. الصورة -2 الانسان المغيب
عندما نطرح السؤال الاساسى, الذى يجب ان يشغلنا جميعا: من هم اصحاب القرار الذى بيدهم السلطة والقوة فى بناء الدولة والمجتمع وتحديد اتجاه المسيره اقتصاديا, اجتماعيا, وثقافيا ؟؟ والاجابة عن السؤال معروفة وواضحة من خلال تجربتنا التاريخية مع هذه النخب. ان اغلب النخب السياسية التى استولت على الحكم فى اغلب اقطارنا العربية جاءت عن انقلابات عسكرية, وبالتوافق والتخطيط ومساعدة قوى اجنبية لها مصالح حيوية فى اوطاننا, وبحكم هذه العلاقة لم يتمتعوا باستقلالية القرار السياسى والاقتصادى واذا كان البعض منها لم تكن له تبعات اجنبية فقد تم محاصرتهم وتطويقهم واشعال الفتن ضدهم وتوريطهم بكواراث وحروب ما زالت تبعاتها ماثلة امامنا, ولم يتمتعوا بالحنكة والخبرة فى العلاقات الدولية يستطيعوا بها فك رموز ما يدار حولهم وتجنب كوارث خطيرة . انهم بشكل عام لم يكونوا رجال دوله قد تمت صياغتهم بالعمل والتجربة العملية فى مهمات ووظائف مختلفة فى مختلف قطاعات الدولة والمجتمع. ان المناصب الرفيعة التى يشغلونها والمواقع الاجتماعية التى يتمتعون بها تمثل طفرات كبيرة غير معقولة فى السلم الوظيفى الذى لا يمكن ان يصلوا اليه بمؤهلاتهم العملية وخبراتهم الوظيفية, انها فعل الاحزاب والانقلابات العسكرية التى احتوتهم ودفعت بهم الى ما هم فيه, ان نفهمهم بوعى لا بد من الرجوع وفهم اصولهم وتنشئتهم الاجتماعية التى كانت بشكل عام بائسه وملغمة بكل اسباب العنف والقوة, حتى ان البعض منهم لم يعرف معنى الطفولة وقد تولى رغم صغر سنهم بمهمات ثقيلة, لقد كبروا دون ان ينضجوا, لذلك ظهر مبكرا نزوعهم الى العنف وشعورهم بالقوة والانفراد بالراى والتحكم بالاخرين بالاضافة الى نرجسية مرضية حادة قد ادت الى نوعية تفكيرهم وتصرفاتهم وعلاقتهم بالاخرين, هذه الحالة تبعث فيهم الشعور بالعبقرية والعظمة والضرورة وينمو فيهم الشعور بان كل ما يقوموا به انما هو النموذجى , الاحسن والامثل والذى يجب ان يقتدى به.
مما لاشك فيه فقد قاموا بمحاولات لتحديث المجتمع وانجزوا عددا من منظومة البني التحتية كما قاموا بتطور الجيش وتسليحه وكسر نطاق الحضر المفروض علية, الا ان هذه الانجازات لم تكن فى حسابات بناء دولة ومستقبل شعب, وانما كانت فى اطار حركية التعامل والتفكير بالذات المعذبة, واستجابة لارهاب الوحش المفترس فى دواخلهم الدفينه واضافة تأكيدات جديدة للعبقرية والضروره. ان هذا يفسر ايضا مقولاتهم الشهيرة “اننا سوف نسلمها ارضا جرداء كما استلمناها” او ” سوف لا ننطيها” اذا حصل ما يبعدنا عن السلطة, هذا يعنى ايضا انهم فى المجتمع وبنفس الوقت خارجه ولا يحملوا مسؤلية اتجاهه وانما متفضلين عليه عدم وجود نظرية ومنهج تبنى علية وتسير به نحو البناء والتطور وكل ما حصل فى ايامهم يتراجع القهقرى الى الوراء لان ما يقوم على العنف والخوف واجهزة الامن والمخابرات يمكن ان يطول زمنيا ولكن لا يمكن ان يستمر وهى بكل تاكيد ليست عملية تربية وبناء. مع انهيار هذه النخب وانهيار ابنيتهم المنخورة اخذت مبادىء الدين باشراف وبقيادة “الاسلام السياسى, قواعده وتفسيراته التى اجتهد بها” العلماء, علماء الدين” وتصبح فى اوضاع الهزيمة ما ينظم ما افسده الزمن ويضيف خرابا الى خراب وكوارث وازمات ومستقبل مجهول.
ان اشكالية اوضاعنا الاقتصادية الاجتماعية ليست وليدة اليوم, جاء الدين الاسلامى ليوحد العرب من خلال مبادىء واحكام الدين الحنيف ويتجاوز بذلك الروابط القبلية والقرابيه وما يقوم عليها من مثل واعراف, من انهم متساون واخوة فى الدين, “لا فرق بين عربى واعجمى الا بالتقوى”. الا ان ذلك لم يتحقق لعدم حضور الشروط الموضوعية والذاتية, خاصة بعد وفاة الرسول الكريم. كانت البداية بحروب الرده وتحديد الخليفة الذى تم فى “سقيفة بنى ساعدة” وبروز الخلافات والتنافس من اجل السلطة السياسيه ونواة الاحزاب السياسية. تم اختيار ابى بكر الصديق للخلافة والذى كانت امامه مهمة اعادة المرتدين الى الاسلام, وتم له ذلك بقوة السيف. كان لابد من ايجاد وسائل لتصريف طاقة الجهل والفقر والجنة الموعودة بالتوسع نحو خارج الجزيرة التى لم تتوفر فيها فرص واعدة للحياة, وقد حصل ذلك مع خلافة (عمر بن الخطاب) حيث تم فتح العراق0( معركة القادسية) وسقوط الامبراطوريه الفارسيه, وكذلك معركة اليرموك والتصدى للروم فى البحر الابيض المتوسط والتغلغل فى قبرص. وكما يبدو تاريخيا فأن التوسع نحو الخارج, يعنى تقسيم الغنائم واخذ الاسرى والتمتع بالنساء, كان مفيدا ومثمرا بكل المقاييس. بدا الخليفة عمر بن الخطاب, خاصة بعد وصول الموارد الكبيرة من الفتوحات والتوسع الجغرافى بوضع اطارا للدولة فى محاولة لادارة الدولة وتنظيم توزيع الموارد بين المسلمين. قام بتخزين قسم من الموارد والعمل على تكوين جيش نظامى. ان عرب الجزيرة تعرفوا على عوالم جديدة واعدة مغرية بالمال والثروة ومتع الحياة. تولى الخلافة (عثمان بن عفان) الذى بدأت فى عهدة تاخذ التناقضات الداخلية بعدا حديا, وكانت سياسة “الاقرباء اولى بالمعروف” وتفضيل بنى امية فى مناصب الدولة والولايات قد افرز حالة من التمرد والعصيان والغضب وبالتالى الى مقتله. تولى الخلافة الامام(على بن ابى طالب) فى ظروف بالغة التعقيد التى صاحبها حربين (واقعة الجمل) التى يقودها (الزبير والسيدة عائشة ) الذين نقضوا مبايعتهم له, هذا بالاضافة الى والى الشام معاوية بن ابى سفيان الذى استقر وتمركز فى الشام والذى رفض مبايعته واخذ يطالب بـ ” قميص عتمان” بمعنى قتلة الخليفة ومحاكمتهم. وجاءت المجابهة فى (واقعة النهروان) التى انهت الصراع السياسى لحزب بنى امية/ عمر بن العاص وتبدأ “الدولة الاسلامية” عصرا جديدا من الحكم الملكى العائلى بعيدا عن المبادىء الشورى التى جاء بها الاسلام. كانت الحروب بين المسلمين نتيجة للصراعات على السلطة ماساوية وكارثية بشكل عام.
لقد استطاع بنو اميه من تكوين امبراطوريه واسعة جدا ومتعددة الاتجاهات واخذا الاموال تتدفق على الحكام الذين اتبعو سياسة ” تلاقفوها فيما بينكم” و وسياسة ” الترغيب والترهيب”. لقد نشأة المذاهب الدينية والتى اختلفت فى اجتهاداتها فى تفسير وتأويل مبادى ومقومات الدين والموقف من الحاكم الظالم وغير العادل, وكان موقف الامام الغزالى بعدم معارضة الحاكم ومقاومته حتى لو كان جائر من اجل الحفاظ على وحدة الامه. هذا الموقف قد افرز الى يومنا هذا توافق واتفاق مجاميع من العلماء- رجال الدين لتبرير اعمال وسلوكيات الحكام حيث يتم تهيئة الارضية الفكرية فى اوساط المجتمع, كان هؤلاء وما زالوا المأثرين وصانعى الراى العام والذى نسميهم بـ ” وعاظ السلاطين”. فى المقابل نشأ تيار اخر يسعى لتغيير الاوضاع ومحاسبة الحكام ومقاومتهم, الا ان هذا التيار لم ينجح فى محاولاته الا فى اطار ضيق جدا وكانوا ملاحقين ومضطهدين فى عملهم وافكارهم. لقد اجتهد رجال الدين ووعاظ السلاطين فى التفاعل مع السلطان فى نشر الخرافة والتاكيد على الغيبيات والقدر المحتوم المحسوم بالاضافة الى بعث الخوف فى نفوس المسلمين والتهديد بالعنف والارهاب من عدم اطاعة الوالى, الخليفة, السلطان والملك, وسوف يكون مصيرهم جهنم وبئس المصير. ان الهدف الذى مازال يسعى اليه رجال الدين بشكل عام وما عزز مكانة السلطة الحاكمة وما زال على توافق معها هو تكوين ” الانسان المغيب” الذى تحملة العواطف والحماس والاندفاع لاعراف وتقاليد وممارسات لا تخدمه وليست فى صالحه, ان رجال الدين اجتهدوا فى ابتكار المناسبات والطقوس بمختلف الشعارات والصور والمسميات والادعاءات لربط المسلمين وشدهم اليهم, خاصة مناسبة مثل اربعينية الامام الحسين التى تحوالت الى ايديولوجية واحتفال جماهيرى لمحاكمة احداث الماضى البشع واتهام طائفة مسلمة اخرى بمسؤليتها عن تلك “الجرائم” التى “اقترفت” قبل1400 سنه.
من القضايا المهمه والمثيرة للجدل اشكالية القناعة بالصيغة التى يقدمها رجال الدين واعتبارها منهجا لحياة الانسان المسلم: القناعة كنز لا يفنى, والقناعة هى الرضا بما قسمه الله تعالى- الشيخ عمر عبد الكافى, اتدرى؟ ان الرضا بما قسمه الله يسخر لك الدنيا –الشيخ الشعراوى, وقوله تعالى” لو بسط الله بالرزق لعباده لبغوا فى الارض, د. معتز عبد الفتاح. القناعة … الاستكفاء بالموجود وترك التشوق الى المفقود, ان يكتفى المرء بما يملك ولا يطمع فيما لايملك, امتلاء القلب بالرضا والبعد عن التسخط والشكوى- “ان الله هو الرازق ذو القوة المعين” الذاريات58 , فى السماء رزقكم وما توعدون, لا تخشى من ضيق الرزق وخزانتى باقية “ان المتامل لاحوال كثيرمن الناس فى هذه الدنيا يرى العجب العجاب, يرى الهم والهموم, يرى الاحزان والمشاكل بحيث الواحد منهم مستعد ان يقاتل حتى اقرب الناس اليه, من اجل ماذا؟ من اجل هذه الدنيا من اجل الاموال, من اجل التجارات والاراضى…… ليس راضين بقضاء الله وقدره, لا يكفيهم طعام يشبعهم كالذى يأكل ولا يشبع لانه طامع ببصره دائما الى ما هو فوقه كالذى ساكن بيتا وينظر الى من يسكن قصرا…… وهكذا لا يهنأ له عيش الا اذا صار احسن الناس فى كل شىء….”. الا ان الحكم والامثال الشعبية تنطلق من نظرة مختلفة تماما: ” الذى لا يغار عديم الغيرة, ان القنوع كالذى يموت ببطىء عديم الاحساس وناقص الارادة” ….ان هذه “الحكم ان والمقولات التى يتداولها رجال الدين من اعلى منابرهم وباشكالها المختلفة والتى تتردد فى كل مكان تصبح احد قواعد الحياة والسلوك للانسان الذى بات مرتبطا بما تملئه علية السلطة والوعاظ , وليس هذا فحسب وانما ايضا وضع حلول وسبل الشفاء من المستقبل المجهول,ويتيح هذا الحقل مجالا واسعا للابداع الاحادى وتنويع فى الخرافة وحتى الشعوذة: بعض النساء المتزوجات يشكون من عدم الحمل فيصفون لهن ماءا من سراديب الحضرة العباسية او الوعد بالنذور واداء بعض المراسيم والعبادات, ومنذ فترة قصيرة استحدثت القدرات الفائقة لـ ” بنات الحسن” فى شفاء الامراض المستعصية , ولا ننسى ” ماء زمزم” الذى يجلبة الحجاج عند اتمام عملية الحج والذى له قدرات هائلة ايضا, ولا يمكن ان نتجاوز ما يرويه بعض الناس من ان (حسين كامل ) قد تحدى الامام الحسين بقولة “انت حسين وانى حسين لنرى من الاقوى” وقام بقصف البوابة الكبيرة لضريح الامام الحسين اثناء عمليات ضرب الانتفاضة الشعبانية عام 1991. بعد فترة من الزمن اخذ حسين كامل يشكو من اوجاع شديدة فى الرأس والجسم وعدم القدرة على العمل والتركيز وصعوبة بالغة فى النوم. لقد اقترح علية بعض المعممين ومحترفى التغييب وتلبيس عقدة الذنب ان يذهب الى ضريح الامام الحسين ويقدم اعتذاره واسفة لما بدر منه, على ان لا ينسى تقديم الضحايا والقرابين. طبعا الحالة المرضية التى كان حسين كامل يعانى منها قد تم القضاء عليها ومعالجتها بهذه الزيارة المباركة واخذت يعيش ممتنا شاكرا طول حياتة للنعمة والبركة التى منحها له الامام الحسين.
من الظواهر الغريبة ظهور بين فترة واخرى بعض الاشخاص الافاقين ومن دعاة الدين الذين يدعون امتلاكهم قدرات خارقة فى قراءة المستقبل ووشفاء الامراض المستعصية, وظهر “السيد مالك” فى فترة السبعينات والثمانينات فى محافظة واسط والذى شاع اسمه بسرعة مذهلة وكفائته نالت الاعجاب من كل شرائح المجتمع واخذ الناس يقصدونه ويعرضون علية مشاكلهم, حتى ان انتظار مقابلتة كان يلزم احيانا بضعة ايام , فى هذه الايام يتدوال الناس مشاكلهم, وحينما يقصده احدهم, يقول له مباشرة انى اعلم بمشكلتك بمجرد النظر اليه ويقص علية. ان السيد مالك هذا “الراسبوتين العراقى” له اعوانه الذين ينتشرون بين الحاضرين وينقلون له تفاصيل اوضاعهم, وبهذا فهو ليس بقارىء الغيب ولا معالج الامراض المستعصية. ان الاشكالية الكبيرة تكمن عندما يقصده قادة البلد ويلجؤن الية فى استطلاع مستقبلهم واوضاعهم وحالة البلد فى الاخذ بالجهل والشعوذة المتمثلة فى شخص ” راسبوتين العراقى” او من رواد التكيات الدينية التى لاتخلو من الهلوسة, اذا كانت قيادة البلد مغيبة الى هذه الدرجه, ماذا يمكن ان نتوقع منهم وكيف يتم اصلاحهم اذ كان كل واحد منه يشعر بالعظمة والعبقرية, ولذلك فان المجتمع ومؤسساته فى حالة مراوحة واستقرار ولم تبدو لحد الان مبادرة جادة فى الاخذ بالعقل والعلم والتخطيط
ان نخبة عراق 2003 لا يعتقدون بالخرافة والقناعة والسعادة بالتواصل مع احكام الشريعة والشعائر والاحتفالات المليونية وتدوال مقولات وحكم الاولياء وحتى مقاطع من القرأن الكريم, وكل ذلك انما هى مواعض للشعب واسلوب فعال فى السيطرة عليهم بعملية تخدير, تغييب وتجهيل مدروسه مقرونه بالخوف من جهنم وعذاب القبور, انهم يؤمنون بقوة المال والثروة ومادية الحياة اليوم وليس غدا, والا لماذا تحولوا الى سراق وحرامية.
ان محاولات فصل الدين عن السياسة وحركة اصلاح دينى فى اوطاننا العربية لم يقر لها النجاح بالرغم من المحاولات الكثيره التى بدأت منذ اكثر من 100 عام بالاضافة الى العدد الكبير من العلماء والمثقفين الذى تناولوا فى نشاطاتهم العلمية موضوع الدين وصلته بالمجتمع وضروره نشر الوعى وتبنى الفكر العلمى ومواصلة مسيرة الحضارة العالمية.