للشاعرة هدلا القصار
الحمد لله الذي طوَقَ اعناقَنا ، بأمانةِ الحرف واللغة ، وأيدَنا بالفصاحة البالغة ، فجعلَ الحرف دليلاً على وحدانيته ، والبيان طريقاً لمعرفته .
ــ فلقد إطَّلَعنا على ديوان ِ شعر ٍ فصيح ، وبيان ِ جَزَل ٍ قـَريح ، قد أجادَتْ صنعتَها ، وعَرَضَتْ بضاعتها ، فَوجدْنا النسج من البديع ، والغرز من السريع ، فتسابق المتسابقون لقرائتهِ ، وتزاحف الزاحفون لمحاكاته ، فكان سبكُ الحروف زاهيا ، وجمالُ العرض باديا ، فَتخيرَتْ من الكَلام ِ أجمله وطَبَعتْ من البديعِ أكمَلُه ، فَقَصدَ قصيدها من كل نَهْج ، وأَنشدَ نشيدها من كل فـَجْ ، فكانَتْ سيدة حروفها (هدلا) ، وأَرخَتْ نضيدَها سَدلا .
وهذا ما دعانا الى الخوض في نقد ديوانها . والغوص في مكامن سحر بيانها ، فلا نجامل لأجل العين . ولا نداهن لذات البَيْن ، فتلك أمانة ٌ حملها ثقيل ، واستقامة تحتاجُ الدليل . والحمد لله على نعمه وإنعامه … هــدلا … يطيب لي أن ان أخاطب الشاعرة الرائدة ، وصاحبة القصيدة الصامدة ، بأسمها الصريح ، والتي اسميتها في مقال نقدي سابق بـ (النبتة البرية) لتَحمّلها عاصفات الزمن ، فتنحني ولاتنكسر ، رغم الجراح البالغة التي تترك آثارها في انعكاساتها الادبية . حتى جاءت عبارة :
إلى الأصدقاء الذين تناوبوا على قتل أحلام(مهرة الحكاية) وابتزاز انكسارها، إلى الذين حاصروها ، وحاولوا دفنها بين الأحياء الأموات ، إلى الصديق الذي سرق نصوصها وما مَلَكتْهُ من قريحة الشعر”
ـ والتي فاجأتْني كثيرا … كونها تخاطب الخنجر الغائر بلفظة (الصديق(
وهذا من أدب النفس قبل أدب الدرس ، وقد بَدَتْ خبرتها ، عندما ابتدأَتْ ديوانها بـ (أيها الشعرُ) ، وخَتَمتهُ (ونعلن السرَ بعد الصلاةِ .) . فلقد جاء ديوانها الشعري محملاً بخصيب المعاني ، وتلون الأفكار والمرامي ، كي تبعد الرتابة والملل لدى القاريء ، وهذا من أسرار نجاح الدواوين الشعرية .
ــ تَفَحصتُ عناوين قصائدها فوجدتها قد أُختيرت بعناية فائقة ، فجاءَتْ أما إستلهاماً ، أو دمجاً لكلمتين اختيرتا بعناية ، تكادان تفصحان عن دواخلهما … كـ (الصمت – طبق الجنون – ظل منقار… الخ ) حتى تجعل القاريء يتعجل القراءة لمعرفة سر هذا العنوان . ثم يأتي النص كقطعة متماسكة ابداعيا ً ، مؤطراً بحدة ٍ ورشاقة ٍ في اللفظ ، ويمتاز بقوة السبك التي تعتمد على ترابط رقاب العبارات ومعاني الالفاظ بعضها ببعض ، فلا تشعر بالانفصال من الفكرة اثناء القراءة ، وهذا من صفات الكاتب الحَذِق الذي يصهر كل عناصر الفكرة في بوتقة واحدة ، فينتج سبيكة غاية في التلاحم والصلادة والمتانة . وقد قال الاوائل : الكاتب الجيد … هو من أجاد المَطلَع والمَقطَع ، وهذا مانراه متوفراً في جميع نصوص الديوان . فيأتي المطلع غاية في الدقة والتشويق لجذب القاريء ،كما نقرأ في قصيدة … دم حزيران : “
فلنتَّفقْ على أنني ميتةٌ منذ عشرةِ رجالْ لكني لم أكفَّ عن الموتِ بعدُ ولا فرقَ عندي ” ـ
-ـ ثم يأتي المقطع وهو يهتز لثقل ِ حمل انواع الجماليات الآخذة بالتكثيف والتركيز … فمثلا … تقول : ” فلنتفقْ قاتلي وأنا جئنا لنكون ليلاً أو تراباً أو فراغاً جاهلاً أو لنقـُلَ للتاريخِ : خذ ما شئتَ من أسمائنا “
ـــ وعنصر ابداعي آخر مرادفاً لجمال العرض … هو الرمزية المفهومة … وليست (طُلَسم) او حزورة …. فقد إجتَهدَتْ الكاتبة في استعراض الإيحاءات التي تجذب القاريء والسامع ، لتجعله يبحر مع ذاته برهة ، متأملاً ابداعاً نسيجيا لغوياً متحضراً . حتى استوقفني كثيراً هذا الجمال الرمزي في قولها : ” وذات ليلةٍ !! سألملم ريشَه لأصحو على نسرٍ عارٍ ” ـ
ــ قليلٌ أقرأ هذه الايام لهكذا زخرفة رمزية ، وخَتَمتْ نصوصها بخاتمات ، لاتنزاح عن ذهن المتتبع والفاحص ، بل إستمالَتْ الأذن وأغرَتْها ، لتضع عصيراً مستساغاً لانافراً ، للذوق الادبي السليم .
ـــ هذه العُجالة المقدمة المعروضة لهذا الديوان الملتزم ، جَعلتني أزيح الكثير من الأفكار النقدية الأخرى ، كون المقام لا يتحمل أكثر من هذه السطور … لذا … أضع إعجابي الشخصي بهذا القلم المثابر الملتزم والحرف الرصين ، لا لكوني اكتب مقدمة نقدية لديوان شاعرتنا الرائدة (هدلا) إنما هي مسؤولية قلم وتأريخ حرف … ونحن نجد في قلمها خيراُ إن شاء الله تعالى … الشاعرة (هدلا القصار) … كوني قلبا ً يرف … وجناحاً يدُف … تمنياتي لكِ بالموفقية والتقدم … والحمد لله رب العالمين