لو سألت اي مسلم في ارجاء المعمورة, هل الصيام واجب؟ لاجابك بنعم وستكون اجابة رجل الدين بان الصيام ليس فقط واجب بل انه من اركان الدين بحيث من دونه يتحول المسلم من الايمان الى الفسوق بل قد يكون ترك الصيام سببا في الدخول الى النار.
ولكن السؤال هو هل ورد في القران ان الصيام واجب وان من لا يصوم يدخل النار؟
سنجيب على هذا التساؤل المهم في هذا البحث السريع والذي هو محاولة لشرح اية الصوم باستخدام ايات القران نفسها والتعرف على مفهوم الصيام وهل هو عبادة ترتبط بايمان المرء ام انه غير ذلك. كما سنحاول طرح اسئلة ناقدة حول بعض الاحكام الفقهية المتعلقة بالصيام وعرض بعض الاشكالات حول فكرة الصوم نفسها وتفاصيلها وطريقة ادائها.
سنعتمد في هذا البحث المنهج القصدي في فهم ايات الصيام وسنحاول ان نفهم معنى كل مفردة قرانية من خلال الاقترانات اللفظية لنفس المفردة او اشتقاقها من ايات قرانية اخرى.
ولمن لم يسمع بالمنهج القصدي او النظرية القصدية نقدم هذا الموجز السريع:
مختصر النظرية: ان لكل لفظ معنىً حركيا ومعنىً جذريا عاماً وثالثاً اصطلاحياً وهو الاكثر استخداما, وليس بالضرورة ان يكون المعنى الثالث صحيحا من حيث الاستخدام فالاصطلاح قد يكون خاطئاً ومربكا عند المقارنة مع المعنى الحركي العام. فالاصطلاح جزء من المعنى الجذري والذي هو بدوره جزء من المعنى الحركي العام.
القرأن الكريم يستخدم المعنى الحركي العام والناس قد يفهمون منه المعنى الاصطلاحي الخاطيء لديهم. فالقران صادق في استخدام الاصطلاح, والاعجاز انما هو في استخدام المعنى الحركي بما لا يتناقض مع الاصطلاح, وبهذا الفهم فعندما يقول القران ان الذين امنوا لا يعني انهم انفسهم المؤمنون, وعندما يقول الذين اوتوا الكتاب لا يعني الذين اتيناهم الكتاب, فرب العزة يقصد بالضبط ما يقول ولا يحق لاحد ان يقول الله ما لايقول, فيدعي ان الذين اتيناهم الكتاب هم انفسهم الذين اوتوا الكتاب, بل ان هناك قصدا عميقا من استخدام التعبيرين لا يظهر الا بلحاظ الاقترانات اللفظية لكل تعبير في ايات اخرى.
مثال توضيحي:
“لتوضيح المعاني الثلاث السابقة نورد المثال الآتي: فلفظ (تراب) مثلا له ثلاثُ معانٍ هي:
المعنى الذهني: وهو المعنى المتبادر، وهو متغير دومًا وينطوي على استعمالات مجازيةٍ في كلام المخلوقين كما في قولهم (وجدته تراباً) أي لشحوبه او لضعف بدنه وهزالته إن كان المقصود به رجلاً أو لتهشمه إلى قطعٍ ناعمةٍ إن كان المقصود بهذا القول شيئًا من زجاجٍ او اي شي تعرض للتدمير كالسيارة التي تصطدم بشجرة مثلاً.
المعنى الأصلي : إن المقصود بالتراب وفق هذا المعنى الأجزاء والقطع الدقيقة المتشابهة والتي إذا اجتمعت انبثقت منها حركة ممكنة وهذا المعنى ممكن إطلاقه على أي شيء يتصف بهذا الوصف وليس فقط على التراب المعروف.
المعنى الحركي: هذا المعنى يصف حقيقة كل جزء ودقيقة فيه أي الترا ب وصفًا جوهريًا داخليًا يطابق تكوينه.
وإذن فالمعنى الذهني هو جزء من المعنى الأصلي اللغوي، والمعنى الأصلي في اللغة هو جزء من المعنى الحركي.
ولما كان القرآن لا يستعمل إلاَّ المعنى الحركي فإن شرح ألفاظه عن طريق المعنى الذهني الاصطلاحي المتغير يجعل القرآن متناقضًا ويفقد نظامه المحكم.
ولهذا السبب “أي المعنى الحركي فأن المعنى التام للعبارة القرآنية الكاملة هو شيء لا يدرك، وإّنما تُدرك أجزاء منه عن طريق الاقتران”*(مقتبس من كتاب اللغة الموحدة لعالم سبيط النيلي بتصرف).
ان للنظرية وصايا عشرة نعتمدها في بحثنا هذا وهي ان القران الكريم وهو كلام الخالق ليس ككلام البشر ولايمكن تأويله باستخدام قواعد اللغة التي ابتدعها الناس وغيروها بمرور الازمنة, وما ينطبق على كلام المخلوقين لا ينطبق على كلام الخالق بالضرورة وعليه فالوصايا العشرة هي:
(1-لا ترادف، 2-لا مشترك لفظي، 3-لا حذف، 4-لاتقديم، 5-لا تأخير، 6-لا زيادة، 7-لا كناية، 8-لا مجاز، 9-لا استعارة، 10لا إيجاز وإطناب) في النص القرآني خصوصًا. أن نسبة اية من هذه الامور الى الله يمثل نسبة النقص والعبث والجهل والضعف الى الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا, لان الله هو احسن القائلين ومن احسن من الله قيلا وهو اقدر ان يشكل عبارة تتضمن ما يريد ايصاله للناس دون ان يحذف او يقدر اويزيد او ينقص.
نأتي الان اهم أية يقول الفقهاء وعلماء الدين انها نزلت في فرض ركن الصيام:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿١٨٣﴾أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن
تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴿١٨٤﴾ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿١٨٥﴾البقرة
لكي نفهم الاية علينا اولا ان نحاول التفصيل في فهم الكلمة المفصلية في الاية وهو فعل كٌتبَ بضم الكاف وكسر التاء وفتح الباء.
الباحثون في علم الحروف وابرزهم عالم سبيط النيلي يقولون ان لكل حرف معنىً محدداً وعند تركيبه مع حرف اخر او مجموعة حروف اخرى بانسجام معين يتكون معنى في ذاته يتطابق مع وجود خارجي. اي ان المنهج القصدي لا يؤمن باعتباطية الترابط بين الدال والمدلول, فكلمة باب مثلاً لم تسمى هكذا اعتباطاً بحيث يمكن لقائل ان يقول سنغير الكلمة من اليوم ونسمي الباب قلماً. بل ان احرف كلمة باب هي من التناسق والترابط بحيث ان حركتها اللفظية تشير الى ماهية لها وجود عيني خارجي وهو الباب المادي او الباب المعنوي.
واي حرف بنفسه عند نطقه يشير الى حركة محددة قد تكون زمانية او مكانية او زمكانية. ويقول واضعي النظرية ايضا ان هناك ثلاثة حروف تعتبر محورية من بين بقية الحروف ولايمكن نطق بقية الحروف من دونها وهي الالف والياء والواو. فالواو تمثل اشارة الى المكان والياء الى الزمان في حين يشير الالف الى الزمكان. لاحظ اننا نبدا كلمة “انا” بالالف وهي اشارة الى وجود خارجي محدد بزمان ومكان. فانت عندما تنطق هذه الكلمة تشير الى نفسك الموجودة الان وفي هذا المكان فاذا اضفت لها “كنت” اي ” انا كنت” فقد قمت بنفس العملية غاية ما في الامر ان الزمان هنا اصبح في الماضي والمكان قد يكون نفس الموضع او موضوع اخر.
وعلى هذا فان لكل حرف حركة محددة ترسم مسارا معينا يقوم الحرف التالي في الكلمة بتحديد مساره او اكمال ما بدأت به من حركة او التاثير فيه بحيث ياخذ شكلا اخراً يجسد وجودا خارجياً محدداً او بعدا حركيا اخراً.
ولكي نفهم معنى الفعل كتب علينا فهم حركة الحروف المتكونة منها باختصار:
الكاف:تمثل تكتل الحركة مع ما يشبهها. حاول ان تنطق الكاف وانظر كيف يخرج الحرف! انك تحاول ان تجمع قوى على لسانك وتهيئها للنطق.
التاء:اجتذاب حركات. حاول ان تنطق التاء هكذا تتتتتت, ستجد انك تحاول اجتذاب مجموعة عناصر لتحويلها الى حركة.
الباء:انبثاق حركة. عند محاولتك لنطق الباء ستجد انك بقوة تدفع شيئا الى الخارج.
عند تطبيق هذه القاعدة على كلمة كتب نحصل على التالي:
“ك ت ب :* الكّاف تمثل تكتل المتشابهات , التاء اجتذاب حركات , فالاجتذاب بعد التكتل .إذن كلّ حركة منتظمة لها حركات مجتذبة . ثمّ تنبثق حركة واحدة من الجميع بالباء, ما هذا ؟ إنّه مثل اجتماع لرؤساء لجنةٍ ما ثمّ استدعاء جميع المؤيدين والا نصار , وفي الختام يبعثون شخصاً منهم يفاوض من بيده الا مر أو يقنّعه بفكرةٍ ما . وكذلك كلّ كتاب فأنما هو فكرةٌ صادرةٌ عن جمعٍ بين حقائق أوقضايا متعدّدة ويحاول تأكيد هذه القضايا بالمؤيدات والرموز الكتابية , والمجموع يهدف إلى ابراز مسألة محدّدة. في الكّاف تنظيم للأفكار وفي التاء توسع واستخدام أدوات وفي الباء إظهار فكرة.
والمعنى الحركي أن هناك قوى تحمل الحركة المنظمة بالكاف تتمثل بالتاء) كتب عليكم القتال (ليس يعنى( فر ض, أو أوجب أو قضى أو غير ذلك (بل( كتب ( هو ) كتب ( ولا يمكن استبدال المفردة بغيرها (لا ترادف).
وعلى المعنى الحركي : أنتم التاء تحملون الآن الفكرة المتأ لفة في حركاتها والتي تريد الانبثاق والحركة إلى بعدٍ آخرٍ ولن يتم ذلك إلاّ باختراق طريقٍ في كتلة الحركة المواجهة لكم وهو القتال . تتّسم مفردة ) كتب ( بحريةٍ في اتخاذ القرار منوطةٍ بالمخاطب ليست موجودة في ) قضى ( أو ) أوجب ( أو ) فرض ( كما لو كان القتال شيئاً يخصّ المخاطَب نفسه قد غفل عن تذكّر منافعه, لان كراهية القتال لا تعني أنّه غير نافع, لذلك عقّب ) كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) البقرة (216)”.*(مقتبس من كتاب اللغة الموحدة لعالم سبيط النيلي بتصرف).
بعد هذه المقدمة الجافة التي قد تحتاج الى قرائتها عدة مرات لمن لم يطلع على النظرية القصدية نعرض الاسئلة الاستفهامية حول الصيام:
1-هل يريد الله منا الصيام لغاية في نفسه لانعرفها؟ اي بمعنى ان الله يحب من مخلوقاته ان يتوقفوا عن الطعام والشراب لساعات معينة من اليوم لمدة شهر كامل. وقد ورد في الحديث ان الله يقول “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ” فالسؤال هنا ماذا يريد الله من امتناع مخلوقاته عن الاكل والشرب؟ هل هو له لحكمة لايعلمها خلقه ام لمنفعة الناس بالصيام وهم لايعلمون بهذه المنفعة كما تؤكدها نهاية الاية (ان كنتم تعلمون), وعندها لن يكون الصيام له بل لخلقه؟
2- لماذا لم تقل الاية فُرض او وجب او فرضتُ او وجبتُ او امرتكم بالصيام او عليكم الصيام وليس كُتبَ؟ والله قادر على ذلك وهو لا يريد ان يحير عباده الضعفاء في فهم وتفسير اياته فهو ارحم الرحمين وهو الذين انزل ايات بينات!
3-اين الايات التي تشير الى دخول المسلم الى النار اذا امتنع عن الصيام؟
4-اين ايات عقوبة المفطر في شهر رمضان؟ ولماذا هناك عقوبات تحرير الرقبة ودفع الدية والصيام والهدي وغيره في امور اخرى ولاتوجد اية اية تشير الى عقوبة من لايصوم؟
5- كيف استند الفقهاء الى وجوب قضاء يوم الافطار المتعمد بصيام شهرين عند بعض المذاهب؟ اي عقوبة الشهر تكون صيام 1800 يوما متتالية, بمعنى لو ان مسلما امتنع عن الصيام عشرة سنوات فسيكون عليه صيام 18الف يوم اي اكثر من خمسين سنة متتالية وهو محال بكل المقاييس, ويدفع بالمسلم المتهاون في الصيام الى اليأس من رحمة الله.
6-عرض العلماء الكثير من فوائد الصيام للصحة ولكن هناك اشهراً في السنة تعرض الصائم وصحته لمخاطر صحية جمة وخاصة عند الصيام في الحر القائض فكيف نوفق بين ذلك؟
7-تقول اية الصوم ان على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين. من ظاهر الاية يتضح ان الذين يطيقونه اي يمكنهم الصيام عليهم دفع فدية وهو امر حيّر المفسرين والفقهاء, وللخروج من هذا المأزق قالوا ان في الاية كلمة محذوفة وهي كلمة “بمشقة” اي ان الاية تعني “وعلى الذين يطيقونه “بمشقة” فدية طعام مسكين”. وقال البعض ان المعنى وعلى الذين يتجشمونه, وقال اخرون ان معنى ذلك ان “ان على الذين كانوا يطيقونه والان لا يطيقونه” اي ان كلمة كانوا هي محذوفة. وكل هذه الاراء هي اضافات من عند العلماء والمفسرين ما انزل الله بها من سلطان بل هو تطاول على الله ونسبة النسيان والحذف اليه تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً. فالمفسر والفقيه يدّعي ان الله حذف هذه الكلمة من الاية وهم اكملوها لعلمهم بحاجة الناس الى فهم الاية بشكل صحيح فهم يصححون لله تعالى…انظر كيف يفترون على الله! وعجبي ان الله لايزلزل الارض من تحت اقدامهم وينزل من السماء عليهم جام غضبه لافترائهم عليه وتقويله ما لم يقل! سبحان الله واي زمان اطول من اناتك يارب.
سنقوم في هذا البحث برفع هذا الاشكال بمقدار فهمنا وتطبيقنا الصحيح للنظرية القصدية.
8-توسع الفقهاء ورجال الدين في ذكر مفطرات الصيام فمن اين جاؤوا بها؟ ومنها مثلا حرمة المضمضة بالماء وحرمة شم العطر وعدوها من المفطرات عند بعض المذاهب, والقران لم يذكر سوى الامتناع عن الاكل والشرب اثناء النهار.
9- توسع المتكلمون في ذكر فوائد الصيام على الامة والفرد واسردوا عشرات بل مئات المنافع النظرية وردوا على الناقدين للصيام بان المسلمين يطبقون الصيام بشكل خاطيء لذلك لا تظهر فوائده المرجوة. لكن الا يحق للمنتقد ان يقول ان واقع الامة يشير الى ان الصيام يدخل الامة في سبات لمدة شهر فيهبط الانتاج الى ادنى مستوياته وتتعطل المصالح الى حد كبير وترتفع الاسعار ويزيد الاستهلاك وينشغل الناس باللهو والافراط بالاكل والشرب طول فترة الافطار وتزداد حالات السمنة ومراجعة المستشفيات والطواريء بسبب التخمة, وعلى السمتوى الفردي تجد الصائم سيء الخلق قليل الانتاج متزمت صعب المزاج شديد الحدة متكبر متعالي على غيره لانه صائم وغيره مفطر مثلا. فهل كل هذا هو ما يريده الله؟
وللدخول في شرح الاية نشير الى ان كلمة كُتِبَ كما تقدم لاتعني باي حال من الاحوال فرض او وجب بل هي تعني ان الصيام هي سنة كونية تناسب خلق الانسان وتكوينه البيولوجي وتنسجم مع حاجاته البدنية للاتقاء من الامور السيئة بشكل عام.
ان من يدعي ان كلمة كُتبَ تعني فرض او وجب عليه ان يحل الاشكالات التالية في تفسير كل الايات التي وردت فيها فعل كُتبَ المبني للمجهول بالضبط كما وردت في اية الصيام, ولن نذكر الموارد التي اوردت الفعل كتب بكل اشتقاقاته لان البحث سيطول والمقام لايتسع لهذا بل نذكر اربعة موارد جاء الفعل كُتِبَ مبنياً للمجهول كما في اية الصيام بالضبط, والموارد هي الاتية:
1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)… (البقرة 178)
هنا اذا كان الفعل كُتِبَ يعني فرض او وجب فيكون القصاص في القتلى واجب عيني على كل مسلم وعليه يتوجب على ولي المقتول ان يقوم بقتل القاتل او القصاص منه بنفسه لان الاية تقول كتب عليكم القصاص بنفس الطريقة التي تقول كتب عليكم الصيام. فلماذ توجب الصيام هناك ولايتوجب القصاص هنا؟ لقد حاول الفقهاء التخلص من هذا الاشكال فقالوا ان الامر من مسؤولية الحاكم او ولي الامر, وحتى لو سلمنا بهذا الرأي فاننا لا نرى ان الحاكم يقوم بقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى بل قد يعدم رجل لقتله مرأة او تعدم مرأة لقتلها رجل او قد يدخل الرجل
السجن جراء قتله لاحد. ان الاية اعلاه فيها اشكالات توقع المفسرين والفقهاء في حيرة كبيرة لسنا في معرض الدخول في تفاصيلها.
2. (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة 180)
اذا كان الصيام واجب لورود فعل كُتبَ في الاية فتكون كتابة الوصية على هذا الاساس امر واجب ويعاقب من يتركه كعقوبة تارك الصيام او اية عقوبة اخرى. ولكن من المعروف ان لا احد من الفقهاء يقول بوجوب كتابة الوصية بل يقولون انه من باب الاستحباب ان يكون المرء مهيئاً للموت فينظم اموره وتركته في حياته لتجنب الخلافات بين ابنائه بعد موته.
3. (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(البقرة216)
هنا يكون الحرج اكبر على الفقهاء والمفسرين في شرح هذه الاية فعلى قاعدة ان كُتِبَ تعني وجب او فرض كما في اية الصيام يكون معنى هذه الاية ان القتال واجب عيني على كل مسلم وبكل الاوقات, اذا ان الاية لم تحدد وقت القتال ولا ظروف القتال كما حددته في امر الصيام بل تركته مفتوحا وهذا ما يستخدمه السلفيون والتكفيرون ويستندون عليه من ان المسلم يجب ان يكون في وضع القتال طوال حياته حتى يموت. ولكن اذا فهمنا ان فعل كتب لاتعني فرض او وجب بل تعني ما تقدم شرحه في معرض توضيح معنى الفعل كتب فيكون اللجوء الى القتال هو سنة كونية من حيث ان الامور تصل الى حدود لايمكن حسمها الا بالقتال فيكون الامر تخييرياً في اختيار طريق القتال وهو كره للناس فلا احد يحب القتال وتؤكد الاية ان هذا الكره قد يكون فيه خير لكم, اوأختيار طريق اخر ربما لا يحقق نفس الخير المتحقق بالقتال.
4. (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(ال عمران 154)
هنا تكون المصيبة اكبر فالاية تشير الى بروز الذين كُتبَ عليهم القتل الى مضاجعهم فعلى قول القائل بان كُتبَ تعني فرض او وجب نكون قد دخلنا في مذهب الجبر والاكراه, وهذا يعني ان الذين كُتبَ عليه القتل سيكون مسيرا وسيسير كالروبوت ويتحرك الى مكان مصرعه ليُقتل هناك, فاي اجر واي عقاب يكون بعد هذا واين الاختيار في اتخاذ القرار في القتال من عدمه؟
وللعودة الى اية الصيام فان اشارة الاية الى الوقاية عندما تختم بعبارة “لعلكم تتقون” هي واضحة بعد ان تركت الكلمة اي تتقون مفتوحة فلم يقل تتقون الله او تتقون النار او تتقون الفقر او الضعف بل تشير الاية الى عموم التقوى. فعندما اقول لك أن أكل تفاحة كل يوم فيه وقاية من الامراض, هنا واضح ان الوقاية هي من المرض اما عندما يكون القيام بعملية معينة فيه وقاية من مجموعة من الامور فعندها يكون المقصود منها عموم الوقاية, كأن اقول لك اركض كل يوم نصف ساعة للوقاية, فانت تفهم انها وقاية من مجموعة من الامور لا يمكن حصرها في مجال واحد. ان الذي حدث هو ان المفسرين والفقهاء ربطوا عملية الصوم بعبادة وطقوس دينية, فهنا ايضا قدروا ان المعنى بالاصل “لعلكم تتقون الله” فربطوا التقوى بامر ديني غيبي رغم وضوح المعنى.
اذاً ان عملية التقوى المقصودة والتي تاتي بعد كلمة كُتبَ ترسم الاطار العام لمفهوم الصيام على انها عملية طوعية للذين امنوا بان ماجاء في القران هو حق, ومن هذا الحق هو ان الصيام سنة تكوينية وضعها الله في بدن الانسان تنفعه لدرء الكثير من المخاطر الصحية ولحماية ووقاية نفسه وبدنه من الاضرار المختلفة. فبقيامه بهذه العملية يجلب لنفسه المنافع بل وللمجتمع ايضا من خلال تقليل الاستهلاك واعطاء فرصة لبدنه لتجديد الخلايا الجيدة وقتل الخلايا الخبيثة التي تتغذى ربما على السموم الموجودة في بعض الاطعمة كما انها فرصة لاطعام الفقراء والشعور بفقرهم وجوعهم وعطشهم. في الاية اشارة الى ان الاقوام التي سبقت كان لها صيام من نوع اخر يناسب تطورهم البدني وطريقة عيشهم وغذائهم.
اذاً الصيام هي عملية طوعية ذاتية لكل فرد يريد ان ينفع نفسه وبدنه ومجتمعه فاذا تحقق له ذلك تحقق هدف الصوم وان حدث العكس بحيث ان الانسان بالصيام يجلب لنفسه المضار والمخاطر فهو يكون بذلك قد حقق العكس ويكون الصيام عندها ضاراً وسيئاً بل حرام عليه, لان ما اراد ان يتقي بالصيام منه هو الذي وقع وليس العكس.
ولنأتي الان بهذا الفهم لنقرأ الاية من جديد:
يا ايها الذين امنوا… وليس يايها المؤمنون, اي ان الخطاب موجه لكل من امن بمحمد(ص) وبرسالته اجمالاً وان لم يتحول في ايمانه الى مستوى التطبيق التام بحيث تنطبق عليه صفة المؤمن. اي ان من آمن بالاطار العام لما انزل على النبي الاكرم عليه ان يعلم ان هناك سنة كونية في الخلق يوضحها فعل “كُتِبَ” المبني للمجهول تنسجم مع بنائه الجسمي يحتم عليه ان يقوم بالامتناع عن الاكل والشرب لساعات معينة من اليوم ولايام معدودة لتمكين البدن من التخلص من العادات السيئة وكسر دورة التعود والادمان على الكثير من الافعال اليومية بهدف التحسين النوعي لاداء البدن واعضاءه ونفس الانسان وروحه, وهذه العملية اي الصيام شاملة لكل الاقوام باختلافات تتناسب مع طريقة ومكان عيشهم لكي يتقون من الكثير من الامور السيئة.
وتشير الاية لاحقا الى ان الصيام هي اياما معدودات وليست اشهرا ثم يحدد في الاية التالية بانه شهر واحد اي ثلاثون يوما وهو شهر رمضان. هنا تقول الاية باختيار الشهر الافضل من السنة للصيام. وعلاقة شهر رمضان بالصيام ليس لان نزل فيه القران فحسب بل له علاقة بموقع الشهر من السنة, فكاتب البحث لا يؤمن ان شهر الصيام يدور مدار اشهر السنة* بحيث مرة ياتي بالصيف ومرة بالشتاء وثالثة بالربيع ورابعة بالخريف بل ان تحديد شهر رمضان من السنة للصيام هو لانه افضل شهر للصيام من حيث الطقس وموقع الارض من الشمس وعدد ساعات النهار والتي تتناسب مع التركيبة التكوينية للبشر بحيث يحقق الصيام اقصى منفعة للصائم, ويكون المرء قادر على القيام به دون تعطيل حياته اليومية.
*(راجع بحوث السيد فرقد القزويني حول التقويم المحمدي, والذي اعتمادا عليه يكون شهر رمضان في الشهر العاشر الميلادي حيث اعتدال الطقس وتساوي الليل والنهار الى بشكل نسبي في كل ارجاء العمورة).
بعد هذا تاتي الاية للتفصيل في شأن مجموعتي الصائمين وغير الصائمين. ثم تقسم غير الصائمين الى ثلاثة مجاميع فرعية. فالحالة العادية هي ان المخاطبين في الاية وهم الذين امنوا يعلمون ان ما جاء فيها حق وعليه يتبعون تلك التعاليم او المقترحات فيصومون انسجاما مع الاية وايمانا منهم بتحقيق المنفعة الدنيوية المرجوة من الصيام من خلال الوقاية من كل الامور الضارة وهم المجموعة الاولى.
اما القسم الثاني هم الذين لايصومون وهي المجموعة الثانية فتقسمهم الاية الى ثلاثة مجاميع فرعية, وهي مجموعة المرضى, ومجموعة المسافرون, وافراد تلك المجموعتين تقترح عليهم الاية الصيام في ايام اخرى فهم مخيرون متى ما يصومون الايام المعدودات في السنة والتي هي لمصلحتهم لعلهم يتقون عموم الاضرار البدنية والاجتماعية والنفسية وغيرها. وهناك مجموعة ثالثة وهي مجموعة الذين يطيقونه اي انهم قادرون على الصيام وليسوا على سفر وليسوا مرضى ولكنهم لا يصومون او لايريدون الصيام فتقترح الاية على تلك المجموعة دفع فدية طعام مسكين وما يؤكد هذا الشرح هو تكملة الاية عندما تقول ” فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ” ان هذا المقطع ومن خلال سياق الاية هو عطف على مقطع الفدية فالاية تقول ان الفدية كحد ادنى هو اطعام مسكين ومن يتطوع باكثر من ذلك خيرا فهو خير له, وياتي المقطع الحاسم ليثبت ان الصوم امر تطوعي عندما تختم الاية بالقول ” وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ” فماذا يعني ان تقول الاية وان تصوموا خير لكم؟ انه واضح كوضوح الشمس بان الامر اختياري فهو فيه خير لكم ولم تقل الاية انه خير في الاخرة ولانجاة من النار او من جهنم بل حددت انه فيه خير عام وشامل كما حددت الاية السابقة من ان في الصوم وقاية عامة من كل الاضرار البدنية والنفسية والروحية وغيرها من خلال عبارة لعلكم تتقون. ان الاية تقول للذين يطيقونه ولا ينوون الصيام ويريدون دفع الفدية ان الصيام افضل وفيه خير لهم. وهو تخيير بين الحسن والاحسن. ان من يقول ان الصيام واجب وفرض على كل مسلم يقع في اشكال تفسير المقطع الاخير من الاية وهو مقطع لا يمكن تاويله على خلاف ظاهره الا بلي عنق الاية بتعسف واضافة كلمات يقول انه محذوفة او تاويل كلمة بعكس معناها تماما لكي توافق اراء المفسرين والفقهاء, و يقول بنسخ الاية باية بعدها علما انها تاتي مباشرة بعد اية الصوم وفي نفس السياق.
ولتسهيل تصور الفكرة نشبه الاية بخطاب يوجهه رئيس الى مواطنيه يعلن تشريع قانون الخدمة العسكرية ويحثهم على ادائها فيقول:
يايها المواطنون تم تشريع قانون الخدمة العسكرية عليكم, كما هو مشرع عند بقية الامم, اشهرا معدودات فمن كان مريضا او مسافرا للدراسة والعمل فليؤدي الخدمة في وقت اخر وعلى الذين يطيقونها دفع بدل نقدي(فدية) محدد ومن زاد في مبلغ البدل فهو خير ولكن اداء الخدمة هو خير لكم وللوطن.
ولن ادخل في شرح هذاالمثل فهو واضح كوضوح الشمس.
خلاصة البحث:
1-الصيام امر تطوعي فيه خير لبدن الانسان وصحته وهي سنة تكوينية في البشر كون ابدانهم تحتاج الى فترة نقاهة من السموم التي تتكون في الجسم خلال السنة من خلال تناول مختلف الاطعمة, والامر لا علاقة له لا بالعبادة ولا بالجنة ولا بالنار. نعم لجهل الناس انذاك بمنافع الصيام تم ربط الامر بعبادة دينية لتشجيع الناس عليها, وواقع الحال ان الاجر الدنيوي الذي يحصل عليه الصائم في الدنيا هو صحة بدنه وتنقية روحه وعندها سيكون قادرا على المزيد من العطاء الذي لو سخره لاخرته لفاز بالسعادتين. وليس ان الصيام بحد ذاته وبدون تاثيراته المصاحبة هو المطلوب اوهو ما يريده الله بغض النظر عن طريقة اداءه.
2- بامكانك ان تختار اي شهر للصيام لانه امر تطوعي بدليل مقطع الاية وان تصوموا خير لكم ولكن شهر رمضان هو الافضل بلاحظ التقويم المحمدي الذي توصل اليه السيد فرقد الحسيني القزويني حيث يكون شهر رمضان موازيا لشهر اكتوبر من السنة.
3- ليست هناك اية عقوبة اخروية لتارك الصيام بل هي عقوبة دنيوية ذاتية من خلال عدم تفعيل القوانين الكونية في الانسان وبذلك يفوت الانسان على نفسه فرصة حياة صحية افضل وربما عمر مديد دون متاعب بدنية. وليس هناك اي دليل على وجوب قضاء شهرين متتابعين كعقوبة لما يعرف عند الفقهاء بالافطار المتعمد. فهذه العقوبة لم ترد الا في موضعين في القران كله, احدهما كعقوبة تاديبية على موضوع ظهار الزوجة وهو ان يحلف الرجل بان امراته عليه كظهر امه فيحرمها على نفسه, والاية التي وردت فيها هذه العقوبة هي:
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ..(3)..فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ( المجادلة4).
اما الموضوع الثاني فهو عند القتل الخطأ فتقول الاية 92 من سورة النساء :
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
نلاحظ من الموضعين ان عقوبة صيام شهرين متتابعين تاتي كبديل لعقوبة اكبر وهي تحرير رقبة في امور كبرى وهي القتل والظهار لما في الامرين من فساد اجتماعي كبير, وهذه العقوبة لاتتناسب مع افطار يوم واحد عمدا بحيث يتوجب على المفطر صيام 1800 يوماً بدلا عن الشهر وهو امر عجيب وغريب كيف يتجرأ الفقهاء على الله وينسبون هذه العقوبة اليه دون اي يكون لهم اي دليل من القران. انهم بذلك يثقلون على الناس امور دينهم حتى اصبح الناس يكرهون اكثر العبادات ولا يقومون بها الا خوفا من العقاب, ورب العزة يقول ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم)(الحج78) ويقول ايضا ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) فاي حرج واي عسر اكبر من ان تعاقب المسلم بصيام خمسة سنوات متتالية لانه لم يصم شهرا واحداً؟
4- ان من لا يريد الصوم فليدفع فدية اطعام مسكين, والفدية حددتها الاية باطعام مسكين بشكل مفتوح فبامكانك ان تطعمه مما تطعم نفسك واهلك او اكثر من ذلك ومن تطوع لدفع اكثر من ذلك من الخير الذي عنده فهو خير له. وهنا دعونا نجري حسابات بسيطة:
لنفرض ان هناك نصف مليار مسلم من مجموع المليار ونصف المليار مسلم في العالم ممن يتوجب عليهم الصيام كل سنة ولنفترض ان هؤلاء قرروا عدم الصيام ولا يرغبون في منفعة ابدانهم وهم احرار في ذلك واختاروا دفع الفدية ولنفترض ان اقل فدية هي اطعام مسكين ليوم واحد بملبغ دولار واحد فسيكون على نصف المليار مسلم ان يدفعوا نصف مليار دولار فدية للمساكين والفقراء عن كل يوم, اي بما مجموعه 15 مليار دولار عن الشهر. وتخيلوا ان ترسل كل سنة هذه المليارات الى الدول الفقيرة في العالم ولنبدأ بالعالم الاسلامي. انظروا حجم المبلغ! واذا اخذنا بنظر الاعتبار ان ميزانية دولة كالاردن لا تتجاوز 6 مليارات دولار سنكون قادرين على ادراة واعمار دولتين بحجم الاردن كل سنة وفي غضون 20 الى 30 سنة تكون الدول الاسلامية كلها عامرة بالمدارس والجامعات والمستشفيات ودور الايتام والعجزة. لكن ما يحدث هو العكس تماما فلا الابدان انتفعت من الصوم بل بالعكس تتضرر في شهر الصيام من كثرة الافراط بالاكل والشرب وتناول السكريات والحلوى, ولا انتفعت الامة بالاموال بل ايضا بالعكس فميزانيات الكثير من الاسر تنهك في شهر الصيام والبعض يستدين من اجل هذا الشهر وطقوسه. كما ان الناتج القومي ينخفض في هذا الشهر مكبدا الدول الاسلامية خسائر فادحة تصل الى المليارات جراء قلة الانتاج وضعف فعالية العاملين في هذا الشهر.
5- ليس هناك اوقات دقيقة للامساك والافطار فهي كلها مما لم ينزل الله به من سلطان فهناك اية تحدد وقت الصيام المقترح وهي:
(وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم اتموا الصيام الى الليل)(البقرة 187)
دعونا نضع انفسنا في وضع انسان يعيش قبل 1400 سنة عندما نزلت الاية, ماذا سيفعل عند سماعه للاية؟ سياكل الطعام فترة السحر ثم يخرج من غرفته لينظر في السماء او الافق هل يرى خيط الفجر الابيض من جهة المشرق قد صعد ليدفع خيط الليل الاسود ام لا, وهذه العملية قد يكررها عدة مرات الى ان يتحقق من ذلك فيتوقف عن الاكل والشرب, اي انها عملية مرنة ليس فيها دقائق وثواني وجداول رياضية. فالمسلمون يعيشون هلع دخول الوقت والفقهاء شددوا عليهم بما لم يشدد عليهم الله, فهناك احكام “توراتية” قاسية جدا للصيام والاشتباه في دخول وقت الصيام والافطار, بل يفرضون احيانا على من اشتبه في دخول وقت الصيام فاكل او شرب بعض الماء ان يصوم اليوم ثم يعيده في يوم اخر واحيانا مع دفع الكفارة على الاحتياط وهي احكام اقل ما يقال عنها انها فرعونية وقاسية لاتتناسب وفكرة اليسر الالهي مع الناس. بمعنى ان هذه الجداول والتطبيقات والارقام لا قيمة لها والامر فيه من السعة والمرونة بما ينسجم مع فكرة الصيام والتي هي الامتناع عن الاكل والشرب والسمو بالنفس عن المعاصي والموبقات بشكل طوعي لساعات معدودة من اليوم لاتؤثر فيها زيادة او نقصان بضعة دقائق هنا او هناك.
6- ليس هناك ضير من المضمضة وترطيب الحلق والفم بالماء ورميه بل يمكن حتى شرب القليل من الماء عند الحاجة الشديدة بدليل ان الاية تقول وكلوا واشربوا, وتذوق الماء لايدخل ضمن الاكل والشرب بدليل الاية التالية:
(فلما فصل طالوت بالجنود قال ان الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فانه مني الا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه الا قليلا منهم … الخ الاية)(البقرة 249)
فالاية تشير الى ان طالوت قال لهم من شرب من النهر فليس مني ومن لم يطعمه فانه مني ولم يقل ومن لم يشرب منه وهو دليل قراني على ان الاطعام وهو تناول الماء بكميات قليلة مثلا لتسهيل نزول الطعام الجاف في البلعوم ليس شربا وعليه فان شرب كمية قليلة من الماء لترطيب الحلق في حالة الحرج ليس مفطرا ولا حراما بلحاظ الاية الكريمة وبلحاظ الفكرة العامة للصيام التي هي طوعية كما فصلنا اعلاه.
في الختام على المعترضين على هذا البحث قرائته مجدداً والتامل في الافكار التي وردت فيه وعدم التسرع بالرد ورمي الكاتب بشتى النعوت, وعليهم ان يعلموا ان من حق اي انسان التفكر في خلق السموات والارض وتدبر ايات القران لاستخلاص الحكمة من التشريعات فالامر لا يخص فقهاء او رجاء دين وهو ليس حكرا على احد. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون احسنه.
عباس الفيلي
@gmail.comabbasgermany