23 ديسمبر، 2024 8:52 ص

لا زال تعامل الكثيرين مع الصورة سطحياً وإن اعتقد العكس، فالبعض يجدها وسيلةً للتسلية والبعض الآخر للشهرة أو يتعامل معها كجسرٍ يوصله لها وهو ما لا يتحقق، فالصورة شيءٌ أكبر بكثير من مجرد التقاط لقطةٍ جميلة بمواصفاتٍ فنية عالية أسهم التقدم التكنولوجي فيها بمعزلٍ عن موهبة المصور أو رأي المحررين أو ذوق المتلقي، فبات البعض يلتقط بضع صورٍ ليعرف عن نفسه كمصور أو يضع موطأ قدمٍ له في عالم الفن والتصوير والإعلام المترامي الأطراف، متوقفاً بعدها عن تقديم أي شيء سوى الحديث الذي لا طائل منه أو التقاط صورٍ شخصية له، وهو ما يجعل الآخرين مهما كانت درجة إيمانهم بموهبته (في حال وجودها) ينفضون من حوله كونه لا يملك رؤيةً أو يقدم فناً أو عملاً أو يسعى لتطوير أدواته، وكون فكرته عن التصوير أو الصورة غير ناضجة وتسعى لتقديمه لنفسه بشكلٍ شخصي لا تقديم فكرة أو فلسفة أو حالة أو شكل أو نمط يدل على أنه يمتلك وعياً بجوهر الصورة أو أسلوباً خاصاً يؤهله للإستمرار فضلاً عن ترك بصمةٍ أو ابتكار أو استحداث خط خاص به..

وبعيداً عن المصورين فإن الصورة التي نتعامل معها كأمرٍ عادي أو مسلمٍ به كانت ولا زالت من أهم الإختراعات التي غيرت وجه العالم، وكانت أساساً لكل ما نراه في عالم الفن والإعلام وتمثلت أهميتها في نقل الحدث وتوثيقه قبل أن تستخدم لصناعته والترويج له، ولطالما كانت الصورة تعني لي الكثير بشكلٍ خاص فكانت تمثل جزءاً أساسياً من المعرفة والإبهار، خاصةً عندما تعرفت عليها في طفولتي وأدركت قيمتها وأهمية استخدامها ضمن مختلف المطبوعات وتقديمها لقيمة أو معلومة أو حتى شكل جمالي بطريقة متطورة ومميزة وراقية، أو تقنية تظهر تفاصيلها بنقاء ووضوح ضمن إخراج فني احترافي يعكس فكر المؤسسة الناشرة وتقديرها لإسمها وقرائها والمادة التي تنتجها، وفهمها لمختلف عناصر العمل الثقافي من معلومة أو محتوى أو خامة ورقية أو نوع خط يتكاملون مع الصورة ومهارة المصور حتى لو كانت الإمكانات المادية المتاحة محدودة..

وكانت الصورة إلى جانب الكتب والروايات هي ما يساعدني على خلق عوالم كثيرة في مخيلتي تتسم بالرحابة وتتسع لكل الشخصيات والكائنات، وتمكنني من اقامة حوارٍ معها حتى وإن كان هذا الحوار يدور داخل رأسي فقط، ويجعلني أؤمن بأن أولئك الذين نراهم (في الصور) يمكننا أن نسمعهم ونحاورهم ونتعرف على آرائهم وثقافتهم وانطباعاتهم كالباقين، مما يحولهم من مجرد ظل أو لقطة ثابتة إلى حالة متكاملة نابضة بالحياة عندما نعطيهم الصوت والمساحة التي لم يحظوا بها بينما هم يستحقونها ولديهم الكثير ليحكوه ويقدموه للآخرين من موهبة وفكر وابداع، فهم كشخصيات من أنماط وأفكار وثقافات مختلفة موجودون على أرض الواقع بينما يتم اقصاؤهم أو تخصيص مساحات هزيلة لهم من خلال الكثير من (الصور) والمواد التي تصل إلينا والتي عشت معها وعشتها وعاشها غيري، وهو ما لفتني بشدة وأصررت على تغييره على الأقل في نطاقي البسيط الذي أستطيع أن أنفذ فيه أفكاري بعيداً عن معايير لا تشبهني ولا أؤمن بها، وخطاب يقوم على الإنتقائية واختيار عرض (الصورة) من زاوية معينة، بحيث يتم تقديم جزءٍ منها مترافقة ً مع نفس الوجوه التي اعتدنا أن نراها في الواجهة ويتم تغييب البقية أو جعل دورها ثانوياً أو ضعيفاً أو يدور في فلك الوجوه التي تتصدر المشهد..

وهو ما جعلني أنظر إلى الصورة كنوعٍ من الفلسفة والتحدي التي قادتني إلى فكرةٍ أكبر وأشمل تشبه الحياة وتشبه الناس وتشبه اللحظات التي نعيشها وتشبهني وتشبه النماذج التي صادفتها منذ طفولتي ولم تحظى يوماً بفرصة أن توصل صوتها أو أن تحكي قصتها أو تبوح بخباياها تماماً كما حدث معي وكان السبب في خلق حالة من التماهي بيني وبينهم، وهو ما جعل كلاً منهم يعيش معي إلى يومنا هذا ودفعني لأحاول أن أحكي حكايته وأجعل مكانه موجوداً من خلال فكرة أو مقالة أو صورة أو اختيار يعبر عن ثقافته ويكسر العزلة التي أحاطت به وبالكثيرين من أمثاله، والذين قد لا تمتلك حكاياتهم رغم قيمتها وجمالها ما يؤهلها لتكون في الواجهة وفقاً (لمعايير السوق والمنطق الذي يختار الحكايات وأبطالها بملامح وصفات معينة)، جعلتني بشكلٍ مستمر في حالةٍ من التمرد والهروب بعالمي و(أبطالي) المليء بالصور والحكايات بعيداً عن تلك المساومات أملاً في خلق واقعٍ جديد بأبطالٍ جدد يرمون حجراً في البركة الراكدة، ويصنعون بمجهودهم وموهبتهم مساحةً حرة تؤمن بأن الحياة للجميع والبقاء للأفضل وأن الأبطال الحقيقيين يصنعون ما هو أبعد من الحدود ويساهمون في خلق الصورة التي تعني موقفاً ورأياً ووجهة نظر تمتلك من الجمال والفكر والعمق ما يستحق أن يعيش لأجيال..