23 ديسمبر، 2024 6:55 ص

ضوء .. يشاكله الظلام…/تضاد آيل للدلالة – قراءة في منجز الشاعرة :  نجاة عبدالله

ضوء .. يشاكله الظلام…/تضاد آيل للدلالة – قراءة في منجز الشاعرة :  نجاة عبدالله

1-2
تتوقف ..
قراءتي عند التشاكل الاتصالي بين الضوء / الظلام، في المنجز الشعري المتوفر لدي من نتاج الشاعرة نجاة عبدالله:(ذات وطن)(حين عبث الطين بالطين )
( قيامة أستفهام).. وما يصاحب الضوء والظلام من إنزياحات دلالية..
وتشققات في الملفوظ ،لكن لا الأنزياح ولا التشقق ،يتموضعان خارج القطب
الواحد المزدوج القيمة : ضوء/ ظلام .
إلماح:
مادام المطر يفترس الشبابيك ..بالقصيدة وحدها تقاس المسافة..من طيف الى طين… ..في زهرتها المطرزة
(على ورقة نائمة،رماها النادل
            الجمرة تفاحة منطفئة..)..
فالطغاة …لايتركون تمرة على أسوار منسية…لكن القصيدة تمنح المدى سعة قلب الأم وتحديدا أم تتضوع ُمن(قارورة الدمع) : قلادتها…لذا أستعانت الشاعرة نجاة بعذوبة الرحيل ..الى البلد/المرآة…ولاخريطة لها سوى.. (قيامة استفهام)..وهاهي الشاعرة (تقشر كتاب العراق)..وحين نسألها أيتها الشاعرة في هذا السواد المدّمى.. من أنتِ؟ تجيب قصيدتها:
(أنا أم الفقراء
أطرّز دشادشهم
بالصحون الفارغة )
..جرى ما جرى (ذات وطن )..لحظتها  من نافذة قطار (جونسنفل) في ذلك البلد الثلجي،أطلت على وطنها السعيد العراق عليه السلام
(*)
مفتاح الأبواب:
(انكسر القلب بخطأ المرمى
فظن الزجاج ان العالم منقسم الى :
ضوء وعتمة وجدار/ 28/ قيامة استفهام )
كقارىء منتج،أستوقفني مابين القوسين،وأغواني بإعادة قراءتي للمجاميع الشعرية الثلاث المتوفرة لديّ وهي مهداة من قبل الشاعرة منذ 2012..وها أنا أنصبُ مابين القوسين بابا ،وأدخل منه
متنزها في الخطوات الشعرية الثلاث للشاعرة نجاة عبدالله..
أعودُ الى مابين القوسين ،سأفصل ُ قماشته بالطريقة التالية :
القلب ——- المرمى
الزجاج ——– العالم
العالم ————— ضوء / عتمة / جدار
وسأضيف التنضيد التالي وهو نتاج قراءتي لمابين القوسين
الزجاج ———- الجدار
الجدار————- العتمة
والمساواة بين الزجاج والجدار ،متأتية من تجربتي الشخصية، فالزجاج أراه دائما جدارا بطبعة منقحة بالشفافية ،فمن خلال الزجاج نتواصل بالعين أو بإيماءة اليدين، ويبقى الزجاج جداراً
أو بابا قد يقفل  ولايمكن أختراقه…والمساواة بين الجدار والعتمة يتوفر بغياب الضوء ..من هنا سأرى الى النص الشعري المقوّس ،انه يشتغل على مثنوية :ضوء/ ظلام، ومن جهة ثانية مابين القوسين يحيلني متسائلا الى(صوت) وهي قصيدة قصيرة
(يتكلم كثيرا هذا الحائط
من دون أن يترك آثاراً
على صورنا الفوتوغرافية /36)
هنا كلام الحائط، عاطل عن انتاج أية مؤثرية ،على ماضٍ مثبت في ورق الفوتوغراف .ان كثرة كلام الحائط في تضاد اتصالي مع كثرة – فوتو. بدورها الصور الفوتوغرافية، تحيلني الى البيت في المقطع الرابع من..(يكتفي الأزرق بالجنون) :
(لايخلو البيت من الاحلام
غاية الأيام
أن تهدأ مدفأة البيت /50)..والجدار يحيلني الى جدار مصابٍ بالنسيان (يكتفي الحائط بالنسيان /50)..
أعود الى العينة الشعرية التي قوستها في البدء، ثم صيرتها بابا شعريا لمنجز الشاعرة،هاهي قراءتي المنتجة،تصطاد باباً آخر،أعني الباب التوأم
(ليت الشمس التي
أفتتحت صباحَك
أول الحب
هي ذات الشمس التي
تشرق على وجهي
وأنا أدسّه في قبعتك،
وأنصتُ لتفاصيل المساء/ 26- قصيدة محاولات في الربيع)..
الذات الشاعرة، تريد الشمس ذاتها ولكنها شمس مِن وراءِ حجاب فالوجه مدسوس في قبعة العاشق ،والذات الشاعرة تنصت لتفاصيل أول الليل : المساء، وهكذا نحصل على صورة شعرية من مفصلين ، المفصل الاول نكون أمام شمس صريحة خالصة، إنها شمس أول الحب ،أما المفصل الثاني من الصورة فهي شمس أول الليل ..ونلاحظ ثمة شفرة شفيفة، تومىء لغياب ربما: تشرق على وجهي وأنا أدسهُ في قبعتك !! ألا تشير شفرة هذين السطرين الى غياب العاشق عن معشوقته؟
(أقطعُ وردة ً
والرجل الغريب
يقطف رأسا،
نسير في ذات الشارع ،
ونشرب من ذات الماء،
وننام بأحضان أطفالنا.
في /16- ذات وطن) مابين القوسين يشكل اتصالية تضاد،لكن هذا التضاد خادع، فكلاهما :المرأة / الرجل يمارسان القسوة مع الكائنات : المرأة لاتقطف بل تقطع وردةً والرجل كأنه الحجاج الثقفي في خطبته (أرى رؤوساً ،قد أينعت وحان قطافها) ورغم انزياح فعليّ المرأة والرجل فهما معاً في الشارع والمرأة وأحضان الطفولة.. والمغيّب هنا المتسبب بهذا الاتصال ،وربما يكون في كيفية تناولها للوجود.. هل السبب ان المرأة وحسب قولها (لاأجيد النظر الى قمته الخضراء/ وعيونهُ الداكنة/ص25)وتقصد هنا الجبل ،ثم حين تكبر المرأة تعي..(لكني لاأجيد النظر الى روحي المضيئة/ 25- ذات وطن)..هكذا..ومن خلال تكرار قراءتي للعينات المتوفرة في المنجز الشعري، رأيتُ مفردة ضوء أو نهار أو بياض..لاتكون مفردة صريحة الشحنة، بل ان بياضها تشوبه الظلمة بأندراجها اللوني وكذلك ماينوب عن الظلمة لونياً..

( 1)
ليس هناك من برزخ بينهما: الضوء/ الظلام…الابيض/ الاسود
ويتضح ذلك في مجموعتها (قيامة استفهام )  
(إنه الطاووس
من يمتص حضورك
ويطلق السواد /17)..
المثبتّ مابين القوسين لون واحد : السواد ،وهناك ما ينوب عن بقية الالوان :  إنها ألوان الطاووس الزاهية ،ذات المؤثرية السالبة ،
التي تستلب بياض الحضور الناصع للشخص المعني ولاتكتفي..بل تطلق السواد..والطاووس هنا له  بعلاماتية متعارف عليها مجتمعية، أعني الغرور ..
(القمر يبحثُ طوال اللعبة
عن حجر يعلق عليه
 غيابه ُ الطويل ..
بينما الضوء.. يُغلق أصابعه
لئلا ينمو قمرٌ آخر/ 18)..مابين القوسين صورة شعرية، عالية الخصوبة، نحن أمام شفرات شفيفة، تدعوننا للمشاركة في تركيم فائض دلالي للصورة الشعرية الغرائبية..والحل الوحيد أمام الضوء 
غلق الاصابع للتخلص من قمرٍ بديل ..!!
   من قصيدة (أسود..أبيض)..سأنتخب مقاطع وأعمدُ الى تقطيعها وترقيمها،لتطيوعها ضمن قراءتي المنتجة
     -1-
(نصف التلفاز أبيض
نصف الممثلة أسود
يتوهج الثلج بينهما
لأستنشق يباس الظل)..
نلاحظ ان اللون الابيض قسيم الاسود ، كما نلاحظ ان بقية الالوان مغيبّة..وثمة برزخ بين النصفين هو الثلج، لكن هذا الثلج يتضادد مع ثلجيته بالتوهج..!! يتوازى معه على الجهة الثانية، ان الظل منجرد عن طراوته (يباس الظل)..وأستحال َ لا بالفعل بل بالقوة الى هواءٍ يستنشقه السارد أو الساردة !!
      (2)
(نصف الغيم أسود
نصف المطر أبيض
تتكسر الاغصان
لكنما الريح..محايدة دوماً)
نفس المناصفة تواجهنا، وهنا يتششقق التساؤل التالي، هل من جراء هذه المناصفة ،يكون الثمن الباهظ مدفوعا، من الشجر !!
وكأن الريح محايدة دوما ؟! ونلاحظ ان اللون الاخضر للأغصان
مغمور بلوني الغيم والمطر..
        (3)
(لم أرَ قوس قزح
فكان فمي أبيض
والصورة سوداء)..
لوكانت الساردة ،حازت رؤية قوس قزح ببهجة ألوانه، هل كان هذا حالها؟ الفم أبيض والصورة سوداء!! كأنني أمام لوحة سوداء لسلفادور دالي ،قليل من البياض فيها وعنوانها: زنجيان يضحكان في الظلام..
(4)
(الأسرّة بيض
الدم أبيض
لكنهم يدونون الوفيات بالسواد)
البياض هنا كأنه ورقة ،مسرودة بنعيق الغراب ،و مثنوية التضاد ،تحتوي شرارة الحياة التي لاتكف عن حراسة السؤال ..
  (5)
(يولد أبيض
ويرضع تحت السواد
فرحاً كاملاً)..
البياض هنا لايعني البشرة، قدر مايعني عذرية النفس البشرية، لكن هذه الولادة البيضاء، لاتتغذى إلاّ بشرط السواد ، العيش ، المكابدات..الخ وصولا الى بهجة الحياة
     (6)
(طالما تناولوا البياض
وسوادهم..لم يكتمل بعد )
يحيلني التناول الى (ذقتم الموت…) تلك الشفرة القرآنية.. والبياض البارد،البياض المصفر، يباغتهم قبل اكتمال سوادهم : حياتهم..
    (7)
(يُطرقُ الباب ُ
يفتحون بالأسود ،
ويدثرون تفاصيل البياض)
هذا المقطع تتمة للذي قبله، ومقابل فعلين ينتسبان للذكورة الجمعية
(يفتحون)(يدثرون)..يفتتح المقطع ب مبني للمجهول ..وخلف هذه المجهولية، ثمة كثرة كاتمة لأفعالها !!
      (8)
(قطع الظلام حبل المودة
بين الوضوح
وطلاسم الغياب 23)
البياض المحذوف هنا، تنوب عنه شحنة البياض في مفردة المودة..
والحبل أجد مرجعيته في الخيطين الاسود والابيض ،بتوقيت صيام شهر رمضان ..
(أضعتُ
في البياض
وجهك َ
وأضعتَ في الظلام وجهي /35)
اللونان هنا متشابهان  بالوظيفة وهي تضييع التواصل بين وجهين.
وهذه المناصفة،تحيلني الى المقطع الأخير من قصيدة (إنتصافات)
(انتصف الجوع
طبق من طين ودموع
طبق أتخمته الحرب بالرصاص،
وطبق فوق المائدة
يمكث منذ سنين /33) هنا أيضاً أراني كقارىء أمام ثنائيات
جوع وصل الى المنتصف
طبقان
الطبق الاول مثنوي التكوين : طين / دموع
الطبق الثاني مثنوي : الكلي : الحرب/ الجزئي : الرصاص
والكلي/ الجزئي يمكن أعتبارهما النصف الاول من المثنوية
أما النصف الثاني فيتكون من الموضع : المائدة ، ومن الزمن القار
(يمكث منذ سنين ).. في هذه اللوحة التشكيلية: الحرب تشحن الوطن بالسواد وتوفر في الروزنامة بياض مرعب .وأليس (بياض الدمعة ينذر بحزن الأفاعي /37)..في السطرالتالي ،محاولة شعرية لتخفيف نسبة السواد في ليل ثقيل بطريقة تحويل الألم السائل الى سائل مضيء، وهكذا تكون دموع العين، دمعات شموع..
(في آخر الليل: ليت دمعاتي شموع/ 48)، وثمة محاولة تالية في تبيّض الليل :
(نحن نزلاء هذا القلب
نكدس النهارات…
وحين يضيق القلب،
نبحث بين الظلام
عن حزن يوم أبيض/ 51)..ومثلما حاولت الذات الشاعرة في تحويل الدمع شموعا، فهي في قصيدة (جواب) حاولت تأثيل ليلة زرقاء (أوشكت على المحو أيها البياض
         انفخ الآجر في الدموع
         لتكتب ليلة زرقاء/ 58)أتوقف عند السطر الشعري التالي : (أمي تطرز الليل بالأرامل/ 59):صورة شعرية،عمقها في استعارتها ،فن التطريز يحتاح خيوطا ملونة ،لكن الخيوط المتوفرة لدى الام هي الخيوط السود : الارامل وهكذا نلاحظ ان فن التطريز يعمّق سواد الليل بسواد الترمل الكثير..وتحتمل الصورة الشعرية تأويلا آخر..حين يكون للأرامل وظيفة أخرى..(الأرامل يضمرن الضوء/ 92).. لنتوقف عند مابين القوسين ،ونحن نعيد السطر الشعري الى المقطع رقم 6 ضمن قصيدة (تعاويذ):
(البدر..أكمل النشيج ،
والأرامل يضمرن الضوء
خشية الأحلام )
صورة شعرية، يكتمل سوادها بالأندراج الضوئي، القمر وقد أكتمل يستنفذ ضوءه بالغياب ،والأرامل يضمرن ضوئهن،حتى لايتورطن بأحلام لاتتوقعن في اليومي المعيش ..
(العمر ضوضاء
يكرهنا : لأننا أكثر سوادا
من بياض رئتيك
وماتبقى…
أسعل
حين تفيق النوارس /80)
ان البياض هنا مؤشر سالب ،يحاول التوازن مع بياض النوارس الموجب ،وللسواد مؤثرية أستفزاز : العمر…يكرهنا لأننا أكثر سواداً..
(كل وجعي أبيض
أدك ُّ البنفسج
لأحظي برضا الياسمين /88)
أراني أمام بياضين ،بياضٌ موجع وبياض عطر،والبنفسج ينوب عن الاسود، والجملة (أدكُ البنفسج) وحصريا ماتفعله الذات الشاعرة مع البنفسج، هو فعل استعارة لأذابة الوجع من جهة والصعود على سلالم الرضا صوب بياض الياسمين ..

(2)
تشتغل مفردات الشاعرة نجاة عبدالله على تضاد آيل للدلالة.فتمنح الشعر فضاءً مضافا لفضائه المعتاد…ومن باب هاتوا برهانكم نلتقط عينات شعرية من مجموعاتها..
(نعم..أنا هنا
الرقم صحيح..لكني خطأ!!/25/  مجموعة قيامة استفهام)
(ليس في دولاب الملابس ِ
مايدل عليك ِ/ 9- مجموعة (ذات وطن))
(أحرسي الطلقات
من الأجساد النائمة)
تمنحنا الكلمات هنا الصورة السالبة، في أستوديو التصوير..وعلى أفق التلقي ان يصحح الصورة الواقفة على رأسها ..وشخصيا سأبقيها بكل شحنتها الساخرة، ذات الانزياح الشعري..و السطران الشعريان السابقان، كأنهما ذلك المأثور الشعبي العراقي
(وّخر زرعك عن دوابي) أي أبعد مزروعاتك عن دوابي حتى تمر الدواب بسلام..وفي هذا المأثور وظيفة علاماتية تشير الى  استبداد سلطة اقطاعية غاشمة..هذا المأثور  انعكس في قصيدة نجاة بعيدا عن الاستنساخ الفوري..بل توظف بجمالية الشعري….
فعلى الاجساد ان لاتتخلى عن يقظتها..وإذا كان لابد من النوم فليكن نوم الذئاب : عين مغمضة والثانية مفتوحة..وهكذا ربما تكون حراسة الطلقات وليس الأجساد..إذا نحن في حالة طوارىء..صار فيها الحلم كابوسا والكابوس حياتنا اليومية…وهذا الأمر يتضح  أكثر في المتواليات الآتية ،حين يخلخل الشعر الوظيفة التقليدية للمفردة ،في لحظة تاريخية ،أختلطت الاوجه بالأقنعة :
(عاثوا في الارض
 شوقا/ 58)..(لوحتُ اليك،بقلب من ذهب، ويدٍ ،أهالوا عليها النداء/ ص37-…الطين بالطيف)(كنت َ هدفا للمرايا ،لماذا رميت َ الحجارة فيك َ/ص41- …الطيف بالطين )
(أيها البوم ،ياذا البياض الفاسق ،والنظرة الحمراء/ص35/ حين عبث الطين بالطيف)
(أصطدم بشرطي المرور
ليترك لي الشارع
أقسمه الى
وطن
وطلقة
وحبيب )..
وإذا كانت الأتصالية الأولى، متشكلة من متحرك سريع: طلقات وساكن فيزياويا ممتلك لحركيته الجوانية بنومه: الأجساد النائمة
فالمتوالية الثانية ذات مسار أفقي عبر شارع،والحركة هنا مشروطة، بتوقف بالقوة وليس بالفعل ..(أصطدم)  وليس اقف
وبشرط الاصطدم ، يجيء فعل يترك وهو مزود (ب لام التعليل)..
(ليترك).. يبدو ان السلطة والمتمثلة هنا بشرطي المرور، مشغولة بما هو أهم لديها من تنظيم السير!! لكن الشارع يعيش لحظة غير عادية فتقوم الشاعرة بتقسيم الشارع الى نسق ثلاثي مشروط بخصصة جغرافية.. 
(أترقب النشيد الوطني
وأعزف على القضبان
شهقته الأخيرة..)
يتواصل التضاد الاتصالي بين الشعري واليومي..ان الترقب هنا يعيد الاشياء الى ما آلت إليه..فالنشيد الوطني أصبح محض ميديا، ولابد من تجريد الميديا من أقنعتها، بذلك العزف الأشد مرارة..
 نقرأ الاسطر الشعرية التالية :
(أن الطين الذي
صنعتُ به حضارة روحي
تفسخ في أول مسمار ٍ
غرسته السفينة
التي مرت
على وجهك َ سريعا)
وحين تختفي القضبان يظهر المسمار..فمن أين لرخاوة الطين ان تتصدى..لمسمار ينغرز فيها؟! والرخاوة هنا تمر على الطين لتومىء الى ذلك الوجه..إذن ثمة اتصال بين
روح ———- وجه
أي بين جواني متماسك،عريق عراقة الحضارة العراقية، وبين وجه مهاجر له ذاكرة قابلة للنسيان..
(وأنت تناصبني الهمس
*سأمر قربك..
قرب المنضدة التي أختنقت
بوابل من الفراشات )
نلاحظ ان الشاعرة نجاة عبدالله،تشتغل على التوظيف المضاد للمعنى المعجمي من خلال..(تناصبني الهمس) (وابل من الفراشات)..فالمعنى المعجمي يشتغل على السالب ،أي تناصبني العداء وكذلك وابل من الرصاص أو وابل من القنابل..لكن الشاعرة تمردت على السياق المعجمي وأنحازت الى المختلف اللغوي في الشعر..الذي حين نتمعن فيه فأنه يوصلنا الى المختلف المجتمعي.
الذات الشاعرة  مزدحمة بذوات مختنقة :
(قلبي تدفئه رئات مختنقة
حتى أني
أتنفس حجرا وضبابا/83/ ذات وطن) ومن (حين عبث الطيف بالطين ) التقط العينات التالية : (أيها الألم..البياض ،
                    قرية سوداء/ص21)
(الآلام ترقص بهدوء/ ص23) (إحص ِ قمصانك، يدين لها المهرج بالطفولة الماكرة /26)(الحراس الذين يسهرون على خراب العالم /27)..(أم تتعاطى الاسبرين ،كلما تضع طفلا بلا جدران /33)
(الشباك الذي أتلصص منه
حملني الى كلماتي ،
لكني منشغلة
بالحنين إليك
أيها الباب الذي
خرجت ُ منه الآن /76)..
ضمن هندسة المعمارية ،لاتضاد بين الباب والشباك ،ولا شباك من دون وجود باب ،والشباك أراه عينا في الجدار  نطلُ منها على الخارج، وهو فضاء التأمل ويمكن ان يكون للتلصص،حين نكون تحت المراقبة، وفضاء الرؤية من الشباك ،تومىء الى ان حركة الرائي ربما تكون محددة ونحن هنا امام تشظية الذات في نسق ثلاثي:
*تلصص
*إنشغال
*حنين
ألا يمكن اعتبار الشباك يومىء الى المنفى ،ونلاحظ هنا ان التلصص ، لم ينشط نحو الخارج بل الى الداخل (الى كلماتي)
وهي لم تكترث لكلماتها لإنشغالها بذلك الباب / الوطن الذي غادرت ،أكثر من انشغالها بكلماتها عن الباب(الى العراق الذي يبكيني ويرسم وجهي بتضاريس غيابه/ ص4) كماجاء في عتبة الاهداءمن كتابها الشعري (حين عبث الطيف بالطين)
، وللباب أهميته في قصائد نجاة عبدالله (سبقتك الى نفسي
لأمطر وجعي عند الباب /35)..ومابين القوسين يضعني كقارىء أمام باب زليخة (وأستبقا الباب وقدّت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب /25 يوسف) ..وهذا التضاد الاتصالي ،هو من تقنياتها الشعرية كما في قولها
(كيف لي أن أضع أيّامي
 على فمه
وأنشغل بالكلام؟/ص30) وكذلك في قولها
(الأب الذي أنحنى للطابوق
ثلاثين عاما،
تناول حجرا
وظل منشغلاً بسلالم قبره ) ان الرابط الاتصالي بين المقوسات الثلاثة هو فاعلية الانشغال  فالذات الشاعرة مرة :
*منشغلة بالحنين الى الباب
*وفي الثانية يفّعل الاتصال مع الأخ اشكالية بين الزمن / الكلام
( كيف أضع أيامي على فمه
 وأنشغل بالكلام؟)
*في المرة الثالثة نكون مع الزمن أيضا ، الذي استولد علاقة تضاد مع الانحناء/ الصعود (أنحنى للطابوق ثلاثين عاما/ ظل منشغلا بسلالم قبره) والفرق بين الانحناء والصعود هو نفس الفرق بين :
الطابوق / الحجر وتعيدني حركتا الانحناء/ الصعود الى اتصالية الذات الشاعرة  مع الشباك / الباب في (الشباك الذي اتلصص منه/ الباب الذي خرجت ُ منه) وهي حركة مزدوجة :
*حركة من الاعلى (الشباك) الى الادنى منه في العلو (الباب)
*حركة تنطلق من الجواني الى البراني وثم تنلجم هذي الحركة
عبر حرف الاستدراك (لكن)
:الشباك الذي أتلصص منه،حملني الى كلماتي
*المرة الرابعة ستكون ضمن المقطع التالي :
حيث سيواجهنا التضاد الاتصالي بين الزمن / الكلام
(سأمر على أيامي
 وأقتلع دمعة
نبت على جفون ِ غيري ،
لكن ويالبكائي
صرتُ كلما
أقتلعُ يوما
تنبت كلمة ً
على جفوني/77)…هنا يواجهنا التضاد الاتصالي بين الزمان / الكلام ) كلما أقتلع يوما تنبت كلمة على جفوني)..نحن هنا أمام تضاد بين فعليّ : (أقتلع / تنبت) لكن هذا التضاد الجميل نتاج
فعل استباقي في النص نفسه
( سأمر على أيامي
 وأقتلع دمعة
نبت على جفون غيري)..نلاحظ هنا ان الشاعرة مرت على ايامها
وليس على أيام غيرها وهي حين مرت كان لمرورها وظيفة اجتماعية ليست بالسهلة ..
(عليك أيها اللون
 أن تكون مقاتلاً
أو نبياً
لترد شرف البياض /ص45-..الطيف بالطين ) بجهد ايجابي التقويض هي تقتلع دمعة نبت على جفون غيرها..ولندقق في (أقتلع) فالمألوف نسقيا ان الدموع تمسح، لكن المسح هنا لايوقف الدموع بل يزيل أثرها على الوجه ..الذات الشاعرة تعي برهفها (الدموع تشيخ أيضا /ص67)..الذات هنا لاتريد مسحها بل اقتلاع جذور شجرة الدمع في الذات الانسانية، وكيف يمكن الاقتلاع وشجرة الدمع لاتنبت في الهواء بل في تربة خصبة من الاضطهادات ..لذا فهي تحرض ضد الدمع (غادري بكاءك
أيتها الغريبة/87)  (إحذر الاربعاء ،قد تنجب أحد أثنين ،يتيما أو دمعة رعناء/ص30- .. الطيف بالطين )(وطني يقتل صباك ِ أيتها الدموع/ ص68- الطيف بالطين ) أحيانا تكون الدموع مزيفة كالاشخاص (جارتي ليست حقيقية ودموعي ايضا/9/ ذات وطن) وهذا يعني ان الدموع لاتدل على صاحبها كالملابس (ليس في دولاب الملابس مايدل عليك / 9)
. (4)
الذات الشاعرة هي ذات فادية هي تقتلع دموع الغير لكنها تواصل
(بسالة الدموع / ص80)  في الوقت نفسه (يالبكائي).. وقدر هذه الذات ان منبه صحوها له فاعلية نافية :
(أنا لاأحلم بك َ
أو أحلم بقمر جارتنا
أنا أصحو
على دمعة هذا القرد اللعين /84) وللدموع سعة استفزازية
(كانت عيناي
 متسولا
ضاقت به الشوارع
حين نظرتك
 تضع في خرجها الدموع/59)..والمطر ليس مطرا، بل حزن الغيم
(يهبط الغيم حزيناً لسؤالك
 منطويا على دمعته /ص7/ خطيئة آدم / .. الطيف بالطين) والدمع رداء الموتى (الاموات يغدون خلفك أيتها التفاحة
يرتدون لعناتهم، بكاءهم، أرواحهم/ص12/ المصدر السابق)
(هل تخشى دموعي الساخنة
  وهي تحيك من الرموش
   سدا منيعا/ ص35 – المصدر السابق)…
في (قيامة استفهام)..تغمرنا الدمعات التالية :
(زهرة كاردينيا في بيتي ،
علقتني على الحائط
وظلّت ،
ترمي دموعها الفذة على الوسادة /ص20)
(الدمعة صافية في نقطة الالتقاء/ 23)
(لكن بياض الدمعة ،
ينذر بحزن الافاعي /ص37)(أشجار الدموع، لاتكمل عجائب البيت السري/ 40)(أزيد عليه دموع الببغاء ! لنحرس جسد الغابة/45) (في آخر الليل : ليت دمعاتي شموع /48)(ظل التمثال يدمع /ص52)(أنفخ الآجر في الدموع /58)(والعنب دموعاً/ 65)
(تتقافز الدموع على ناصية الشارع/ 92)(أجعلني دمعة في طاحونة/ 93) وسيكون العويل الذي هو أعلى مراحل الدمع مسك ختام ،كما في قولها
(انتهت رحلتي الساحرة…
لم يبق َ في قبضتي
شيء من الرقة ،
ودأبت أصابعي
تقشّر كتاب العراق
سأبدأ غدا بالعويل /ص67)
(*)
خلاصة
حاولت الشاعرة نجاة عبد الله، شعريا ان تسهم بقهر الاغتراب عن الذات وعن الآخر والغير ،وهي مساهمة تدعو من خلال فعل القراءة ،أن تعانق أنا القارىء هذا العالم بقواها،وهكذا نتماهى في الجميل والرائع والبديع ،لأن القصيدة هي حقا..(حركة أحتجاج ضد تدمير الحب في الواقع الاجتماعي) بحسب بول تليتش .

•    من الأعمال الشعرية للشاعرة نجاة عبد الله
(1)حين عبث الطيف بالطين/ بغداد/ 2008/ دار الشؤون الثقافية العامة
(2)قيامة أستفهام/ دار الحضارة/ القاهرة/ ط2/ 2010
(3)ذات وطن/ مركز المحروسة/ القاهرة ط1/2010
(4) بخصوص بول تليتش،أنظر الى ص77 من كتاب أريك فروم / مفهوم الإنسان عند ماركس / ترجمة محمد سيد رصاص/ دار الحصاد – دمشق –ط1- 1998