يشكو معظم الناس من الرتابة في يوميات حياتهم، فيبدون سأمهم من نمطية عيشهم الديناميكي، وسلسلة الأعمال والاهتمامات التي عليهم تأديتها على مدار الساعة، وقطعا نحن العراقيون أول هؤلاء الناس، إذ يتفاقم الشعور بالملل عندنا اضعافا مضاعفة، بل إن أغلبنا يتمنى بقاء نمطية حياته على ماهي عليه، خشية انزلاقها الى الأردأ والأسوأ مما لاتحمد عقباه. ولم يتولد هذا الشعور في الفرد لولا احتكاكه المباشر والدائم بالأحداث السيئة المحيطة به، فعلى سبيل المثال مايسمعه في نشرات الأخبار اليومية المحلية، إذ تنقل له كما هائلا من صولات الاجتماعات، وعددا مهولا من جولات المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك في محافظات بلده، الأمر الذي كان من المفترض أن يفرحه ويدخل البهجة في نفسه، لكن الصدمة تكون في جدوى تلكم الاجتماعات والمؤتمرات، إذ يكتشف المواطن بعد لهفته وتشوقه للنتائج أنها هواء في شبك، او كنافخ في قربة مثقوبة، الأمر الذي فتح ثغرات في نفسيته، تسرب من خلالها اليأس حتى أغلقت أمامه منافذ الأمل، وبذا أعود الى ما ابتدأت به سطوري هذه وهو الرتابة والملل مما يحيط بنا.
ويبدو ان تدخلات الساسة في ديمومة هذه الرتابة مدروسة نتائجها، وهم ليسوا (غشمه).. فواضح جدا أن أحداث اليوم هي ذاتها أحداث الأمس، وليس بمستبعد بل هو مؤكد أن أحداث الغد هي ذاتها أيضا أحداث اليوم، وهكذا ستستمر خطى العراقيين بشرائحهم كافة على نسق ونمط ثابت، كما رسمه الساسة والقادة، والصورة التي يعيشها المواطن تتكرر ذاتها يوميا وتفصيليا، وعليه تحمل تكرارها وأقلمة عيشه على اجترار يومه من أمسه، وغده من يومه. ومن جملة الصور التي يعيشها العراقي أنه؛ يناضل.. يضحي.. ينتخب والنتيجة: يجوع، يُحرَم، يُسرَق ويَكظِم غيظه، وكأن العمل مازال ساريا بشعار البعث المقبور: “البعثي أول من يضحي وآخر من يستفيد”. وكل مافي الأمر أن مفردة البعثي استبدلت وحل محلها مفردة الشعب.
أما الكاتب والناقد والباحث -ولاسيما السياسي منهم- فهو الآخر يعاني من ذات الحال مع سياسيي (هذا الوكت) فهو يتألم لما يراه في مجتمعه، ويعكس كل ما يمس المواطن من حيف وضيم وظلم، باحثا عن حلٍ لمشكلة.. أو طريق خلاصٍ لمعضلة، فينتقي الحروف الهجائية، ويستخرج عصارة ثقافته وأفكاره ليصنع صورة تعكس الواقع، فيكتب شكوى اومقالا يصف فيه حال بلده، وبعد ان تصل أنظار المسؤول، تـُعامل كأنها موضوع إنشائي كتبه تلميذ، والسيد المسؤول قد يتعب أنامله بتصحيحه. وبذا يكون الفرق بين المسؤول وكاتب الشكوى كقول نزار قباني:
الحرف عندي نزيف دائم
والحرف عندك ماتعدى الإصبعا
صورة أخرى عادة مانشاهدها في عراقنا الجديد أبطالها الشعراء، فالشاعر يعيش ألم وطنه وأهله وناسه ويتحسس همومهم.. يسمو بحسه.. ينظم قصيدة تنزف من جراح العراقيين.. يضمنها أحلامهم وآمالهم.. يلقيها في محفل ما أمام سلاطين عراقه الجديد.. يصفقون له بحرارة.. يفرح شاعرنا ظانا ان شكواه وصلت آذانا صاغية.. لكنه في حقيقة الأمر لم يكن تصفيقا، بل كانوا ينفضون أيديهم ان لاشيء مما في القصيدة سيتحقق. ومن صورة الى صورة.. وسلطان الى سلطان.. يتنقل العراقيون وسط الرتابة.. يتطلعون الى تغيير.. وما في الأفق من شيء.