23 ديسمبر، 2024 2:35 ص

تجربتي الشعرية
كنت ُ أنا وصديقي خالد نلهو أيام الطفولة على تلك التلال المحاذية للمخيم
ننزل خلفها حيث مجرى النهر الخفيف ، لم تكن مياهه عميقة وهي صافية ، تمكنّا من رؤية الحصى الصغيرة ، وفراخ الضفادع ” البلاعيط ” وبعض أسماك ٍ صغيرة قد جيءَ بها من البحر ، نستمتع بمتابعة حراكها داخل الماء ومطاردتها بأنظارنا غير البريئة ، حيث كنا نحاول اصطياد بعضها في عملية لهو ، لا حدود لها غير متعة اللعب الطفولي ، كان خالد كثيراً ما يثير الماء بإلقاء الحجارة ليشوش رؤيتي للأسماك التي أحاول التقاطها ، فاصرخ عليه ناهيه عما كان يفعل ، لم يكن يستجيب لصراخي وكان دائما ً يقول لي :” سيبك من هيك صيدة ما بتشبع ”
لم أكن أنا بدوري استجيب لقوله ذاك ، بل أواصلُ رياضةَ التحديق في قعر المجرى النهري ، فقد كنت أرى فيها متعة ً لا حدود لها ، ففيها جهد متواصل واصرار على اصطياد أية سمكة ، وإن كانت لا تُشبع ؛ فلم يكن الشبع هو الغاية وإلا لكففت عن ذلك . ربما ذلك الاصرار وتلك الهواية التي لا تُشبع تشبه ما أسعى إليه في بناء قصيدة ، دائماً أشعر بعدها أن القصيدة الأشهى لم أصطدها بعد
البدايات :
لاشك أن البدايات تكون متلعثمة ، وخصوصاً لطالب لم يتجاوز خمسة عشر عاماً ، فقد كان مبتغاه آنذاك هو التعبير فقط عن الذات الملتهبة بهمومها المبكرة : اغتراب عن الوطن والأهل وفقدان الأب ، وما يشكله ذلك الفقد لطفلٍ من معاني كثيرة ، ربما أهمها فقدان الاحساس بالطمأنينة والامان ، فانداح يعبر كيفما اتفق عن تلك الاحاسيس دونما الالتفات لجنس النص الذي يكتبه ، وربما لم يكن يعنيه تجنيس ما يكتب ، والاكيد أنه في تلك المرحلة لم يكن يعلم هذه اللغة التي اتحدث الان فيها ، وما يقال عن اجناس وتجنيس للمكتوب .
غير أن الامور لم تستمر طويلاً في هذا الاتجاه ، فسرعان ما انتبه المدرسون الذين يحيطونني بالرعاية والاهتمام ، الى جرأتي في التحدث أمام الطلاب وأمامهم في كثير من المناسبات الوطنية ، فبدأوا يرشدونني الى ضرورة الاطلاع على كتب في الشعر والتاريخ والقصص المختلفة ، اضافة الى الرعاية الدائمة من الأم الحريصة على سلامة لغتي ، وتصويب ما يعتريها من خلل ٍ هنا أو هناك .

المعرفة والانحياز :
لا تصدقوا بأن أحداً ما ممن أُبتلي بداء الكتابة ، أنه استطاع الاحاطة بكل شيء ، أو أنه استطاع كتابة ما يطمح اليه ، أو ما يريد تماماً ، فالكتابة هي كرة النار المتدحرجة التي تسعى دائماً لالتهام المزيد من الستائر المحيطة بها ، بك َ لإيصال اللهب حيث تنطفئ الفكرة ، ويخمد الاحساس بين الضلوع ، مُشعلاً بياض الورق .
انطلاقاً من هذا الوعي ومن وعي الصيد الذي لا يُشبع ،بدأت أتعرف على شعراء العربية آنذاك ، وعلى بعض المفاهيم الضرورية الخاصة في بناء مدماك ٍ شعري سليم ، فقرأت للمتنبي وزهير بن ابي سلمى ولامرىء القيس وابي تمام ،اضافة الى محمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو وغسان كنفاني في القصة والرواية وبعضاً من الكتب التوجيهية ، لكتاب ٍ عرب من سوريا حول البحور الشعرية والبلاغة العربية ، وبعضاً من كتب التاريخ العربي ، تلك التي كانت تصدرها وزارة الثقافة والارشاد القومي في سوريا .
ومبكرا ًاستطاع أبو تمام في تلك الفترة أن يأسرني بقصيدته ” عمورية ”
السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتب ِ في حدَه ِ الحدُّ بين الجدِّ واللعب ِ
وفي قصيدة أخرى له حيث يقول :
ونفس ٌ تعاف ُ العارَ حتى كأنَّه هو الكفرُ يوم الروعِ أو دونه الكفر ُ
فأثبت َ في مستنقع ِ الموت ِ رجله ُ وقال َ لها من تحت ِ أخمصك ِ الحشرُ
كما كنت ُ آنذاك قد قرأت لمحمود درويش :
قصائدنا بلا لون /بلا طعم بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت
و إن لم يفهم البسطا معانيها / فأولى أن نذريها
و نخلدَ نحن للصمتِ
هذا الجرس الموسيقي العالي وهذا الكبرياء والعنفوان في التحدي ، وهذه السلاسة وهذا الوضوح في ايصال المحمول الذي يريد ، كان ديدني آنذاك لأنني كنت و ما زلت أؤمن بأن الشعر يجب أن يحمل رسالة ، يستطيع ايصالها للمتلقي ،

وان اختلف فهمي فيما بعد لطبيعة الرسالة ، وأدوات الايصال الواجب استخدامها في عملية الصيد المُشتهى للحظة الاحساس بالأشياء والأفكار .
ولكن تلك المعرفة المتدحرجة من مربع الى آخر ، لم تكتف بما حازته وبدأت تبحث عن مزيد من مسوغات الانحياز الى هذا التيار أو ذاك .
في العام 1982 كان عاماً فاصلاً في التجربة ، فقبله كنتُ استمتع بإلقاء ما أُسميه آنذاك قصائد في المدرسة ، أو في ساحة المخيم حيث احتفالات المنظمة او الفرقة الكشفية ولكن في ذلك العام اجتاحت اسرائيل لبنان ، وكنت في تلك المرحلة ذاك الفتى الذي انتفض للحدث الجلل ، تركت الدراسة وشاركت وشاهدت من مواقع ليست امامية في المعركة ، ما يجري من اختلاط للوقائع والاحلام التي كانت تراودنا ، فكتبت بعد الخروج من لبنان قصيدة بعنوان ” اين الضمير يا عرب ”
اذكر أن مطلعها كان : بلادي وشعبي هنا في خطر ْ
فلا تحرموني هنا من ظفر ْ
وهاتوا الأيادي نشدُّ الهمم ْ
ونُشرت تلك السطور في صحيفة ” صدى المعركة ” التي كانت تصدر من دمشق عن الاعلام الفلسطيني الموحد ، وفي صحيفة محلية أخرى في مدينة اللاذقية ، تلك القصيدة على الرغم من بساطتها فإن نشرها وضعني أمام مسؤولية ، وأمام سؤال مهم : ماذا تكتب بعد ، وكيف تستطيع اصطياد اللحظة المناسبة والفكرة الملائمة ، فكان لقائي في تلك الفترة في دمشق وبمحض الصدفة مع الشاعر خالد ابو خالد من خلال أمسية شعرية قرأت فيها تلك القصيدة ، فاحتفى الشاعر ” الأب بالابن الضال ” الذي يفتش عن ذاته وعن قوام ما يريد من المعاني والاشكال .
البحث عن هوية :
خالد أبو خالد وجليل حيدر وصالح هواري وعصام ترشحاني و المرحومة هند هارون والفدائي المثقف ” ابو جبر ” جميعهم كان لعلاقتي بهم وتواصلي معهم آنذاك دور هام في انفتاحي على عوالم معرفية جديدة ، أسهمت في تطوير قصيدتي وفي بحثي الدؤوب عن هويتي الخاصة ، رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجه البحار نحو صيد ٍ يُشبع من بحر لا قرار له .
وذهبت عميقا ً في تلاطم تلك الامواج العاتية ، مرة في الشعر والشعراء ل ت . س . اليوت ومرة في تنظيرات أدونيس وشعره ومرة مع سان جون بيرس واكتافيوباث ومراتٍ مع النابغة الذبياني الذي يُطربني ، ولا يُعجبني هلعه من الحاكم وكثيراً مع درويش ومعين بسيسو اللذين أرى صورتي في قصائدهم ولكن أدركت فيما بعد أن الاضافة هي لمسات محدودة ولاسيما أن البشر جميعاً يتناولون قضايا واحدة هي : الحب والكراهية والموت والحياة وربما كان قول زهير بن ابي سلمى هو دليلي في هذا الصيد حيث يقول :
ما أرانا نقول ُ إلا مُعادا ً أو مُعارا ًمن لفظنا مكرورا
لسعة الشعر :
في خضم البحث عن صيدٍ شهي لا يُشبع ، تعلمتُ ألا انحاز لهذه السمكة أو تلك فالجدوى هي في الصيد ، هل تصيد أو لا تصيد ، وفي الشعر ليس مهماً عندي أن أكتب موزوناً أو غير موزون – على الرغم من حبي للإيقاع – فانا مع تجاور الاشكال وانا منحاز لجمالية النص ولمحموله الذي يستطيع ايصال لسعة للمتلقي
والنص أياً كان شكله اذا لم يستطع ايصال لسعة ، سيبقى عاجزا وفاشلا عن تسميته صيدا شهياً لا يُشبع .
بعد هذه الرحلة الطويلة التي أوجزها في هذه السطور أرجو أن يحالفني الحظ في صيد شهي فإنني لم أشبع بعد .