حاول بعض النفر من الماركسيين والعلمانيين ان يضع في افواه الاعلام قضية رجل بعيد من حيث نشأته الاولى واسرته عن الالحاد والزندقة , لكنه في سنواته الاخيرة اعلن ردته عن الاسلام وكفره بثوابت الدين , وبسبب هذه الردة عده الماركسيون والعلمانيون واحدا منهم , فنادوا باطلاق سراحه اثر اعتقاله من قبل السلطات الايرانية في زيارته الاخيرة لها حيث عائلته هناك . اننا مبدئيا ضد اعتقال اي شخص بسبب فكره وعقيدته , ولكن هل مانؤمن به يجب على الاخرين ان يعملوا به ؟ بمعنى هل نلزم ايران بعدم اعتقال القبانجي بسبب ردته وافكاره الالحادية التي يشيعها في الامة وهو يحمل الجنسية الايرانية , اي مواطن ايراني يخضع للقانون النافذ هناك ؟ .
ان ارتداد القبانجي لاجدال فيه , فهو انكر وجود الله سبحانه وتعالى , وقال بالاله الوجداني , اي ان كل فرد يحمل في وجدانه الها خاصا به , ودينه الوجداني يضم المسلم والمسيحي واليهودي والملحد , وليس فيه تكاليف عبادية من صلاة وصوم وحج وغيرها , وانما اتباع هذا الدين يؤدون هذا الشعائر حسب رغبتهم وبالكيفية التي يرونها , وتتعدد الالهة في الدين الوجداني الذي يدعوا له القبانجي بتعدد افراد النوع الانساني , كما انه انكر النبوة واتهم نبي الاسلام بالكذب وبالايحاءات النفسية التي لاعلاقة لها بالسماء , وقوله في القران ليس اقل قبحا من ذلك , فالقران عنده من تاليف محمد (ص) وليس فيه اية بلاغة خلافا لما تسالم عليه بلغاء العرب قديما وحديثا , وتتعدد تجديفات القبانجي ومظاهر كفره بالله ورسوله واليوم الاخر , ومع كل هذا الكفر الصريح يصر على ارتداء الزي الديني – العمامة والجبة – وهذا من تناقضاته المضحكة .
وصف البعض من انصاف المثقفين القبانجي بانه من المفكرين المتنورين , وهذا الوصف يصر عليه الملاحدة والعلمانيون , ويقصدون بالتنوير ان فكره نيرا يُخرِج من يتبناه من الظلمات الى النور , ومن حقنا ان نسال هؤلاء هل الفكر التوحيدي المؤمن بوحدانية الخالق ظلامي , ماهي الظلامية فيه ؟ . لنقرأ نصوصا من الفكر التوحيدي الاسلامي كما هي في القران الكريم :
1- ” ولاتبخسوا الناسَ اشياءَهم ” دعوة الى العدل والايمان بحقوق الاخر , هل هذه ظلامية ؟ .
2- ” الذين يتفكرون في خلْقِ السمواتِ والارضِ ربَنا ماخلقتَ هذا باطلا سبحانك ” دعوة الى التفكير والنظر في الطبيعة والاشياء بما يؤدي الى الايمان , هل هذه ظلامية ؟.
3- ” ولايجرمنّكم شنآنُ قومٍ على انْ لاتعدلوا اعدلوا هو اقربُ للتقوى ” دعوة الى العدل والعدالة بان تكون القانون السائد بين الناس , هل هذه ظلامية ؟ .
4- ” ولقد كرّمنا بني آدم ” دعوة الى تكريم الانسان بغض النظر عن اي اعتبار غير اعتبار الانسانية , هل هذه ظلامية ؟ .
5- ” مَنْ قتل نفسا بغير نفسٍ او فسادٍ في الارض فكأنما قتل الناسَ جميعا ومن احياها فكأنما احيا الناسَ جميعا ” دعوة الى احترام الدم الانساني والنفس الانسانية ونهي مشدد عن القتل المجاني وسفك الدماء بغير حق , هل هذه ظلامية ؟ .
هذه جملة من نصوص الفكر التوحيدي الاسلامي , فاذا كان هذا ظلاما وتخلفا بنظر مدعي الحداثة فماهي نصوص الفكر الالحادي التنويرية بزعمهم ؟ .
ان البشرية لم تعانِ كما عانت من الفكر الالحادي والمنتمين اليه عبر مسيرة الانسانية الطويلة , ففي التاريخ القديم كانت الفرعونية , وما ادراك مالفرعونية , يكفي فيها ان الانسان مسخر لخدمة الفرعون وحاشيته , والتاريخ يحدثنا عن موت مئة الف انسان خلال عشرين سنة في بناء الاهرامات , لا لشيء سوى انها قبور للعائلة الفرعونية , وكان العمال مسخرين للعمل ليس لهم اجر على عملهم غير ما يشبع بطونهم لاغير ؟ . وفي التاريخ الحديث ارتكب الفكر الالحادي جرائم ابشع وأمر , فقد مات ملايين البشر في ثلوج سيبيريا بعد نفيهم اليها بقرار من ستالين الماركسي اللينيني , وسلبت الماركسية اللينية من الانسان السوفيتي حقه في ان يملك , وحقه في تحصيل اتعابه من عمله فسرقت الدولة السوفيتية الملحدة جهوده كلها ولم تعطه الا قوت يومه , وهي تشبه هنا الفرعونية في التاريخ القديم . وظلت الماركسية اللينية تتمادى في طغيانها ومصادرتها لانسانية الانسان حتى انتهت الى مزبلة التاريخ كاي فكر شاذ عن الطبيعية الانسانية .
وليست العلمانية باقل بشاعة وظلامية ويكفي في ذلك جرائم النازية والفاشية وحركة الاستعمار الغربي لشعوب العالم الثالث ونهب ثرواته .
قد يثار علينا سؤال عن التكفيريين من اتباع القاعدة وجرائمهم وهم ينتمون الى الاسلام وما يقومون به يحيلونه الى نصوص دينية , اليس ذلك ظلام حالك بوجه الانسانية ؟ . والجواب : ان اعمال القاعدة تعني فئة من فئات المسلمين هي الوهابية , وهي تتعارض مع النصوص الاساسية التي عرضناها آنفا , وهي مدانة من قبل اكثر المسلمين في العالم مما يبعدها تماما عن تمثيل الاسلام باي من اعمالها وجرائمها . ان النظر الى طوائف المسلمين يجب ان ياتي من خلال النص القراني , وليس النظر الى النص القراني من خلال المسلمين , والفرق بين النظرتين شاسع .
ان دفاع الملاحدة والعلمانيين عن القبانجي ليس حبا بعيونه وانما جاء كونه احد معاول الهدم لعقيدة المسلمين خاصة والفكر الديني عامة مع ان طروحاته تكشف عن نفس مأزومة عانت من تبعات الغربة , وتكشف عن عقلية اقل بكثير جدا عن مستوى عقلية الجاهلي في صدر الاسلام , والزنادقة ايام العصر العباسي الاول من امثال ابي العوجاء وابن المقفع وابي الخطاب وغيرهم , فاولئك عندما شككوا مثلا بالقرآن حاولوا ان ياتوا بمثله او بآية من مثله فلم يستطيعوا فسلموا لاعجازه وبيانه , بينما القبانجي وفي تشكيكه بالقران الكريم وتجريده من البلاغة المعجزة لم يأت بنص من انشائه او من انشاء غيره ليضاهي به النص القراني , فهو مثلا جرد سورة قريش من البلاغة – طبعا على هواه – وسبق لي ان طالبته في مقال بعنوان – تضليل مدفوع الثمن – بنص يعرض علينا احوال قريش الاقتصادية والدينية والنفسية كما عرضتها السورة في اربع عبارات لاغير فلم يستجب ولم يستطع , وسورة قريش من اقوى السور القرانية في بلاغتها وكثافة موضوعاتها , فهي عرضت الواقع الاقتصادي لقريش بانهم اهل تجارة يخرجون في موسمين احدهما في الصيف والاخر في الشتاء الى الشام واليمن , ” لايلافِ قريشٍ ايلافِهم رحلةَ الشتاءِ والصيف ” وهو نص يكشف عن ان مجتمع قريش لم يكن مجتمعا زراعيا , ثم عرضت السورة طبيعة ديانتهم وهي الشرك وتعدد الاصنام ودعتهم الى التوحيد ” فاليعبدوا ربَ هذا البيت ” ولم تدعوهم الى عبادة الله تعالى بالاسم مداراة لما استقر في نفوسهم من انحراف وانما عبرت عن الله تعالى بالكناية والوصف ” رب هذا البيت ” والتعبير يقرب من نفوسهم لان البيت الحرام حظي بمكانة رفيعة لدى العرب عامة وقريش خاصة في الجاهلية والاسلام , وعندما يخاطبهم القران بان اعبدوا رب هذا الذي تقدسون , او بان البيت الذي تقدسونه له رب فاعبدوه يكون الخطاب اقرب الى نفوسهم ومشاعرهم , ثم انتقلت السورة لتذكرهم بنعم الله عليهم وهي نعمة تامين تجارتهم صيفا وشتاء وان هذه التجارة دفعت عنهم غائلة الجوع , ونعمة الامن من الخوف , فلم يستطع احد ان يفرض سلطانه على قريش والكعبة التي يعظمونها على الرغم من انهم يعيشون بين ثلاث قوى عظمى هي امبراطورية الحبشة وامبراطورية الفرس وامبراطورية الروم , ولعل الاية تذكرهم بدفع اعتداء ابرهة على البيت الحرام وكيف ارسل الله تعالى على جيشه الطير الابابيل ” الذي اطعمهم من جوعِ وآمنهم من خوف ” .
هذا ماعرضته سورة قريش في عبارات مقتضبة مكثفة لخصت حياة قريش الاقتصادية ومعتقداتها الدينية ووضعها الامني والنفسي في ذلك العالم , لكن القبانجي لايرى في ذلك بلاغة معجزة , بينما هو عاجز عن التكلم بلغة سليمة نحوا وصرفا لدقيقة واحدة من الزمن – انظر محاضراته على موقع الوجدان – .
ان الدعوات البائسة من اجل القبانجي التي يطلقها بعضهم تخالف واقع الحال الذي عليه القبانجي نفسه كونه مواطن ايراني بالجنسية , وليس لنا مطالبة دولة بان لاتعتقل احد مواطنيها عندما يخالف قوانينها , اليس كذلك ؟ .
ملاحظة : سألوا الروائي الكبير بورخيس لما توفي فيلسوف الوجودية الملحد الفرنسي سارتر : هل خسر العالم شيئا بموت سارتر ؟ فاجاب : لم يخسر شيئا , وانما استعاد العالم شيئا من نظافته .