23 ديسمبر، 2024 5:46 م

تمهيد
للعلم خصائصه التي تميّزه عن غيره ، وهذه الخصال عديدة منها :

1 – أن الاشياء تنقص اذا اعطيتَ منها، الاّ العلم فانه يزيد مع الانفاق .

يقول امير المؤمنين علي (عليه السلام) :

( المال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق )

اي ينمو ويزيد .

2 – ان الاشياء كلّها يقوم الانسان بحمايتها وحراستها ،ضماناً لبقائها بعيدة عن التلف والضياع الاّ العلم ، فانه يحمي الانسان، ويرفعه الى القمم الشامخة .

يقول امير المؤمنين (ع) :

(العلم يحرسك وأنت تحرس المال ) .

3 – ما من وعاء يمتلئ إلاّ ويضيق بما فيه ، الاّ العلم فانه يتسع وعاؤه باتساعه، يقول أمير المؤمنين (ع) :

(كل وعاء يضيق بما فيه الاّ وعاء العلم فانه يتسع )

4 – حين يزيد الشيء ويكثر ، تنخفض قيمتُه ، وتقّل أهميتُه، الاّ العلم فانه كلما زاد وكثر كان أغلى قيمة .

يقول أمير المؤمنين (ع) :

(كل شيء يعز اذا نزر ، ماخلا العلم، فانه يعزّ اذا غزر )

طرائف الحكم /ج8/ص95

-1-

ان العلماء هم أولى الناس برعاية حُرمة العلم، وصيانته عن أنْ يمتهنه الحكام ،وكما قال القاضي الجرجاني :

ولو أنَّ أهل العلم صانُوه صانَهُمْ

ولو عظّموه في النفوس لَعُظّما

وحين يتفاضل الناس ، يبرز العلم كقيمة موضوعية يرتفع بها شأن العالم، ويتفوق به على الآخرين .

ذلك أنّ العلم هو النور بينما الجهل هو الظلمة … بل هو الموت

قال الشاعر :

لاتُعْجِبنَّ الجهولَ حُلتُه

فذاك مَيْتٌ وثوبُه كَفَنُ

-2-

ومن أهمّ ما يكشف عن هوية العالم الحقيقية ،هو القرب أو البعد عن الحكّام والسلطويين الذين لايتورعون عن اجتراح المظالم .

ان أضعف الايمان يقتضي العلماء ان يكونوا بعيدين عن كل السلطويين المتلبسين بالأوزار ، ان لم نقل مواجهتهم الساخنة لكل قوى الظلم والظلام .

ومن يتسكع على ابواب السلاطين مُدّعيا العلم والزهادة والنزاهة فانّه كذّاب، وهو من عبيد الدنيا لا من العلماء الربانيين يقينا .

-3-

وكُتبُ التاريخ والادب والاخلاق، حافلة بالعديد من القصص البليغة، التي تعكس إشراقات أصلب المواقف في طرز التعامل مع السلطويين .

انّها مواقف شامخة، تتميز بالحنكة والكياسة إزاء ذوي الجاه والسلطان، الذين قد تنسيهم السلطة وغرورها، ما يتعيّن عليهم مراعاتُه، من أصول وآداب في مضمار التعامل مع العلماء .

انهم قد يستدعون عالماً ليسألوه عن قضية، وفي ذلك تهاون صريح واستخفاف واضح بحرمة العلم ، ولكنهم سرعان ما يكتشفون أنهم لم يُحسنوا التصرف حيث اللازم الذهاب اليه بدلاً من استدعائه .

-4-

ومن الحكايات المعبّرة في هذا الباب ما أوردهُ ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة ج2 ص219-220 في ترجمة حماد بن سَلَمة، حيث دخل عليه مقاتل بن صالح، فبينما هوعنده جالس، اذ دقّ الباب داقٌ فقال :

ياصبيّة اخرجي فانظري من هذا ؟

فقالت :

رسول محمد بن سليمان – ويبدو ان هذا كان الوالي –

قال حماد :

قولي له يدخل وَحْدَهُ .

فدخل فناوله كتاباً فاذا فيه :

( بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن سليمان الى حماد بن سلمة

أما بعد :-

فصبّحك الله بما صبّح به أولياءه وأهل طاعته .

وقعتْ مسألة فَأتِنا نسألك عنها والسلام )

قال حماد :

ياصبيّة هلّمي الدواة

ثم قال لمقاتل بن صالح :

اقلب الكتاب والكتب :

وكان مما كتب :

( إنا ادركنا العلماء وهم لايأتون أحداً ، فان كانت وقعت فَأتِنا وأسْأَلنا عما بدا لك ، وان أتيتني فلا تأتني الاّ وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك …

والسلام )

يقول مقاتل :

( فبينما أنا عنده ، دقّ داقٌّ الباب فقال :

ياصبية اخرجي فانظري من هذا ؟

فقالت :

محمد بن سليمان

قال :

قولي له ليدخل وحده ،

فدخل فسلّم ثم جلس بين يديه

فقال :

مالي إذا إذا نظرتُ اليك امتلأت رعبا ؟

فقال حماد :

سمعت ثابتا البناني يقول :

سمعت أنس بن مالك يقول :

سمعت رسول الله (ص) يقول :

{ ان العالم اذا أراد بعلمه وجه الله ، هابّهُ كلُّ شيء .

واذا أراد ان يكتنز له الكنوز هابَ مِنْ كلّ شيء }

فقال :

أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه

قال :

قال ارددها على مَنْ ظلمْتَهُ بها

قال :

والله ما أعطيتُك الاّ ما ورثتهُ

قال :

لا حاجةَ لي فيها ،

ازوها عني ، زوى الله عنك أوزارك .

قال :

فتقسمها

قال :

فلعلي ان عدلت في قسمتها، ان يقول بعض من لم يرزق منها لم يعدل

ازوها عني زوى الله عنك أوزارك .

ونلاحظ هنا

1 – الحرص الواضح على حفظ حرمة العلم ، ورفض الاستجابة لرغبة الحاكم، في ذهاب العالم اليه، ودعوة الحاكم الى المجيء لمجلس العالم، للسؤال عما يريد .

2 – اشتراط إبعاد الجلاوزة حين دخول الحاكم على العالم، وفي ذلك ما يُظهر إدانة العالم لكلّ ما يتمترسُ به الحكّام من أعوان وأزلام .

3 – رفض القبول بما يقدّمه الحاكم للعالم من أموال ، لأنها مصيدة لايقاعه في الفخ .

4 – ورفض النيابة عن الحاكم في تقسيم الأموال على الفقراء ، لأنها عملية تشي بوجود الصلة بينه وبين السلطة ،

وبالتالي فانها تفقده ثقة الناس به ، وتخرجه عن كونه من العلماء الربانيين .

*[email protected] .