في الطريق إلى العمل قاد السيارة بهدوء وانتباه حتى لا يتشتت تفكيره عن حركة السير، انتبه بشكل خاص للمركبات خلفه ليعطيها إمكانية التجاوز حتى لا يفرغوا نزقهم بإطلاق الأبواق وربما رمي الشتائم من النوافذ. استيقظ منذ الصباح بنفسية متلبدة بغيوم لم يعهدها منذ فترة طويلة، ولكنها صارت تأتيه في الآونة الأخيرة، حاول التعايش معها حين تحلّ دون سابق إنذار بإطفاء كل مستقبلات التوتر والاستفزاز ونجح، لحسن حظه، في إبقائها غيوماً دون أن تتحول إلى مطر أسود. تأتيه قبيل الاستيقاظ فيستيقظ متكدراً دون أن يدري لذلك سبباً. الغيوم التي تلف روحه تتآخى اليوم مع غيوم داكنة متلبدة في الجو غطت على شروق الشمس الذي كان من الممكن أن يساعده في التخفيف من وطأة الغيوم الداخلية. لم تمتد يده إلى مفتاح راديو السيارة خشية أن تتآخى أخبار الصباح من محطة الإذاعة المحلية مع غيوم الجو والغيوم التي تلبدت فوق صباحه الخاص.
وصل العمل، وأوقف السيارة في كراج المؤسسة، مشى بحذر حتى لا يراه الحارس ويبدأ معه حديثاً ما عن آخر الأخبار أو عن مشاكله الشخصية كعادته، والتي كان يقابلها كعادته هو بالإنصات والتفهم وتقديم نصيحة مناسبة إن أمكنه ذلك، أو بمجرد التضامن ب”الله يعين”. ولم يعرّج على الكافتيريا لأخذ كوب القهوة الصباحي، خاضعاً لصوت داخله يقول “ليس لك إلاّ أن تصل المكتب وتغلق الباب وتعمل أي شيء حتى تغادر الغيوم روحك، وإن كنت محظوظاً تغادر غيوم السماء فتخرج إلى الكافتيريا القريبة وتكافئ نفسك بقطعة كعك مع كوب القهوة”.
دخل المكتب، امتدت يده إلى مفتاح الطاقة الرئيسي لجهاز الحاسوب، لم يعمل بعد أن ضغطه، انتبه أن الضوء الأحمر في وصلة الكهرباء التي تغذي الجهاز ليس مضاء، إذن القاطع الذي يغذي الخط بحاجة إلى رفع، لقد نزل لسبب ما، يتكرر ذلك. لم يسمح لهذه الإضافة إن تكثف الغيوم الداخلية، كان على وشك أن يقول الكلمة السيئة التي تقفز إلى طرف لسانه عادة في مثل هذه الحالة، ولكنه استبدلها ب “تيك إت إيزي يا ولد”. خرج من المكتب إلى الردهة ثم إلى الزاوية التي فيها صندوق القواطع، فعلاً القاطع في حالة نزول، رفعه وعاد إلى المكتب، أضاءت شاشة الحاسوب. ذهب إلى الشبكة العنكبوتية ودخل إلى البريد الإلكتروني ليتفقد بريده، أدخل كلمة المرور بهدوء حتى لا يخطئ. مسح عدة رسائل من الرسائل المزعجة، مسحها ثم ذهب إلى ملف الرسائل التافهة، هكذا يحب أن يترجم كلمة “جنك ميل” في قائمة مجلدات الرسائل، تنبه إلى وجود رسالة مختلفة، جيد أنه لم يمسحها بالجملة، الحاسوب ليس موضع ثقة مطلقة في تصنيفاته، أحياناً يرسل إلى هذا المجلد رسائل جيدة. كانت رسالة من صديقه الشاعر، قصيدة جديدة، شده العنوان، فتحها وبدأ بقراءتها، تتحدث عن احتفالات الطبيعة والضياء، انفرجت أساريره قليلاً وتعدّلت نفسيته بعض الشيء. بدأت غيوم الروح تتبدد، أعاد قراءة القصيدة بتمعن في جمالية النص، فبدأت غيوم الروح تنقشع. أسند ظهره لظهر الكرسي واسترخى وأخذ نفساً عميقاً. شعر بالضوء المنتشر من القصيدة يتغلغل كيانه. انتبه أنه لم يفتح ستائر المكتب، ما أن فتحها حتى تدفق من خلالها نور مضاعف قادم من انعكاس الشمس المشرقة على زجاج العمارة المقابلة.
اعتدل في كرسيه واستدار معطياً طاولة الحاسوب ظهره، وأخذ نفساً عميقاً أصبح بعده مستعداً ليوم عمل واعد. شكر الضوء الذي ولد من القصيدة والذي جلب معه النور القادم من النافذة الغربية في هذا الصباح، وشكر قوانين الانعكاس التي جعلت ضوء الشروق يأتي من الغرب.
عاد ليواجه شاشة الحاسوب بروح مختلفة، الروح التي تفتح الباب للتداعيات والتفاعل مع الأشياء الصغيرة، الروح التي يطلقها على سجيتها حين تبتهج. شكر قوانين الانعكاس مرة أخرى، فتذكر أستاذ الفيزياء في المدرسة الثانوية ودروس موضوع الضوء. كانوا يتندرون بطريقة لفظ الأستاذ لمصطلح “شدة الاستضاءة” التي يلفظها وهو منسجم في الشرح بصوته الجهوري “شستضاءة” ولذلك سموه “أستاذ شستضاءة”. عاد إلى الرسالة الإلكترونية التي تحتوي القصيدة، ضغط علامة الرد وكتب لصديقه “لقد أعجبتني القصيدة، رائعة، ولكن لدي سؤال: هل تتذكر الأستاذ شستضاءة؟” وأتبعها بهاءات متعددة.
فتح أحد الملفات الموجودة على مكتبه وبدأ بقراءة المحتوى، وضعه جانباً وقرر أن يخرج لإحضار القهوة. طلب القهوة التي يحب وكان محظوظاً بوجود كعكة الجبن في الكافتيريا. حمل كوب القهوة وقطعة الكعك وعاد إلى المكتب.
أزاح الملفات جانباً وقرر أن يعطي نفسه ربع ساعة للاستمتاع بالقهوة والكعك. انتبه للوميض على شاشة الحاسوب، بريد إلكتروني جديد. فتح الرسالة، كانت من صديقه الشاعر “صباح الخير يا حارس الذكريات. طبعاً أتذكره، وقد التقيته قبل سنة، يبدو عليه الكبر، كدت أقول له أستاذ شستضاءة، ما زال رغم تقدم السن بحيويته. بالمناسبة، أقترح أن نلتقي في محادثة ماسنجر هذا المساء، في جعبتي أحاديث كثيرة. سلام”.