار في أطول حرب خلال القرن العشرين ازاء إيران، وحرب غير متكافئة حيال التحالف المناهض للعراق سنة 1991 قبل إنسحابه القسري من الكويت، وحروب أخرى يطول الحديث عنها داخل الوطن وخارجه.
ولكن تشكيلات الجيش العراقي وعموم قواته المسلحة كانت مجهّزة ومُهَيّأة ومُدرّبة لخوض قتال حيال دول الجوار والمنطقة في أحسن الأحوال، وليس لمواجهة دولتين تمتلكان قوات مسلحة هما الأعظمان في حلف (NATO) ومصمّمتان لخوض صراع حيال الجيوش السوفييتية وحلف “وارشو” خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
وإذا ما تركنا تعداد الجنود الذين حُشِّدهم الطرفان للمواجهة الميدانية على أرض العراق جانباً، لنقارن بين أسلحتهما المتنوعة، لتوصّلنا إلى:-
لا وجه مقارنة بين الطرفين من حيث أسس التجنيد والإعداد والتدريب والخبرة بين مستويات الطوائف والأفراد في مناحيهم الثقافية والعلمية.
التفاوت الشاسع في نوعية الأسلحة والمعدّات وكفاءتها وأدائها بالإعتماد على التكنولوجيا الرائعة… فعلى سبيل المثال المدى المباشر لمدفع الدبابة الأمريكية “إبراهامز” يبلغ 4000 متر، يقابله مدى الدبابة العراقية الأفضل T-72 (2200) متر… أي أن بإستطاعة الدبابة الأمريكية أن تستهدف قرينتها العراقية بفارق (1800) متر… وهذا مثال ينطبق على العديد من الأسلحة الأخرى.
تمتّع الغزاة بتفوق الجوي كاسح في سماء العراق، بهليكوبتراتهم المسلحة وطائرات الهجوم الأرضي (F.G.A) المرافقة لقطعاتهم، محمّلة بمقذوفات دقيقة ذات مديات تبلغ (10) كلم فأكثر، وإستغناء العراق عن جميع قواعده الجوية وإخباء طائراته وسط البساتين والبراري، ناهيك عن عدم تمكّن القوات البرية عراقية إيجاد فرصة لِصِدام مباشر حيال الأعداء.
توفّر معدّات الإستمكان ذات الكفاءة والدقة العالية لدى الغزاة في تحديد الأهداف، وخصوصاً مدافع الميدان والهاونات.
التشويش اللاسلكي والألكتروني الدقيق ذات التأثير الهائل والإعماء الشامل، مقابل لا شيء لدى العراق، وإضطراره إلى إيقافها خشية أن تُضرب في مواقعها.
الإستطلاع الفضائي المتوفر لدى الغزاة وتثبيتهم ثلاثة أقمار أمريكية فوق العراق لإستحصال معلومات فورية مستدامة ودقيقة على مدار الساعة، تقابلها إستخبارات عراقية أمست شبه عمياء عمّا يجري في أرض الوطن.
خطط الطرفين
في مقولة “صن تسو” أحد قادة إمبراطورية الصين (2500 قبل الميلاد):- ((الهجوم يحقق النصر… والدفاع لا بدّ أن يُخْتَرَق ويُهزم))… ويؤيده في ذلك معظم ستراتيجيّي العالم االمعاصرين.
وهنا نتلمّس خطط قيادة الغزاة بـ”التعرّض” والأخذ بـ”المبادأة” ستراتيجياً وعملياتياً وتعبوياً، عكس العراق الذي إعتمد على “الدفاع المُسْتَكِنّ”، دون أية هجمات مقابلة مخطّط لها لإيقاف تقدّم العدو أو تأخيره وعرقلته بـ”الدفاع التعرّضي”، أو إرغامه على التوجّه إلى أماكن قتل بأسلوب “الدفاع السيّار”.
وما يؤسف له أن الخطّة العراقية إعتمدت على تصوّر غير واقعي لعدم إلمامها بواقع أسس العقيدة العسكرية الأمريكية، بأن قواتهم سوف تخوض قتال شوارع وسط المدن، فيكون لصالح العراق في إطالة أمد الحرب والتدخل الدولي المؤمّل لإيقافها، فيظل نظام الحكم قائماً، كما حصل عام 1991.
ولكن التحالف خطّط لينفذ عكس ذلك، ولم يقحم قواته في أية مدينة، إلاّ لتحقيق غاية تتطلب المجازفة، كالسيطرة على بعض الجسور أو الإستحواذ على مواقع ذات أهمية بالغة كالمطارات والقواعد الجوية.
حـشد الطرفين للقوات
يُعرَّف التحشّد، وهو أحد مبادئ الحرب، كونه:- “إستحضار قوات متفوّقة على ما لدى الخصم في الزمان والمكان المناسبين”.
النسبة العدديّة والكمّية للقوات المسلحة كانت مائلة لصالح العراق، لكن التحالف كان سيّد الأجواء، ومتفوقاً نوعيّاً على الأرض في جميع مواقع المواجهة، وبالأخص قبالة مدن العراق الجنوبية والفرات الأوسط، وقد حرّك القسم الأكبر من قواته ووجّهه نحو الهدف الستراتيجي الأعظم “بغداد”، فكان ذلك كافياً لجعل المجمل العام للتفوق العددي العراقي ضئيل التأثير.
ولمحدودية المعلومات المخابراتية والإستخباراتية لدى العراق، فإن قيادته العليا أمسى في موقف ستراتيجي مُحرِج، إضطرّتها لتفريق قواتها البرية في عموم بقاع الوطن، فنتج عنه ضياع مبدأ التحشّد، مودِياً الى محدودية الحشد المفترض في المكان المستهدف، بإستثناء بغداد وضواحيها.
أما مناطق العراق الغربية القصوى المتاخمة للحدود مع كل من “سوريا والأردن”، فقد اُخْلِيَتْ من أية وحدات قتالية إقتصاداً في الجُهد العسكري وإنتشاره، وخصوصاً على محور “الأردن- الرطبة- الأنبار- الفلوجة”، وذلك للإفادة منه في قواطع أكثف وأخطر، مما أفسح المجال لتلك الفرقة العراقية المدربة من المعارضين الذين دُرِّبوا في “هنغاريا” من التوغّل في أعماقها من دون مقاومة، وإستحوذت على قاعدتين جويتين في غربيّ البلاد، لتنطلق منهما طائرات التحالف نحو بغداد بيسر وسهولة وحمولة قصوى من القنابر، دون الحاجة الى طيران يستغرق وقتاً طويلاً.
الغزاة سادة الجو
في مقولة للجنرال الإيطالي “دوهيت” عام 1925، إذْ لم يزد تعداد الطائرات في عموم العالم عن بضعة آلاف فحسب، أنه سيأتي يوم تستطيع فيه الطائرات إرغام دولةٍ ما على الإستسلام من دون خوض حرب برّية أو بحرية… تلك المقولة المعبّرة عن بُعد بصيرة، لمّ إستشفّينا أن سلاح الجو الأطلسي كان الحاسم الأهم في حربَي “كوسوفو، وأفغانستان” مؤخراً، وقبلهما لدى تحرير الكويت (1991)، وأخيراً في غزو العراق موضوع بحثنا… فالسيادة الجوية التي تحقّقت خلاله، والدمار الهائل الذي أحدثته الطائرات والمقذوفات الدقيقة، هي مَن مهّدت لنجاح غزو العراق بسرعة لم تَدُر في مخيّلة معظم المحلّلين الستراتيجيين، وحققت للقوات المتحالفة الإندفاع السريع نحو مدن العراق الكبرى في الجنوب والوسط، قبل أن تقتحم “بغداد” بسهولة ويُسر مشهودَين ومُؤسِفَين.
يُعتَبر مصطلح “السيادة الجوية” أعلى مراحل التفوّق الجوي، ويعني أن تكون الطائرات والصواريخ والمقذوفات المُسيّرة متمتعة بالحركة وحرية الطيران والمناورة والتهديف، أينما ومتى وكيفما تشاء، ومن دون أن تقاطعها أخطار مقابلة، سواء أكانت طائرات إعتراضية أو مقاوِمات ثابتة أو محمولة على منصّات… وهذا ما تمّ تحقيقه في هذه الحرب التي شُنَّتْ على العراق، وفقاً لما يأتي:-
قرار القيادة العراقية قبل إندلاع الحرب، بعدم إقحام القوة الجوية وطيران الجيش فيها، بل إخفاء القاصفات (BOMBERS) والمقاتلات الإعتراضية (INTERCEPTORS) وطائرات الهجوم الأرضي (GROUND ATTACK) والسمتيات (الهليكوبترات) بين الأحراش والبساتين وحتى تحت الرمال… ولكن علينا أن نكون على يقين، بأن تلك القيادة لو كانت قد قرّرت عكس ذلك، فإن الطائرات العراقية جميعاً كانت إما تُدمّر أو تحترق على أرض القواعد والمطارات… وفي حالة إقلاعها فإنها كانت تُسقَط كالورق كما حدث في حرب 1991، فالفرق بين مستوَيات طائرات الطرفين ومزاياها وأدائها شاسع ولا تُقارَن.
تنوّعت أسلحة مقاومة الطائرات لدى، وأبرزها منظومات المقذوفات الصاروخية المنفتحة منذ السبعينيات في عموم العراق، والتي أكل عليها الدهر وشرب، فهي من منتجات الإتحاد السوفييتي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، وقد أثبتت محدودية فاعليتها حتى لما كانت بأوائل عهدها في حرب فييتنام (1965- 1975)… وثانيها مدافع مقاومة الطائرات، وبالأخص (57 ملم) والتي لا يتعدّى مداها (6,6) كيلومتراً، والاُخريات دون ذلك… وثالثها منظومات المقذوفات الصاروخية من الطُرُز الحديثة نسبياً، وأفضلها الفرنسية “رولاند” ذات الأداء المُتمَيّز، ولكن سلبيتها تكمن في محدودية مداها البالغ (5,6) كيلومتراً.
ولتفادي تلك الأخطار غير الخطيرة، فقد قرر الطيارون الأمريكيون والبريطانيون التحليق بإرتفاعات أعلى من مديات الأسلحة العراقية المقاومة الطائرات، إذْ هم قادرون على ضرب الأهداف الأرضية من دون أية إعاقة.
ولذلك أضحى تأثير المقاومات العراقية تجاه العدو أقرب لمستوى الصفر، بل أنّ ملايين القذائف التي أُطلِقَت في سماء بغداد وعموم العراق كان تنفيذاً لأوامر القيادة العراقية، وأنها إنفلقت هباء منثوراً ولم تَفِدْ في إصابة أي هدف جوي معادٍ.
إستثمار التحالف للتشويش الألكتروني الساحق والمتمتع بإمكانات هائلة، وبالأخص الطائرات الإختصاصية للحرب الألكترونية (ECM) وطائرات (AWACS) العملاقة، والتي أوقفت عمل الرادارات العراقية ذات المديات البعيدة، أو الرادارات متوسطة المدى لدى قواطع الدفاع الجوي، أو قصيرة المدى المُلحَقة بالمنظومات الأرضية… وبذلك شُلَّت المقاومات العراقية إلاّ من رمي إطلاقات تعتمد على العين المجردة والنواظير المقرّبة، والتي لم تُجْدِ نفعاً سوى الكسب الإعلامي وأنظار عامة الناس.
التدمير الهائل لقيادات قواطع الدفاع الجوي العراقية منذ الليلة الأولى من الغزو، وتواصله في الأيام اللاحقة، بحيث لم يَبْقَ من يقود مقاومات الطائرات أو يديرها ويسيطر عليها بشكل مركزي لمجابهة هذا العدد الهائل من الطائرات والأهداف الجوية ذات القدرات الممتازة.
التقدم في أرض العراق سراعاً
إحتوت التشكيلات الحليفة التي إقتحمت العراق، دبابات ومدرعات أو مشاة محمول في متن عجلات قتال مدرّعة، أو كانت محمولة جوّاً وسط هليكوبترات نقل ضخمة، أو طائرات نقل تعبوي (C-130) و(V-22) تحقق قابلية حركة ومرونة عالية… ولما كانت المناطق الجنوبية والوسطى من العراق منبسطة ومحدودة الموانع الطبيعية، فإن القوات البرية الغازية كانت قادرة على التحرك في كل محاورها، وبالأخص أن الغزاة وَقّتوا عملياتهم مع موسم الربيع الذي يندر فيه هطول الأمطار في جنوبيّ العراق ووسطه.
ولمّا تمركزت الوحدات العراقية داخل المدن، ولم يكترثوا بحماية الطرق الخارجية بدوريات راجلة وآلية، ولم يزرعوا كمائن يعوّقون تقدم الأعداء عليها، ولم يُنشِئوا موانع إصطناعية و يخرِّبوا طرقاً ويفلقوا جسوراً لتعويق العدو وأرتاله الإدارية، لذلك إنطلق الغزاة من الكويت نحو البصرة، وسار الأمريكيون نحو الوسط بسرعة هائلة حيث حققوا تماسهم الأول مع وحدات الحرس الجمهوري، قبل أن يتواجهوا مع المدافعين في تخوم العاصمة.
ويبدو أن الأمريكيين بشكل خاص، إستذكروا خبراتهم المتراكمة والمحتوية على الدروس والمبادئ التي تحقق سرعة قصوى في صفحة التقدم، وقد يكون أهمها:- المعلومات المستدامة، الإسناد الجوي، المباغتة، إِدامة الزخم، التوجيه الواضح، ردّ الفعل السريع، توازن القوة، التعرّض المستمر، وتأمين الشؤون الإدارية.
تخطّي الغزاة للأهداف الثانوية
مصطلح “التخطّي” يعني إبقاء القوة المتقدمة لموضع دفاعي معادٍ تحت الرصد وتثبيته بنيران أسلحة ذات مديات مناسبة، ومواصلة الإندفاع نحو الهدف الأهم.
القوات الغازية لم تتوقف كثيراً في توغِّلها بأرض العراق منذ فجر 20 آذار 2003 بإتباع أسلوب التخطّي، حيث لم تشغل نفسها إلاّ بتثبيت ميناء “أُم قصر” وتَخَطّيه، وإندفعت نحو الزبير والبصرة، فيما سلك القسم الأكبر من القوات الأمريكية طريقها نحو الناصرية ثم السماوة، وبلغت طلائعها محافظتي النجف وكربلاء، تاركين العديد مدناً وأقضية ونواحٍ كبيرة تحت رحمة نيران بضع دبابات ومدرعات وطائرات، قبل بلوغهم عدداً من المناطق الغربية والجنوبية من بغداد.
وتبدو أن القيادات العملياتية العراقية لم تكن على دراية باُسلوب “القَفْزات” الذي مارسته القوات الأمريكية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية في أكثر من جبهة قتال، وخصوصاً في الشمال الأفريقي وبعض آوروبا حيال القوات الآلمانية المعروفة بكفاءتها، وكذلك في حرب كوريا (1950ـ 1953) وغيرها، لذلك فوجئ العراقيون بالغزاة وقد بلغوا صحراء النجف في غضون أربعة أيام.
وتَجَلَّتْ المجازفة في ترك الأمريكيين مئات الكيلومترات من جنوبي العراق خلفهم، ولكنها كانت مجازفةً ذات حسابات دقيقة، إلى جانب إبقاء تلك المناطق تحت رصد جوي يحوم فوق دورياتهم الأرضية، ناهيك عن معلومات مؤكدة بأن العراقيين المتمركزين وسط المدن سوف لا يتركون مواقعهم إلى البراح، وذلك تنفيذاً للأوامر المشدّدة العليا الى القيادات المحلية.
الإتصــالات اللاسكية والسلكية
أُعتُبِر صنف المخابرة/الإتصالات منذ الحرب العالمية الأولى بمثابة العمود الفقري لأي جيش، كونه يؤمن الإتصالات السلكية واللاسلكية، والتي بدونها يستحيل إيصال الأوامر الفورية والسريعة إبتغاء تحقيق القيادة والسيطرة على القيادات المرؤوسة في الوقت المطلوب.
قُبَيلَ إندلاع هذه الحرب، أصدرت القيادة العامة العراقية توجيهات مُلزِمة بضرورة تطبيق “الصمت اللاسلكي” على الأجهزة اللاسلكية، بل إبقائها مفتوحة للإستماع ليس إلاّ، شريطة أن لا يُسمَح بالتحدث مطلقاً الاّ عند الضرورة القصوى، وبالأخص عند حصول تماس مباشر مع العدو.
ولكن الذي حصل للأجهزة اللاسلكية ذات المديات البعيدة لدى القيادات العليا، أن التشويش الألكتروني المعادي جعل منها مجرد كُتَل معدنية لا تُجدي نفعاً… أما من شغّل جهازه اللاسلكي قصير المدى ولم يَنَلْهُ التشويش، فقد قُصِفَ بعد دقائق من التحدث به… أما المُنتبهون للحقيقة المُرة، فقد آثروا السلامة وأغلقوا أجهزتهم.
لذلك لم يَبْقَ في الساحة سوى الإتصالات السلكية المعتمِدة على البدالات المحورية الخاصة والخطوط المدنية الإعتيادية… ولكن البدالات اُستُهْدِفَتْ في المدن الجنوبية باليوم الثاني من الحرب، قبل تدميرها بالأيام التالية لدى المحافظات الوسطى ثم معظم بدالات بغداد، فلم تَبْقَ إتصالات محورية ولا هواتف مدنية عند تقرّب الغزاة من العاصمة.
أما الهواتف النقالة “ثُرَيّا” المحمولة والمرتبطة بالأقمار الصناعية، والتي جُهِّزَتْ بها القيادات العليا وبعض قادة الحرس الجمهوري بها حصرياً، فإن حالها لم يكن أفضل من أي جهاز لاسلكي.. بل والأخطر أن الهاتف “ثريا” بحكم تردداته الكهرومغناطيسية كان يُرشِد الطائرات الحليفة نحو أي موقع ذي أهمية بالغة، ولذلك اُغلقتْ جميعاً يوماً بعد يوم، فحُرٍمت القوات المسلحة العراقية من أية إتصالات سلكية أو لاسلكية، ولم يبقَ لديها عند تقرّب الأمريكيين الى ضواحي “بغداد” سوى ضباط الإرتباط والمعتمدين لإيصال المعلومات وإبلاغ الأوامر الى المرؤوسين، فتدَنَت مستويات القيادة والسيطرة لدى الجانب العراقي الى حدّ النكبة.
التعاون بين الصنوف
يعتبر التعاون المبدأ التاسع من مبادئ الحرب العشرة، والذي يفرض ذاته في جميع صفحات القتال التعرضية منها والدفاعية (التقدّم، الهجوم، الدفاع، والإنسحاب) على حدّ سواء… ويعني أن يُسانِد صنف من القوات المسلحة صنفاً أو صنوفاً أخرى بغية تَوَخّي الهدف المُبْتَغى بأسرع وقت وأقل جهد وأدنى التضحيات والخسائر، ويتجلّى كثيراً بشكل خاص في صفحة التقدم لتحقيق السرعة.
لا يمكن أن نستغرب تطبيق القوات الغازية لهذا المبدأ، إذْ لها وخبرات متراكمة في حروب عظمى، بما فيها الحربان العالميتان الأولى وحروب إستعمارية لا تعدّ ولا تُحصى، وكونها على أهبة الإستعداد على مدار ساعات اليوم بإنذار قصير، وخصوصاً ضمن حلف (NATO) خلال سنوات “الحرب الباردة”، وخوضها عدداً من الحروب في بقاع عديدة من العالم.
ولا نستصغر في ذات الوقت من شأن القوات المسلحة العراقية التي اُقحِمت أو أُضطُرّت في حروب عديدة ومارست قتالات متنوعة، داخلية كانت أم نحو الخارج، بدءاً من عقد العشرينيات ووصولاً الى حرب فلسطين، حرب حزيران، حرب تشرين، حتى تُوِّجَتْ بعدها بثلاث حروب متتالية، حتى أُقحِمت في هذه الحرب غير المتكافئة.
وقد تأتي على رأس قائمة متطلبات تطبيق مبدأ التعاون، كل من التدريب المُتْقَن، توفّر المعلومات، الإتصالات الجيدة والأمينة، والتي توفرت لدى القوات الغازية، على عكس القوات العراقية للأسباب الآتية:-
الأضرار التي لحقت بالجيش العراقي وجعلته يتراجع في كل شيء، وبالأخص عند كسر فقرات عموده الفقري لدى إنسحابه الكارثي من الكويت سنة 1991، والحصار المدمر الذي فُرِضَ على عموم العراق 12 سنة متوالية.
حرمان القوات العراقية من التدريب المشترك لعوامل عديدة يطول الحديث عنه.
الفساد الذي دبّ في صفوفها، وتراجع تقاليدها المتقنة وإنضباطها.
إنشغال كبار القادة بأمن النظام السياسي كأسبقية اُولى، ولربّما الوحيدة.
محدودية المعلومات عن الغُزاة وتخطيطهم العملياتي والتعبوي، والتي لم تكن القيادات العراقية العليا سوى على إطلاع سطحيّ عنها.
عدم تبليغ القادة المرؤوسين بالحقائق والأخطار القائمة، تحت ذريعة التأثير السلبي على المعنويات، وإتباع ذات النهج المخطوء خلال حربي الخليج الأولى والثانية.
إذن، فالقوات الغازية سارت بكفاءتها المعهودة وبأقصى سرعة نحو أهدافها الثانوية قبل تتقرب نحو بغداد، بتعاون دباباتهم مع مشاتهم الراكب، تدعمهم مظلة جوّية فعالة نهاراً وليلاً، وترافقهم مدافع ذاتية الحركة تؤمّن نيراناً ثقيلة خلال دقائق عند اللزوم، وتخدمهم تدابير الوقود والأرزاق والماء والعتاد والإخلاء الفوري للجرحى والمرضى والقتلى، وتصليح العجلات والأسلحة المعطوبة أو إخلاؤها بسرعة.
أما لدى العراق المُدافع عن وطنه، ومن دون إسهاب في التفاصيل، فقد كانت إمكانات تحقيق مبدأ التعاون في أدنى مستوياتها.
أمثلة مؤلمة
والآن فليسمح لي القارئ الكريم أن أسرد له بعض الأمثلة عن ركاكة التعاون:-
في حالة توفّر معلومات إستخبارية لدى القيادات العراقية، فإن التوجيهات الخاصة لم يكن بالمستطاع إيصالها إلاّ باُسلوب الإرتباط العقيم، ولربما بعد إنقضاء ساعة أو عدة ساعات على المعلومة، ومن المؤكد أن تكون معدومة الفائدة، لأن العدو كان قد ترك ذلك الموقع وإنتقل إلى آخر.
تحدث لي ضابط برتبة ملازم أول من إحدى كتائب مدفعية الحرس الجمهوري المنفتحة في منطقة “الحَصوة”، أن مدافعه التي كانت من الطراز المسحوب عيار 130 ملم زنة 7 أطنان، لم تُجَهَّز سوى بساحبات من إحدى الوزارات المدنية، وكانت ذات قدرة محدودة على التحرك خارج الطرق… فإنه كُلِّفَ أكثر من مرّة، بأن لا يرمي من الموضع الأصل، بل يُحرِّك مدفعاً واحداً فقط الى موضع مؤقت، ولا يقصف منه سوى ثلاث قنابل قبل الإسراع بتركه!!! حيث أُوعِز له أن يتخذ موضعاً في العراء بالقرب من بلدة “المُسيّب”، لأن معلومات أفادت أن عدداً من عجلات القتال الأمريكية شوهدت واقفة هناك في صبيحة ذلك اليوم… أما الأمر فقد إستلمه بعد الظهر!!؟؟
وإلتقيتُ ضابطاً برتبة “مقدم” كان آمراً لبطرية مدافع 75 ملم مقاومة طائرات في ضواحي سدّ حديثة… قال:- أنه لم يتلقَّ أية أوامر من أي مرجع جراء الصمت اللاسلكي، ولم تكن لديه أية معلومات عن مجريات الحرب إلاّ عن طريق الإذاعات الأجنبية، ولم يُنذَر مطلقاً طيلة أسبوعين حتى حلّقت في سماء المنطقة عدد من الطائرات الأمريكية الهجومية طراز A-10 باليوم الخامس عشر للحرب، وقصفتهم!!!!
وإذا كانت الأمور قد سارت كذلك، فقِسْ على ذلك!!!
الإيمان بهدف الحرب
كان المفترض أن تكون عزيمة القادة العراقيين والضباط والمراتب على القتال بأعلى درجاتها،لأنهم يدافعون عن وطنهم وعوائلهم أزاء غزاة يجهرون بإحتلال العراق.
ولكن إيمان معظمهم بهدف الحرب كان متدنّياً لعدة أسباب:-
خوضهم لحروب متتالية لأهداف بانت أنها غير مُقنِعة، ولا سيما أن رأس النظام تراجع عنها لاحقاً، مثلما حصل أزاء إيران، أو فور الإنسحاب المدمّر من الكويت، وإستمرت التراجعات في سنوات الحصار.
الخطاب الإعلامي لإمتداح شخص الرئيس صدام حسين من دون العراق، وترسّخ المشاعر في صفوف القوات المسلحة بأنهم يدافعون عن نظام الحكم، وليس الوطن.
إزدواجية القيادة في المستويات العسكرية، بين قائد عسكري يمتلك صلاحيات قانونية وفقاً للتقاليد العسكرية، وبين قائد سياسي مُنِحَ صلاحيات إستثنائية كون حزب البعث هو من يقود الدولة، والتي قد يستطيع بإستثمارها تحجيم دور الأوّل، وبالأخص حينما يكون متشبّثاً بمنصبه ومستفيداً منه ومُطيعاً للحزب الذي من دونه لم يكن يحلم بهكذا منصب.
الفساد الإداري والمالي والمحسوبيات التي عمَّت التشكيلات والوحدات العسكرية وعموم دوائر الدولة، أفقد أواصر القيم والتقاليد والثقة التي ظلّت سائدة في صفوف القوات المسلحة في الماضي وحتى خلال سنوات الحرب ضد إيران.
كان المُلاحَظ خلوّ الوحدات الميدانية من أصحاب النفوذ والثراء وأولادهم، والذين ثُبِّتوا لدى الدوائر العليا والأجهزة الأمنية حفاظاً على حياتهم وراحتهم، وبذلك إستشعر الشاب الإعتيادي أن الدولة تدفعه نحو الموت، فيما يتمتع المُعزّزون بنظرة مغايرة.
تأثير وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية على مشاعر العراقيين قُبَيل الغزو وخلاله، بأن قواتهما آتية إلى العراق لتحريرهم من نظام دكتاتوري شموليّ، وأن حياتهم القادمة ستكون أشبه بالجنان، وسيتمتعون بالديمقراطية والتعدّدية حالما يُحررون من الحزب الأوحد والقبور الجماعية، والحروب أزاء دول الجوار والمنطقة.
ومن ناحية الحرب النفسية فقد نصب الأمريكيون إذاعة خاصة تنطق باللغة العربية واللهجة العراقية تبث من طائرة نقل، وتبث توجيهات وإغراءات مصحوبة بملايين المنشورات الورقية الناصحة للجنود العراقيين بالتوجّه الى مساكنهم وإحتضان أولادهم.
وصاحب ذلك قذف الألوف من “بطاقات المرور” التي يستطيع حاملها تسليم سلاحه لأي جندي أمريكي كي لا يتعرض إلى أي أذىً… ولما كانت الإتصالات معدومة بين التشكيلات الميدانية العراقية، فإن تأثير الإذاعة والمنشورات والبطاقات كان مدمّراً للمعنويات، بل حافزاً كبيراً لمُؤاثرة السلامة الشخصية والنأي عن القتال، بحيث فُرِغَت الوحدات المقاتلة والساندة من معظم جنودها، ولم يَبْقَ سوى عدد ضئيل من الضباط والمراتب في العديد منها.
إستهداف “بغداد”
ستراتيجية إستهداف رأس الدولة كأسبقية أولى سجّله التأريخ العسكري لصالح “جنكيزخان” مؤسس الإمبراطورية المغولية الذي قضى على ثلاث إمبراطوريات كبرى في غضون عفدين من القرن 13، وقتما شكَّلَ “قوة خاصة” من الفرسان، مهمتها الأساس ترك ساحة المواجهة بين الجيش المغولي قبالة عدوّه، والإندفاع بأقصى سرعة خارج المدن الكبيرة والصغيرة، وطوي مئات الأميال من دون توقّف مستهدفة عاصمة العدو مباشرة، حيث الملوك والوزراء، مُباغِتَة إياهم في عقر عروشهم وقصورهم، كي يرضخوا إما لمواجهة الموت أو الإستسلام أو الفرار، وبذلك تتهرّأ العروش وتتفتت أوصال الدولة وتغيب القيادة والسيطرة.
وإذا عكسنا ستراتيجية “جنكيزخان” على مجريات غزو العراق، فإن القيادة الأمريكية قدّرت أن في العراق شخصية واحدة يمتلك القرار والكلمة الأخيرة على سلطاتها، فإذا ما أُزيح أو إختفى فإن إسقاط نظامه وإحتلال البلاد يضحيان تحصيل حاصل.
أما القيادة العراقية فقد توقّعت قصفاً جوياً حليفاً تستغرق بضعة أسابيع، أسوة بحرب الخليج الثانية (1991)، وتصوّرت أن حزمة من مقذوفات “توماهوك” التي إنهمرت على أحد قصور الرئيس”صدام حسين” صبيحة يوم 19 آذار 2003 هي البداية، وأن الضربات الجوية اللاحقة بالقاصفات والمقذوفات مهما طالت يستحيل أن تُسقِط النظام.
ولكن الرئيس العراقي بصحبة قادة سياسيين وعسكريين لم يستشعروا براحة بال طوال أيام الحرب، إذْ كان يتنقل من مسكن الى آخر بمعدلات يومية، وذلك ما حَدّت من قيادته وسيطرته وإصدار توجيهاته ومدى تنفيذها لمعالجة المواقف الخطيرة… فيما واصلت طائرات الغزاة تدمير البنى التحتية الداعمة للمجهود الحربي، والتي طالت مؤسسات التصنيع العسكري والهواتف المدنية والقيادات الحزبية والأمنية ومحطات توليد الطاقة ومصافي النفط، مُضافة إلى القواعد الجوية والثكنات العسكرية حتى لو كانت فارغة.
وفي المنطقتين الجنوبية والفرات الأوسط إستطاع الأمريكيون تحديد أو تجميد حركة القوات العراقية بإفراز مجاميع صغيرة مدرعة وآلية مسندة بالطائرات قبالتها، وتَخَطّوا مدناً عديدة متوجّهين لحصار بغداد من إتجاهاتها الأربعة.
هول الدمار
إضافةً الى الدقّة المتناهية في ضرب الأهداف الستراتيجية والقصور الرئاسية ومواقع القيادات العليا بذلك الشكل المُريع، فقد تَعَرَّضَتْ وحدات الفرق البرّية، وبالأخص تشكيلات الحرس الجمهوري المنفتحة في ضواحي بغداد، لقصف ثقيل غير مسبوق وبمعدلات يومية، وبأثقل القاصفات العملاقة (B-52 … B-1 … B-2) سواء بقنابل ذات الإسقاط الحر زنة 3- 7 طن، ووصولاً الى القنبلة الضخمة المسمّاة “اُم القنابل” (MOTHER OF BOMBS) بوزن 5,9 طن، والتي صمّمت وأُنتِجت خصيصاً لهذه الحرب، فقد كانت الواحدة منها، حسب أقوال عدد من ضباط الحرس الجمهوري، تُخْرِج جحفل معركة يحتوي عشرات الدبابات وعجلات القتال والمدافع وأسلحة مقاومة الطائرات من ميدان القتال قبل وقوعه، تاركةً إياه أكواماً من المعادن والسبائك، إضافة لإحتراق الأجساد وتهرّئها يشكل مرعب، يصاحبه تفجّر الأعتدة المُكدّسة وسط الحفر، فيفرّ المتبقون على قيد الحياة والمصابون، ولا يعود معظمهم الى ساحة القتال مجدداً… أما الأسلحة الثقيلة التي لم تُصَب أبدانها، فإن معدات التسديد والتوجيه غير المعدنية المنصوبة في جوفها، فإنها تتَكَسَّر وتغدو غير ذات فائدة.
ولذلك، بلغت القدرة القتالية لعدد من ألوية الحرس الجمهوري المنتشرة في ضواحي بغداد جراء القصف لوحده، أقرب ما يكون الى الصفر، أو 15% في أفضل الوحدات… ولكل ذلك أضحت المحاور المتجهة نحو العاصمة أمام القوات الأمريكية، مفروشة بأبدان متناثرة من بقايا الحرس الجمهوري.
لقد كانت حرباً مريرة وغير متكافئة بكل ما في العبارة من معنى.
كبار القادة يغيبون عن الأنظار
لم يقترف القادة في عموم التأريخ خطأً مشابهاً لِـما إقترفه قادة نظام الحكم في بغداد، فَقُبَيلَ الغزو تركوا قصورهم وإستقروا وسط دور مجهّزة مسبقاً وسط أحياء مكتظّة بالسكان، وكذلك عملت القيادات العليا للدولة وحزب البعث ورئاسة أركان الحرس الجمهوريّ ودوائر وزارتي الدفاع والداخلية والأجهزة المخابراتية والأمنية والحرس الخاص، رغم كونهم هم المسؤولون الأوّلون عن ضبط الاُمور في بغداد، وقلّدهم في ذلك الوزراء والمحافظون وقوات الطوارئ وفصائل فدائيو صدام، حتى أمسى عدد من أحياء العاصمة والمدن الكبرى مليئة بما سمّيَ بـ”المواقع البديلة”، ناهيك عن إجراءات أخرى صعّدت مشاعر المواطنين السلبية تجاه قادة النظام، لَـمّا رأوا أنفسهم قد أضحوا دروعاً بشرية وأهدافاً للهجمات الجوية الفتاكة.
وجاءت النكبة الكبرى حينما أوشكت بغداد على الإنهيار، فبدلاً من إلتزام أولئك القادة بمواقعهم وقيادة من بقي تحت إمرتهم والإستشهاد في سبيل الوطن، فقد سابوها هاربين، بعضهم إلى خارج العراق، وآخرون إلى أماكن لا تستجلب الأنظار وختلوا في بيوت أقربائهم ببغداد أو البعض من مدن الوطن وقراه، وكأنهم كانوا قد خطّطوا لذلك مسبقاً، وما أن إنقضت فترة قصيرة حتى إستسلم معظمهم إلى سلطات الإحتلال، وهذا ما كان الغزاة يتمنّونه.
وبذلك ساب البلد بين أيدي الإحتلال البغيض، وإصطفّ إلى جانبه الساسة الذين أتوا بعد زوال غبار الحرب، وإستغل الرعاع وزعماء العصابات وعتاة المجرمين وأرباب السوابق وأولاد الأزقة الظروف وزوال مؤسسات الدولة وأمسوا هُم سادة الشارع العراقي، فأُقتُرِفَت أبشع أعمال السلب والنهب والسرقات والحرق والتدمير والقتل بالجملة لأعوام متتالية، والتي لم تضع أوزارها لغاية يومنا الراهن، وتبدو أنها ستتواصل في المستقبل المنظور، ما دامت الأسس التي تشكّل عليها نظام 2003 السياسي بعيدة عن الوطنية العراقية وخدمة الشعب، مع سبق الترصّد والإصرار على خدمة الأجنبي ودمار الوطن والخراب المخطط لمستقبل وأجياله.