سيذكر التأريخ الجريمة التي اقترفت يوم الثاني من آذار ٢٠١٥
على انها نقطة ستحتاج الى أجيال كي تطوي آلامها، فيما ستبقى تفاصيلها عالقة بذاكرة الآلاف، في إشارة لعقلية جسدت اعلى درجات الأستهتار بمشاعر الناس، وأظهرت حقدا دفينا تكشّف في تسيير الشفلات والتراكتورات بمقبرة (مدينة تلكيف التابعة لمحافظة نينوى ١٠ كم) ليتم تخريب قبورها وتجريفها بالكامل ومسح أي معلم من معالمها.
لايمكن للأنسان العاقل أن يصف حجم الألم الذي ضرب عوائل الموتى، عميقا في افئدتها وتأريخها ومشاعرها، حينما يجري استهداف من لا شأن لهم بمشاكل العراق وما يجري فيه الآن، اولئك هم الناس الذين خدموا وطنهم وأهلهم يوما، وحانت ساعة رحيلهم فأودعوا في مقبرتها الواقعة على تلّة تطل على باقي المدينة، وخلف كنيستها، منذ عشرات السنين.
لقد تعددت الجهات والأساليب التي تستهدف ابناء المكونات الصغيرة، من المسيحيين (الكلدان والسريان والآشوريين) وأبناء الديانتين الأيزيدية والمندائية، خاصة بعد التغيير عام ٢٠٠٣، ان كان بالعصابات أو الميليشيات أو ببقايا البعث المقبور أو في تنظيم القاعدة وأخيرا بما يسمى الدولة الأسلامية (داعش). ولعل الهدف يصب في مجرى واحد ، محزن ومؤلم ويمثل خسارة للوطن والمواطن، الا وهو تضييق الخناق عليهم، وبأتباع كل الأساليب، اما بأنهائهم قتلا أو بدفعهم للرحيل عن العراق. يحدث هذا تارة بهدوء وبلا ضجيج، وتارة أخرى بدوي عال ومرعب، لكن الفاعل في كل مرة معلوم لكنه غير منظور، موجود لكن غير ممسوك به، في توليفة حبكت بأيادي ماهرة تريد الوصول الى هدفها دون أن تترك اية بصمات في مسرح الجريمة.
فمن هي الميليشيات ومن راعيها؟
ومن هي العصابات وما هي اماكنها؟
ومن هي القاعدة وأين مقراتها؟
ومن يقف خلف بقايا النظام المقبور وأين هم؟
ومن هي داعش وأين مكاتبها؟
هذه هي الجهات التي كانت ومازالت تستبيح وتستهدف ابناء وبنات المكونات الصغيرة، لكن وللأسف بقت ردات فعل الدولة وأجهزتها الأمنية قاصرة خجولة ودون فائدة تذكر.
ورغم اصوات الأدانة والأستنكار من العديد من المثقفين والأحزاب الوطنية والمنظمات المدنية ورجال الدين من كل المذاهب وحتى من المواطنين بكل اطيافهم ، الا ان حملة الأستهداف تتصاعد تصاعدا منذرا بقرب المعركة الحاسمة لأنهاء وجودهم في العراق كليا. هذا المسلسل الذي بدأ بالعديد من المحافظات الجنوبية (البصرة نموذجا) ثم في بغداد وبعدها في الموصل وصولا الى احتلال بلداتهم ومدنهم وقراهم في سهل نينوى، وامتدادا الى تدمير آثار أسلافهم الآشوريين في متحف الموصل ونمرود والحضر ، وأنتهاءا (على الأقل الآن) بتجريف مقابر آبائهم وأجدادهم، قاصدين دون ادنى شك، قطع أي جذر يمكن أن يجعلهم يحنّو أو يفكروا في بلد أسمه العراق أو وطنا كانت سماؤه يوما خيمتهم لآلاف السنين!
ان بقاء ملف استهداف المكونات الصغيرة الأصيلة مفتوحا على مصراعيه نحو مجهول غامض يثير الريبة والشكوك في الجهات المستفيدة منه، في الطريقة التي تجري تنفيذها والتصفيات التي لم تشهدها المجتمعات المتحضرة منذ قرون، لابل ان عدم تداول الأمر بجدية معقولة، وبنتائج ملموسة يجعل الأنسان يطرح استنتاجات كثيرة ولعل اقلها ، هو اشتراك (جهات) محسوبة على العملية السياسية في هذه الجرائم، فيما يجري التستر عليها وألقاء التهم على جهات اخرى مجهولة وغير معروفة أو طارئة على اقل تقدير، من اجل التهّرب من مواجهة المسؤولية الحقيقية في توفير الأمن والأمان وحماية المواطن وممتلكاته.
ليس سـرا بأن نتائج الحرب الشعواء على هذه المكونات، سـتُفقد العراق ، وقواه الوطنية المخلصة حليفاً هي بأمس الحاجة اليه في مواجهة التحديات، وسـتُفقد الوطن قدرات وكفاءات كبيرة ، إذ انها في النهاية ستضطر يوما الى اختيار طريقة اخرى للحياة، بديلا عن حياة الذّل والقهر
والأهانة والقتل والتدمير في وطنها الأصلي وأمام انظار شركائها .
مع إن الكثير من ابناء الوطن المخلصين يشعرون بحجم هذه الخسارة التي يعبرون عنها بأحاسيس وطنية دافئة ومخلصة، لكنها وللأسف عجزت على وقف تدحرج كرة اللهب التي تضرب بنيرانها اولئك الناس المسالمين. و لا يبدو أن هناك في الأفق وقفة مع الضمير أوالأخلاق لوقف هذا الأنحدار المريع في القيم والأعراف ، ودونما أن نتملك من ناصية الحصانة ضد هذه الأفكار والممارسات الهمجية المتكررة. ربما لن تنفع تلك الحسرات، لأنها ستكون على شاكلة الحنين الى اليهود، والى الأكراد الفيلية، واليوم للمسيحين والأيزيدية والمندائيين…..فمن سيكون القادم؟
يقف اليوم موتى (مقبرة تلكيف) في أحد أطرافها، بعد ان تم تجريف قبورهم وتخريب معالمها، متجمعين والحيرة تأخذهم على ما جرى لهم، فيما ابصارهم تتجه نحو المدينة الفارغة من ناسها، والسوق الذي امتلئ بالغرباء، وناقوس الكنيسة الذي لم يدق منذ أشهر، والى مراعيها وأراضيها الزراعية وقد فرغت من غلاتها الذهبية، يقف شيبها وشبابها والأطفال، رجالا ونساء، صفوفا بأنتظار انجلاء الأمور. فقد مّر زمن غير قصير منذ ان زارها الناس، ومنذ ان مروا بمباخرهم على احبابهم وأهاليهم فيها، ومنذ أن افترشتها عوائلهم في مشهد أُريد له ان يكون امتدادا للبيت الذي رحل عنه هؤلاء الأحبة، وفي رسالة معنوية انسانية تؤكد للأب والأم والحبيبة او الحبيب، للزوجة أو الزوج للأبن أو البنت الغائبين، بأنكم معنا ونحن معكم، نأكل سوية ونضحك ونبكي، ونشارككم حكاياتنا كما لو كنتم لم تغادرونا!
لقد تُركوا وحدهم في هذا المشهد، فلا اهاليهم موجودين حتى يعيدوهم الى قبورهم، ولا هم قادرين على العودة اليها لأنها خُربّت، ولا أحد يريهم النور في نهاية هذا النفق!
الى متى سينتظرون؟