22 ديسمبر، 2024 11:27 م

{ما دفعني الى كتابة هذه المقالة هو رد على صديق نشر في مدونته ما يعتقد بأن زمن الفلسفة قد ولّى وأنْ لا طائل من دراستها والاهتمام بها، ويرى أن العلم وحده هو الذي يُرتكن اليه لما حققه من منجزات كبيرة تسهم في خدمة الإنسان وتحقيق الرفاه..لعل في هذه المقالة المقتضبة ما أعتبره مساهمة في الحوار عن أهمية الفلسفة..}
من يراجع الكتب الفلسفية بحثا عن تعريف للفلسفة سيجد تعدد التعريفات، ووفق الدكتور عاطف العراقي الذي أحصاها أنها تزيد على مائة تعريف؛ وحين أكمل الشاب نجيب محفوظ الثانوية ورام دخول الجامعة، وجد نفسه أمام لجنة مهيبة من أساتذة ترأسهم الدكتور طه حسين الذي سأله: لماذ تروم دراسة الفلسفة دون غيرها من المعارف؟! فلمَّ الشاب شجاعته وراح يشرح الفلسفة وأهميتها للعقل الإنساني في فهم الوجود وهي أم العلوم وما الى ذلك … ثم استوقفه طه حسين وقال له كلاماً لن ينساه قط: أنت تصلح للفلسفة لأنك تقول كلاماً غير واضح وهذا شأن الفلسفة!!
على أن معنى الفلسفة المشتق من الأغريقية ” حب الحكمة” هو البداية التي تمثل نشأة الفكر الفلسفي لدى الإنسان في مراحله الأولى، وأحسب أن الحكمة هي سانحة يقولها من خبروا الحياة واستطاعوا صياغة مفاهيم عميقة من تجارب الحياة وصاغوها في البدء أمثلة سائرة ثم تطورت وتعمقت لتلبس لبوس الحكمة، حين كانت الحِكم بحيرات صغيرة قد تكون معزولة، فإن ارتبطت مع بعضها وكونت بحراً واسعا صارت فلسفة لها قواعدها في التفكير! وأحسب أن الإنسان في مرحلة الطفولة يصوغ أسئلة فلسفية يضيق بها ذرعاً الكبار، عن الخلق والوجود وكيف ومن أين أتى وإلى أين يذهب ولماذ يموت الإنسان ثم ماذا بعد الموت.. إنها بداية الفلسفة؛ وكم كان ماركس مُحقا حين وصف الفكر الإغريقي وفلسفته بأنها مرحلة الطفولة للفكر الإنساني حين طرحوا أسئلة وحاولوا الإجابة عليها..ومن طفولة الفكر الإنساني هذا هي فرضية العناصر الأربعة المكونة لشيئيات الخَلْق: عنصران صاعدان هما الهواء والنار، وعنصران نازلان هما التراب والماء، هذه الفرضية ظلت تهيمن على عقول البشرية ردحاً طويلا من القرون حتى بددتها الثورة الصناعية العلمية لنعرف الآن من الكيمياء أن في الطبيعة هناك أكثر من مائة عنصر!
ظلت الفلسفة لقرون عديدة تنفض عن نفسها الأوهام والخرافات وتحتضن العلوم من طب وفلك ورياضيات ومنطق وتاريخ حتى صارت أم العلوم، والأهم هو نمط التفكير وإعمال العقل لتفسير الظواهر واستخلاص الحقيقة بأسلوب علمي من المراقبة والرصد والتحليل والاستنتاج. وبهذا أصبحت سلاحاً ماضيا لنقد الدين والمنظومة الظلامية التي تعرقل مسيرتها وقد دفع الفلاسفة حياتهم دفاعاً عن مواقفهم وتعرضوا للاضطهاد والتنكيل بدءاً من سقراط الى توما الأكويني وغاليلو والسهروردي وابن رشد الذي أثر بشكل كبير بكل الفلاسفة الأوربيين الذين جاءوا بعده …
لقد ساهمت الفلسفة بدءاً من اليونانية متمثلة بأعلامها الثلاثة سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم حتى القرن التاسع عشر، حيث ساهمت في تطوير الطب والرياضيات والمنطق والفيزياء والفلك والكيمياء بالتخلص مما رافقها من أوهام من فرضية العناصر الأربعة ووهم التأثير السحري لحجر الفلاسفة lapis philosophorum – في تحويل العناصر الرخيصة الى ثمينة – وخرافة نظرية الفلوجستون في الاحتراق، كل هذا ساهم في دفع عجلة التطور العلمي الى أمام ليصل الى وصل اليه اليوم!
ويبقى التعريف الماركسي هو الأشمل حين ربط الفلسفة لا بالفهم المعرفي الشامل المتماسك للحياة وإنما بتغييرها مستفيداً من معطيات العلوم وليجعل الديالكتيك الهيغلي واقفا على قدميه لا رأسه وليضع الأسس المادية لفهم التاريخ ولعل الكلمة الفصل في ” لتغييرها” التي شكّلت نقلة هامة في الفلسفة ووضعت الفلاسفة اللاحقين والمفكرين أمام مهمة تغيير الواقع.. لقد ساهمت الفلسفة بدءاً من اليونانية متمثلة بأعلامها الثلاثة سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم حتى القرن التاسع عشر، ساهمت في تطوير الطب والرياضيات والمنطق والفيزياء والكيمياء .. وقد ساهم العلماء والمفكرون الأحرار في مواجه سطوة الكنيسة من قبيل غاليلو غاليلي ومن ثم نيوتن ولافوازييه وصولا الى أنشتاين في دفع عجلة التطور العلمي؛ فمازالت الفلسفة حاضرة في منح الشهادات العلمية مثل الدكتوراه ك ” دكتوراه فلسفة في الطب، ودكتوراه فلسفة في الاقتصاد..الخ”.
وكان نصيب العرب في الفلسفة غير قليل، فلم يحظ العرب في عصر ما قبل الإسلام بفلسفة وذلك بسبب طبيعتهم الصحراوية ومع ذلك تجد ومضات فلسفية في قصيدة طرفة بن العبد وقصيدة الهذلي، والحال نفسه في العصر الأموي، ولكن هبت رياح الفلسفة رخاء في العصر العباسي بسبب اختلاط العرب بالأعاجم من المجوس و البوذيين والهندوس والشامانيين..الخ فظهرت بوادر أولية للفلسفة في شعر أبي العلاء المعري ومحي الدين بن عربي …الخ، بيد أن الدولة العباسية اعتبارا من عهد الرشيد قد عرفت تيارات فلسفية أبرزها لدى المعتزلة ومساهمتها في تمجيد العقل (لا إمام سوى العقل)، واستقطبت دار الحكمة التي ازدهرت في عصر المأمون خيرة رجال العلم والفلسفة، من قبيل الكندي وابن سيناء والخوارزمي والفارابي وكانت الخطوة الكبرى في ترجمة الفلسفة اليونانية الى العربية بجهود حنين بن إسحاق ويوحنا بن ماسويه، فانتعشت الفلسفة، واكتسب علمُ الكلام الجدلَ، والمتصوفة الوجدان ورجال الفلسفة البرهان ( راجع سلسلة تأثيرات هندو بوذية في الفلسفة الصوفية لكاتب السطور). وغدت بغداد بمدارسها وجامعاتها مركز جذب لكل العلماء والطلبة من جميع المِلل والنِحل لسبب هام هو أن العلم والفلسفة لا دين لهما! فليس هنك علم مسيحي أو إسلامي ولافلسفة مسيحية أو إسلامية!
ولعل ابن رشد (520 – 595هجرية) شكل قفزة كبيرة في إعمال العقل والنقد الفلسفي ونقد النقد، فلم يكتف بشرح كتب أرسطو وإنما كان ناقداً لمجمل الفلسفة اليونانية؛ أما الكتاب الهام الذي أسس للسجال الفلسفي فهو “تهافت التهافت” الذي ردّ به على كتاب “تهافت الفلاسفة” لأبي حامد الغزالي(450 -505هجرية) الذي شن هجوماً على الفلسفة واعتبرها الطريق الى الزندقة وأشاع مقولة “من تفلسف تزندق” ، فانبرى له ابن رشد وفنّد كتابه تفنيداً، لقد كان ابن رشد إضافة لكونه قاضي قضاة عالما في الفيزياء والفلك وطبيباً مرموقاً ويعتبر أول من صحح المفاهيم لدى من سبقه في نقد الفلسفة اليونانية لدى ابن سيناء والفارابي، لقد نال ابن رشد اضطهاد وعسفاً واتلفت كتبه بينما ترجمت الى اللاتينية واستفاد منها الغرب وأثر تأثيرا كبيراً في الكثير من فلاسفة الغرب مثل ديكارت ودانتي وتوما الأكويني .. وغيرهم كما أثر بابن خلدون.. لقد عُدّ ابن رشد واحداً من أهم أسباب نهضة الغرب، بمثل ما عُدّ الغزالي ومن سار على دربه مثل ابن تيمية وابن القيم الجوزيه… من أسباب تخلف العرب .. لقد خسرنا ابن رشد وفاز به الغرب، ومازال تمثال ابن رشد منتصباً في مسقط رأسه قرطبة..
ومن خلال متابعتي لمفكري المغرب العربي لمع لديهم مفكرون وفلاسفة أكثر من المشرق العربي لأنهم جعلوا الفلسفة مادة أساسية في مناهجم .. وتلمس ذلك من خلال أساليب حوارهم الراقي، حتى في المجالات السياسية، بينما أجد أن الفلسفة شبه غائبة للأسف في العراق؛ فلأجل أن ننهض في تفكيرنا ولأجل أن نعطي للعقل مكانته ولأجل الارتقاء في أساليب التفكير العلمي لابدّ من إعطاء الفلسفة مكانتها المرموقة في مدارسنا الثانوية وجامعاتنا، ففي ذلك تطوير لعقلية الإنسان وتوسيع لمداركه وتسليحه بأسس النقد العلمي والفلسفي لأجل أن نرتقي في الحوار والوقوف إزاء المتغيرات الحياتية بروح العقل والفهم السليم في شتى ميادين الفكر والثقافة، ولأجل تفسير الظواهر الاجتماعية المستجدة تفسيراً علميا وعقلانيا ومن أجل إطلالة علمية على تراثنا الفكري وتنقيته مما علق به من خرافات وأوهام.