كان يكفيني جليسي في الطائرة أن لا أُدقق بوجوه الآخرين فقد تعارف بي حال جلوسي مقدماً لنفسهِ مباركتهُ لها كونهُ سيجد بي على حد قوله أنيساً لأن لديه أحاديثَ يريدُ أن يتحدث بها وهو مشتاقٌ للكلام ويكاد يختنق وبادرني على الفور وقبل إقلاع الطائرة من أنه كان بحاراً على ظهر سفينةٍ عراقيةٍ ورست في العام 1986 في أحد موانئ البحر الأبيض المتوسط حيث قرر ترك السفينة وتسليم نفسه للسلطات المالطية طالبا حق اللجوء الإنساني وبما أنه يمهلك مهارات بحريةٍ فقد عمل على الفور في إحدى شركات الملاحة مشرفاً على الماكنات الضخمة التي تسير هذه الأجساد العملاقة وكعادة الأغلبية من المهاجرين فقد أحب إحدى المالطيات وتزوجها وأضاف لي والطائرة لم تقلع بعد بأنه يشكو حبها وخروجها اليومي إلى البحر ومداعباتها للبحر أكثر من مداعباتها أطفالها بل ونومها مدفونة في رماله وشكى لي ذهابها لأصدقاءٍ لها وانتبهت إليه هذه المرة بعد أن تغير أسلوبه في طرح موضوعاته وبدا يتلفت وراءه كي لايسمعه أحد .. ولكي أشجعهُ وأبين له اهتمامي بقصته تلك قلت له بأن لكل مجتمع من المجتمعات خصوصيته وإذا التقى مجتمعان متضادان فأن الغلبةَ ستكون لمن يستطيع أن يقدم المثال الأفضل على صحة معارفه وقيمه وإنسانيته إزاء أي نقيض .. قاطعني وقال : لكني قدمت لها المال والاحترام وإلى الآن تذهب إلى البحر وتزور الأصدقاء، أدركت أن المسافة مابين المجتمعات لن أستطيع تقليصها في ذهنه من مجتمع يحافظُ على أرثٍ قد يكون عفى عليه الدهر بل عليه أكل الدهرُ وشرِب وبين مجتمعٍ يجد في أي ممارسةٍ شكلاً من أشكال الحرية والتحرر من القيود ، وبشئ من التودد قلت له : إذهب معها إلى البحر وأدفن جسدك في رماله كما تفعل هي وستشفى من ألآمك . قال لي مشكلة أخرى قلت : أسردها وسأستمع كلياً إليك فقد طويت الكتاب الذي كان مفتوحاً في يدي ولم أجد بعد نفعاً من قراءتهِ بعد أن تيقنت أن لا مجال للهروب .. استأذنتهُ قليلاً بعد أن وضعَت أمامنا أطباق الغذاء، قال لي ليس لي صبرا كي أنتظر دعني أتكلم ، تصور كيف سأنزل في مطار البصرة … سألتهُ وما الضير. قالَ : إن جوازي أجنبي وأسمي هناك في مالطا وفي الجواز (ثيودورو مانوليس ) بعد أن كان اسمي (علوان عباس جفيت ) وطفرت من فمي وقلت له للتندر وللفكاهة (وينك أو وين زرابك ياعلوان ) هو الأخر ضحك وقبلني وقال يمكن أنت إبن عمي فقلت له بصفة المثل أم بالتشابه وقد أثار حماستي وقلت له إبن وطنك والأوطان أقرب من الأب والأم والنسب والانتساب فالأوطان شئ جمعي يلخص وجودنا فرادا وكيانات وبدأت فلسفتي عليه في معنى الأوطان والموت في الغربة وأوجزت له أحاديثاً عن السياب والبياتي والجواهري وسعدي ومعاناة المئات من الأدباء والمثقفين ومعاناة هذا الشعب بأكمله مشفوعا بتاريخ الإحتلالات ، ولم أجد ما ذكرت قد أثر به قيد أنملة لأنه يقاطعني بين الحين والحين بمفردة ( صدق- أ كو هيج ) قال في المطار أي مطار البصرة سأعطي رشوة للشرطي الذي سيختم جوازي وسأتصل عند هبوطنا في البحرين بابن أخي (شاب سبع ) ويعمل ( مع الجماعة )كان وجههُ أصفراً وألان كالتفاحة أرسلوا لي صورَه إلى مالطا عبر الإنترنيت ، عندما رُفِعَ الطعام سقطت حبيبات من الرز المحمر على بنطاله وراح ينكتها نكتاً بيديه ، تأملت بنطاله الجينز وكان ماركة سبنسر وكذلك حذائه وبدأت أتطلع فيه (تي شيرته ذو علامة الغولف _ كاسكيت غطاء رأسه سواره الفضي وقلادته ،)
وأنا أتناول الشاي بعد نظرةٍ فاحصةٍ قلت له مبتسماً : كيف الحال ياثيودورو مانوليس شكلاً وياعلوانَ مضموناً ، تصور ياأخي لا أعلم كيف هي البصرة الآن أبنيتها شوارعها ناسها ، لكن أكيد .أكيد أن الناس هناك لا زالوا طيبين ، نخيلها كم بقي منه ، وهل لازالت ساحة أم البروم ؟ ولكي أداري حرقته بغير المتوقع سألتهُ :هل توفى شرهان كاطع؟ قال لي والدي الله يرحمه كان يجلب لنا كاسيتات ريفية من محل تسجيلاته ، ووجدتها فرصة أن أساله عن من يتذكر من أصحاب الفكر والأدب في مدينة المدن وخاصرة العراق الدافئة فذكر لي من ذكر ولكنه رد عليَ: أخي لقد تركت البصرة منذ أكثر من عشرين عاماً ويقولون العالم يتغير لكن البصرة لن تتغير ، هبطنا المنامةَ ليلاً في مطارها الذي أتقصده في جميع رحلاتي ولابد أن أمر به . استأذنني ثيودورو مانوليس وذهبَ الى w.c وجلست في إحدى كافيتريات المطار أتناول القهوةَ وبعد برهة جاء رجل وقف فوق راسي مرتدياً دشداشةً بيضاء وعقالاً وينتعلُ خفاً وسألني (ها .. إشلوني هَسه ) لم أصدق هذا ثيودورو وأعاد عليَ مقولتي : الأوطان لا تُبدل ، قال تصور هذه الفكرة أتت في بالي وأنا في مالطا واشتريت هذه الحاجيات من أحد المحال القديمة في دمشق وحين سأنزل في مطار البصرة سينطبق عليَ المثل (ضاع أبتر بين البتران )
إتصل بإبن أخيه الذي مع الجماعة وأطمأن ساعتها وطلب لنفسه قهوة تركية ودار رأسه حين نظر إلى ساعته وقال الآن هي بالبحر ، استأذنتهُ حين نودي على ركاب الطائرة المتجهة إلى الدوحة وقلت في نفسي حتى الثرثرة أحياناً حاجات إنسانية
[email protected]