18 ديسمبر، 2024 5:40 م

أستمع كثيراً كما أقرأ عن هموم وأشجان الفنانين والمثقفين والعاملين في مجال الثقافة والفنون والإعلام بكل فروعه،هذا الوسط الشديد الصعوبة،والمليء بالمشكلات غير المرئية لأغلب الناس والحافل بالمعاناة والتعب والصراعات والتوتر تماماً كأي وسط آخر،مع فارق أنه تحت الضوء ووجوه الكثير من العاملين فيه معروفة للناس،وإن كان هناك أعداد كبيرة من فئات لا نعرف حقاً ماذا تقدم ولا نعرف تحت أي مسمى يمكن إدراجه،مما نراه من (مشاهير) على بعض مواقع التواصل الإجتماعي ويصرون على تسمية ذلك بالفن،مما يدفع المعلنين إلى الإنجذاب نحوهم للترويج لسلعة ما بعد أن ساهمت هذه المواقع في تقديم الإنسان نفسه كسلعة،ويجعل تقييمه مرتبط بنسبة المشاهدات وتسجيل الإعجابات،وبالمقابل نجد أسماء عربية كثيرة وكبيرة وراقية ومحترمة قدمت مسيرة طويلة لا تحظى حتى بالتقدير والإحترام الذي تستحقه،فهي لا تحتاج إلى عقليات تفكر بطريقة التاجر،كما أنها احترمت نفسها بأعمالها التي قدمتها وابتعادها عن ما نراه حالياً،وان كان الكثير يكرر جملة (الفن والثقافة صناعة)،وهي فعلاً كذلك لكن أي صناعة يجب أن تدار بوعي واحترام كي لا تنهار،خاصة عندما ترتبط بقيمة تصل إلى متلقي قد يتأثر بها،ولها أثر عميق في وجدان المجتمع..

ولأن العاملين أو المنخرطين في هذا المجال بمجهود شخصي بشر،سواءاً كانوا كتاباً أو شعراءاً أو مصورين أو رسامين أو ممثلين أو أي مجال آخر يحق لهم الشعور بالضيق مما يرونه،وأتابع عن كثب وبتقدير واحترام وأتعلم من الجهود المبذولة من قبل الكثير منهم لتقديم أعماله وسط مناخ طارد للإبداع،لكنهم يحافظون على مستواهم ويسعون لتقديم الأفضل برغم كل الظروف وإن كان على فترات متباعدة..

وكثيراً ما أستشير بعض أساتذتي خصوصاً في خطوات مقبلة أو أفكار أهتم بها وأستمع إلى آرائهم ونصائحهم بإهتمام،خصوصاً أنه بعضهم مخضرم وصاحب تجربة مهمة ونظرة متوازنة وقراءة ثاقبة للوضع الحالي،وأحاول موائمتها مع الظروف الحياتية الخاصة والمناخ العام،ولا أنسى جملة أحدهم التي قالها لي بأن الدخول في معترك الثقافة والفنون ليس سهلاً وناعماً كما يبدو،بل إنه طريقٌ صعب وشاق مليءٌ بالأشواك والنماذج التي تجسد حالات النفس البشرية بكل تناقضاتها وجمالها وسلبياتها..

ومع ذلك أرى وجود إمكانات وطاقات ومواهب جبارة في مختلف المجالات،لكن بالأخص في جيلنا والجيل الذي يصغرنا،والذي فتح عينيه فوجد برامج متعددة تحت مسمى (اكتشاف المواهب) والتي تخضع لإعتبارات تجارية غالباً إلى جانب فكرة التصويت،جعل ذلك لا شعورياً الكثير منهم يعتقد أن الثقافة والفن هما أضواء وشهرة من جانب،وضربة حظ من جانب آخر،ووجه أنظارهم إلى الشق الذي يغلب الشهرة على الموهبة،مع أن الغالبية العظمى من الذين ظهروا في تلك البرامج اختفوا تماماً..

وهنا يجب على جيلنا والجيل الصاعد أن يعرف أن أي عمل يجب أن يكون بمثابة إضافة له ولإسمه ولحلمه،وأن يسعى أن يترك خلفه إرثاً راقياً ومحترماً لا يتأثر بمتطلبات السوق المتغيرة بإستمرار،والآخذة في التدني والتي قد تسحبه معها،فتمسح شخصيته وبصمته وموهبته وحلمه،وتجعله في أفضل الأحوال نسخة مكررة من تجارب تجارية أخرى ستموت جميعها بمرور الوقت ولن يكتب لها الإستمرارية ولن يذكرها أحد..

وعلى كل من يحب شيئاً أن يقاتل لأجله،فعلينا أن لا نعتقد بأننا سنأخذ كل شيء،ولا تقارنوا تجربتكم بتجربة فنان موجود منذ عشرين أو ثلاثين عاما ً بينما لا زلنا نبدأ،فهذا الفنان له أيضاً مشكلات متناسبة مع سنوات فنه والتي قد لا تطيقونها في بداياتكم،كما أن الأوساط بأغلبها في دولنا العربية تحكمها المجاملات والشللية واعتبارات متعلقة بالفرز حسب الخلفيات الثقافية والإجتماعية وإن لم يتم التصريح بذلك،لذا لا تجعلوا ذلك يحبطكم أو يوقفكم أو يدفعكم لمجاراة أي موجة،ولا تقبلوا أن تكونوا تابعين لأي تحزبات مهما كانت،بل كونوا انسانيين تقدمون ابداعكم للجميع بدون تمييز أو فرز أو تعالي،فهذه التحزبات وإن خدمتكم مرحلياً في البداية ستكبلكم حتى نهاية العمر،وكونوا فقط مع الفكرة الجيدة،ولا تجعلوا هذه الظروف تحبطكم بل اجعلوها حافزاً وهدفاً يدفعكم للسعي للإنجاز وكسر هذه السلسلة اللامنطقية والمرتكزة على معايير لا علاقة للموهبة بها على الأغلب،ولا تهتموا لسخرية أحد ولا تنتظروا دعماً من أحد وابدأوا خطواتكم مهما كانت بسيطة ولا تخجلوا من الفشل،فالحياة عبارة عن سلسلة من التجارب التي تفيدنا في رحلتنا،ولا تقيسوا عملاً قدمتموه بإخلاص ومحبة بمعيار (اللايكات) لأنها أيضاً تخضع لحسابات مختلفة من شخص لآخر بحسب طريقة تفكيره وإن لم يظهرها بشكل واضح،وتذكروا أن الكثير من الأعمال التي خلدها التاريخ لم تحظى بالتقدير عند صدورها،ليدفعكم ذلك أيضاً إلى إعادة التقييم بشكل مستمر لكل خطواتكم والإستفادة منها، ورصد ردات الفعل تجاهها والتعامل بحكمة معها،وعدم التأثر بالعقبات التي ستجدونها من حين لآخر،تعلموا نقد الذات لبنائها إلى جانب التصفيق لها بعد عملٍ جيد وإن لم يلقى الإحتفاء المطلوب والمأمول،وعلى الخطوات أن تكون مدروسة وموثقة وتحفظ حقوقكم الأدبية كأصحاب للعمل،ولا تتأثروا بالإعجاب العابر على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي لأنه مؤقت وفكروا بما سيدوم،ولا تقلدوا تجارب الغير بل استفيدوا منها لأن من يفشل في صنع بصمة له لا يستمر،وعليه أن يتحلى بالصبر والثبات والقناعة بما يقدمه،وأن لا يتأثر بالسلبيات قدر الإمكان،وأن لا يقدم عملاً يندم عليه لاحقاً ويتمنى أن يمحوه من تاريخه،ولذلك لا مجاملة في ما تقدمه إن كنت جاداً في صنع اسم وتجربة خاصة بك تبنى بشكل تراكمي وتحتاج إلى نفس طويل واحترام للنفس ولما تقدمه،وتحتاج فعلاً إلى السباحة ضد التيار والتجربة بشكل محسوب،وأن تسعى لتحدي الذات وعدم حصر نفسها في نطاق معين أو مع اسم معين،كما تسعى للتعاون مع أسماء مختلفة وسماع آراء وأفكار مختلفة،لأنها قد تجد نفسها بمنظور جميل مختلف كلياً وبرؤية مغايرة في عين مبدع آخر،مما يضيف لهما وينعكس إيجاباً على كليهما،بعيداً عن فكرة الإنفراد بالنجاح لأنه لا يوجد شخص ينجح بمفرده،وقيمة العمل الجماعي أكبر وتبرز فعلاً قيمة كل موهبة إن وظفت بالشكل الصحيح،دون أن ننسى توخي الصدق في العمل وهو ما سيصل حتماً إلى الناس بدون ترجمة وإن أخذ ذلك بعض الوقت،فالصدق لغة قوية تغني عن الكثير من الكلمات،وما يبنى على أساس ثابت لا تهزه الرياح مهما بلغت قوتها.