9 أبريل، 2024 12:36 ص
Search
Close this search box.

صور من المعركة

Facebook
Twitter
LinkedIn

عند الفجر
أفطرنا بالقصعة عشرة جنود
في المساء
كانت القصعة ممتلئة بالزاد
وكنت ابكي عليهم
وحدي .
* كان رعيلي بخط الصد الأول في منطقة ” الخشم ” عند تلول الفكة ، الوقت غروب ، وصل جندي مشاة خمّنت عمره 18 سنة ، بمعنى جديد على الحرب ، كان يروم الإلتحاق بوحدته التي كانت امامنا ، حظه العاثر جاء به قرب آمر كتيبتنا التركماني المقدّم امين محمود امين ، سأله الآمر : الى اين انت ذاهب ؟
الجندي الغر : سيدي الى فصيلي ، اخبروني انه امام كتيبة دبابات أشبيلية .
الآمر : لماذا وصلت متأخرا ؟
الجندي الغر : سيدي .. كراج النهضة كان مزدحما .
الآمر : وهل تعرف مواضعهم ؟
الجندي الغر : لا سيدي
الآمر : عريف حسن ” كان يعنيني “
حسن : نعم سيدي
الآمر : لا تدعه يذهب حتى تشرق شمس الصباح
حسن : سيدي دعه يذهب .. الجنود هناك سيدلونه على مكانه .
الآمر : لا .. عقوبة له يبقى هنا .. لأنه تأخر بالإلتحاق
قبل ان ادعو الجندي الغر للدخول الى دبابتي ، انفلقت قذيفة بجوارنا ..
تطاير جسد الجندي الغر اشلاءً مع غروب الشمس
وكفرت بالسماوات .
* جندي وضع صورة حبيبته على اخمص البندقية .
* جندي وضع صورة زوجته على خوذته
* جندي وضع صورتها بقلادة
* جندي كان يرسمها كل يوم على التراب
* جندي يسمع بمسجل ويبكي
* جندي عندما يصلي واثناء الدعاء ينهمر دمعه
* جندي يريد ان تصيبه شظية حتى يبرهن لها عن شجاعته
* جندي يرسل مع الحانوت كل يوم رسالة اليها
* جندي يهرب كل اسبوع حتى يراها
* جندي يتمنى ان يستشهد لأنها خانته
لكن الجندي الوحيد الذي اثار انتباهي
انه كان يكتب قصائد شعر لها
كنت انا .
*بعد يومين من احتلال الإيرانيين للفاو ، لفت نظري بكاء سائق دبابة في كتيبتنا بحرقة ، إسمه عدنان ، كنت اظنه يبكي على الشهداء الذين خسرناهم في المعركة ، بعضهم كانت تربطهم به علاقة صداقة حميمة ووطيدة ، لكني فوجئت ان بكاءه كان ليس لأجلهم ، إنما لأن بيته في الفاو ، وكان يروم في اجازته تلقيح نخيلٍ في بستانهم .. ذلك النخيل الذي اصبح جذوعا متفحمة في تلك المعركة المؤلمة .
* في معركة إحتلال الفاو التي حدثت فجر اليوم التاسع من شهر شباط عام 1986 ، ونتيجة القصف العنيف ، وجدنا صعوبة بإحصاء عدد الشهداء لتمزق معظم الجثث بالشظايا وتناثرها على أرض سبخة ، لم يكن امامنا سوى إحصاء عدد الخوذ المغروسة بالطين ، لمعرفة عدد الضحايا ؟؟
* بعد ان صمتت المدافع ، وحُسمت معركة الفكة لصالحنا ، كان علينا إرسال موقف المعركة من حيث عدد الشهداء والجرحى وما نحتاجه من عتاد ووقود وأرزاق ، كان ثمة جنود مشاة يستريحون بظلال دبابتي ، وكان آمر الدبابة يرسل الموقف عبر جهاز لاسلكي :
– سيدي لا خسائر في دبابتي ، لكننا بحاجة الى الموز ؟؟
عندما سمع جنود المشاة كلمة “موز” قفزوا من رقدتهم فرحا .. قال احدهم لرفاقه: راح يوصل موز الينا بمناسبة النصر .
المساكين لم يعرفوا ان كلمة ” موز ” هي مفردة مجفّرة تعني العتاد !!
* في بداية الحرب كنّا نتضايق من وضع الخوذة الفولاذية على رؤوسنا لثقلها ، كأنها صخرة صلدة تربض على رأسك ، كما أن اختراق الشظية لمعدنها أسهل من ثقب قشرة بصل ، بعد سنتين ، وصلت خوذة جديدة مصنوعة من الإسبست والمطاط المضغوط ، كانت خفيفة وأنيقة أيضا وتؤمّن حماية لرأسك من الشظايا بنسبة مقنعة ، غير ان الخوذة في المعارك العنيفة تصبح عائقا امام تأدية واجبات القتال ، اذ تفاجىء بهبوطها على عينيك وانت تصوّب بندقيتك نحو الهدف نتيجة عدم احكام حزامها حول عنقك ، ذلك ان شدها بقوة تشعر كأن مشنقة حول رقبتك ، انا شخصيا كنت لا أضع الخوذة على رأسي ، وطالما تلقيت عقوبات بسبب ذلك ، كنت أشعر انها تمتص شجاعتي وعزيمتي اثناء احتدام المعارك ، لكني إستخدمت الخوذة كصندوق سرّي اضع في جوفها ضماد الميدان ، وعلبة سجائري ، وصمونة تعينني حين يحاصرني الجوع ، وكنت اضع شريط حبوب مقاومة للكآبة ودفترا صغيرا لكتابة مذكراتي كلما سنح الوقت لذلك ،في معركة إحتلال الفاو ، نتيجة اصابة دبابتي بصاروخ قاذفة بعد إسبوع من المعركة ، تركت كل شيء وحملت بندقيتي وخوذتي ، لكني كنت اريد بقاء خوذتي اكثر من اي شيء آخر ، حرصا على شريط حبوب الكآبة ودفتر المذكرات وقد احتفظت بهما داخل جوفها بعد حشرهما تحت شبكة داخلية منسوجة من خيوط متينة ، في ذلك الدفتر كنت قد كتبت قصيدة بعنوان رؤيا الطفل الملحي ، التي نشرتها جريدة الثورة بعد عودتي سالما من تلك المعركة المؤلمة .. الخوذة وحدها التي تعرف عذابات ومخاوف وهلع وجبن وشجاعة الجندي والخيانات في الحرب .
* في معركة جسر الطاهري ، كانت دبابتي قد تعرضت لعطل ميكانيكي ، إستوجب سحبها الى الخلف ، وهكذا وجدت نفسي احمل بندقيتي مع جنود المشاة ، وتخلّيت عن صنفي كسائق دبابة ، عندما جن الليل ، هبط برد لعين علينا ، فإلتحف جنود المشاة بأفرشتهم ، وبقيت وحيدا ارتعش من البرد ، نعاس يهمين على جميع حوّاسي ، لكن شدة البرد تمنعي من توسد التراب حتى انام ولو لنصف ساعة ، قررت ان اهرول تحت وابل القصف لكي أمنح جسدي بعض الدفء ، حتى تعبت وإنهارت قواي ، كان الحصول على بطانية تدثر جسدي المرتعش ، تعادل كل ثروة الأرض تلك الليلة ، ها أني أرتعش الآن من ذكرى تلك الليلة القاسية في بردها برغم اني اجلس بدفء لذيذ الآن .
* في معركة إحتلال الفاو ، نتيجة القصف الكثيف ، إنقطعت الأرزاق عنا عدة ايام ، شربنا ماء راديتر الدبابة من الظمأ ، وحتى نملأ بطوننا الفارغة ، غامر سائق الدبابة سالم إبراهيم التركماني من أهالي تلعفر بالتوغل راجلاً الى الأرض الحرام ، كانت شجاعته تفوق الوصف ، كنا نرصد حركته من منظار ، بدأ يتجول على جثث الإيرانيين ونراه يهبط على جثة مستغرقا بعض الوقت بتفتيش جيوبها ، ظل في الأرض الحرام اكثر من نصف ساعة ، ثم عاد يهرول يحمل كيسا على ظهره ، لقد جاء بعلب فستق كانت في جيوب جثث القتلى الإيرانيين ، كانوا يجهزون جنودهم بذلك الفستق لتحمل الظمأ والجوع ، ذلك اليوم كانت وجبة طعامنا “فستق إيراني” .
[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب