تمهيد
للعلم خصائصه التي تميّزه عن غيره ، وهذه الخصال عديدة منها :
1 – أن الاشياء تنقص اذا اعطيتَ منها، الاّ العلم فانه يزيد مع الانفاق .
يقول امير المؤمنين علي (عليه السلام) :
( المال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق )
اي ينمو ويزيد .
2 – ان الاشياء كلّها يقوم الانسان بحمايتها وحراستها ،ضماناً لبقائها بعيدة عن التلف والضياع الاّ العلم ، فانه يحمي الانسان، ويرفعه الى القمم الشامخة .
يقول امير المؤمنين (ع) :
(العلم يحرسك وأنت تحرس المال ) .
3 – ما من وعاء يمتلئ إلاّ ويضيق بما فيه ، الاّ العلم فانه يتسع وعاؤه باتساعه، يقول أمير المؤمنين (ع) :
(كل وعاء يضيق بما فيه الاّ وعاء العلم فانه يتسع )
4 – حين يزيد الشيء ويكثر ، تنخفض قيمتُه ، وتقّل أهميتُه، الاّ العلم فانه كلما زاد وكثر كان أغلى قيمة .
يقول أمير المؤمنين (ع) :
(كل شيء يعز اذا نزر ، ماخلا العلم، فانه يعزّ اذا غزر )
طرائف الحكم /ج8/ص95
-1-
ان العلماء هم أولى الناس برعاية حُرمة العلم، وصيانته عن أنْ يمتهنه الحكام ،وكما قال القاضي الجرجاني :
ولو أنَّ أهل العلم صانُوه صانَهُمْ
ولو عظّموه في النفوس لَعُظّما
وحين يتفاضل الناس ، يبرز العلم كقيمة موضوعية يرتفع بها شأن العالم، ويتفوق به على الآخرين .
ذلك أنّ العلم هو النور بينما الجهل هو الظلمة … بل هو الموت
قال الشاعر :
لاتُعْجِبنَّ الجهولَ حُلتُه
فذاك مَيْتٌ وثوبُه كَفَنُ
-2-
ومن أهمّ ما يكشف عن هوية العالم الحقيقية ،هو القرب أو البعد عن الحكّام والسلطويين الذين لايتورعون عن اجتراح المظالم .
ان أضعف الايمان يقتضي العلماء ان يكونوا بعيدين عن كل السلطويين المتلبسين بالأوزار ، ان لم نقل مواجهتهم الساخنة لكل قوى الظلم والظلام .
ومن يتسكع على ابواب السلاطين مُدّعيا العلم والزهادة والنزاهة فانّه كذّاب، وهو من عبيد الدنيا لا من العلماء الربانيين يقينا .
-3-
وكُتبُ التاريخ والادب والاخلاق، حافلة بالعديد من القصص البليغة، التي تعكس إشراقات أصلب المواقف في طرز التعامل مع السلطويين .
انّها مواقف شامخة، تتميز بالحنكة والكياسة إزاء ذوي الجاه والسلطان، الذين قد تنسيهم السلطة وغرورها، ما يتعيّن عليهم مراعاتُه، من أصول وآداب في مضمار التعامل مع العلماء .
انهم قد يستدعون عالماً ليسألوه عن قضية، وفي ذلك تهاون صريح واستخفاف واضح بحرمة العلم ، ولكنهم سرعان ما يكتشفون أنهم لم يُحسنوا التصرف حيث اللازم الذهاب اليه بدلاً من استدعائه .
-4-
ومن الحكايات المعبّرة في هذا الباب ما أوردهُ ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة ج2 ص219-220 في ترجمة حماد بن سَلَمة، حيث دخل عليه مقاتل بن صالح، فبينما هوعنده جالس، اذ دقّ الباب داقٌ فقال :
ياصبيّة اخرجي فانظري من هذا ؟
فقالت :
رسول محمد بن سليمان – ويبدو ان هذا كان الوالي –
قال حماد :
قولي له يدخل وَحْدَهُ .
فدخل فناوله كتاباً فاذا فيه :
( بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن سليمان الى حماد بن سلمة
أما بعد :-
فصبّحك الله بما صبّح به أولياءه وأهل طاعته .
وقعتْ مسألة فَأتِنا نسألك عنها والسلام )
قال حماد :
ياصبيّة هلّمي الدواة
ثم قال لمقاتل بن صالح :
اقلب الكتاب والكتب :
وكان مما كتب :
( إنا ادركنا العلماء وهم لايأتون أحداً ، فان كانت وقعت فَأتِنا وأسْأَلنا عما بدا لك ، وان أتيتني فلا تأتني الاّ وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك …
والسلام )
يقول مقاتل :
( فبينما أنا عنده ، دقّ داقٌّ الباب فقال :
ياصبية اخرجي فانظري من هذا ؟
فقالت :
محمد بن سليمان
قال :
قولي له ليدخل وحده ،
فدخل فسلّم ثم جلس بين يديه
فقال :
مالي إذا إذا نظرتُ اليك امتلأت رعبا ؟
فقال حماد :
سمعت ثابتا البناني يقول :
سمعت أنس بن مالك يقول :
سمعت رسول الله (ص) يقول :
{ ان العالم اذا أراد بعلمه وجه الله ، هابّهُ كلُّ شيء .
واذا أراد ان يكتنز له الكنوز هابَ مِنْ كلّ شيء }
فقال :
أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه
قال :
قال ارددها على مَنْ ظلمْتَهُ بها
قال :
والله ما أعطيتُك الاّ ما ورثتهُ
قال :
لا حاجةَ لي فيها ،
ازوها عني ، زوى الله عنك أوزارك .
قال :
فتقسمها
قال :
فلعلي ان عدلت في قسمتها، ان يقول بعض من لم يرزق منها لم يعدل
ازوها عني زوى الله عنك أوزارك .
ونلاحظ هنا
1 – الحرص الواضح على حفظ حرمة العلم ، ورفض الاستجابة لرغبة الحاكم، في ذهاب العالم اليه، ودعوة الحاكم الى المجيء لمجلس العالم، للسؤال عما يريد .
2 – اشتراط إبعاد الجلاوزة حين دخول الحاكم على العالم، وفي ذلك ما يُظهر إدانة العالم لكلّ ما يتمترسُ به الحكّام من أعوان وأزلام .
3 – رفض القبول بما يقدّمه الحاكم للعالم من أموال ، لأنها مصيدة لايقاعه في الفخ .
4 – ورفض النيابة عن الحاكم في تقسيم الأموال على الفقراء ، لأنها عملية تشي بوجود الصلة بينه وبين السلطة ،
وبالتالي فانها تفقده ثقة الناس به ، وتخرجه عن كونه من العلماء الربانيين .