انصحك بالذهاب للعلاج في الخارج. اجهزة الفحص غير متوفرة هنا، في بغداد. ظل صوت الطبيب يرن في اذاني، وأنا انظر الى بساتين النخيل على جانبي الطريق، والقرى المتناثرة هنا وهناك على مقربة من حافات الطريق. لا ادري بالضبط ما الذي جعلني؛ اتصور في خيالي، ان الناس في بيوت الطين هذه، أو، أن اغلبها مبنية بالطين، او بالصفيح؛ غارقون بالحزن والبؤس والألم. الرجل الصموت الذي يجلس على المقعد الى جانبي، في الحافلة التي اقلتنا من بغداد، اخرج سيكاره، وبدأ يدخن بصمت. شممت رائحة الدخان، تحسرت لأني لا استطيع التدخين، فقد منعني الطبيب. قلت لزوجتي ذات ليل وهي ترقد الى جانبي في السرير- ان يديَ ترتجفان منذ بضعة ايام، كما أني اشعر بالاختناق في بعض الاوقات، وشهيتي للطعام، قليلة، الى درجة كبيرة، على غير عادتي. كانت السماء حينها، في تلك الليلة الكئيبة، في الخارج، يتهاطل منها المطر، مع اصوات الرعد ووميض البرق. تخللها اصوات اطلاق الرصاص من امكنة بعيدة ومتفرقة. نهضت من السرير، واخذت انظر الى السماء المظلمة الا من وميض البرق بين الفينة والأخرى. كنت اشعر بأن شئيا ما في صدري غير طبيعي، كنت احس بالخوف يستولي على جميع مشاعري وكياني. لم انتبه الى زوجتي وهي تقف الى جانبي، امام النافذة المطلة على الشارع والسماء والليل والظلام. فجاءة صر باب الغرفة. – بابا؛ أنا خائفة. قالت ابنتي الوحيدة، وهي تتقدم بخطوات وئيدة ومرتبكة، في فضاء غرفة النوم هذه، التي يخيم عليها الخوف والرعب، كما في غرفة نومي وبقية غرف البيت، كما قالت لنا، ابنتي وهي تقترب منا، عندما اصبحت على مبعدة اشبار من وقفتينا أنا وامها. ومن ثم قالت وهي ترتجف – اريد ان انام هنا. تقدمت إليها وحضنتها، وقبلتها في جبينها. لا تخفِ. أبقِ هنا، أذ لم يبق على الفجر الا قليلا وينبلج. في اليوم التالي، في المساء، عندما خرجت من عيادة الطبيب بعد ان اكملت جميع الفحوصات المتيسرة، وعرفت؛ ما اعانيه من علة. مشيت في الشوارع المقفرة الا من بعض المارة هنا وهناك. كل شيء يتفجر بالصمت والسكون المخيف. – لم ينجوا من هذا المرض الذي بدأ يفترس رئتيَ، احدا، من اصدقائي او من معارفي، او من الذين سمعت عنهم. قلت لنفسي وأنا حض خطواتي على المسير. لكن صوت الطبيب الهادىء، ظل يتردد في رأسي، وهو يطمانني بأني سوف اخرج منه، سليما، معافا، ومشافا. مما شد من عزمي وقوة إرادتي، في داخلي، وزاد من جرعة الأمل في نفسي. مر من امامي رتل من همرات الامريكان. قرأت في خلفية احد هذه الهمرات، مدونة بلون الاحمر، وباللغة العربية” خطر.. ابتعد مسافة مائة متر.” لذا، ابتعدت من الرصيف لبضعة امتار، حتى لا يتوهم الجندي القابع هناك على برج الهمر، بدافع التوجس والخوف؛ بأني سوف اقذف عليهم رمانة يدويه او شيئا من هذا القبيل، فقد كنت احمل كيسا مملوء بالأدوية والاشعة، وكامرة طلبتها مني ابنتي حين خرجت قبل ساعات، ومواد اخرى. تلمست الكامرة في الكيس البلاستيكي الذي وضعت فيه ما اشتريت من حاجيات للبيت مع الادوية. وجدتني اشعر بالفرح، والأمل بالشفاء من هذا الداء؛ بالكثير من الإرادة والصبر. قلت مع نفسي: عليَ ان اكافح واناضل في مقاتلة هذا المرض اللعين من أجل زوجتي الحبيبة وابنتي. جاءني هدير على مقربة من الطريق، من الجهة الثانية. وقفت على طول قامتي مع قليل من الانحناء كي لا يصطدم رأسي في سقف الحافلة، ونظرت عبر زجاج النافذة، من الجهة الثانية للحافلة، لأعرف هذا الهدير في هذا المساء الذي يسود فيه السكون، والذي انتشلني مما كنت فيه. رأيت على جانب الطريق، سيارة بيك اب تسير بسرعة بين الاشجار الكائنة في الممر الضيق، بين سلسلة التلال وحافة الطريق، كان فيها اثنان وربما ثلاث من الرجال الملثمين. ومن ثم اختفت في الوادي الضيق بين سلسلة التلال، بعد ان سبقت حافلتنا. اسمع صوت احتكاك عجلات الحافلة على اسفلت الطريق الممتد كما الافعى. في هذه الاثناء، تقريبا جميع الركاب يغطون في نوم عميق الا أنا، فقد كنت حزينا وموجوعا، وخائفا من الذي يخبئه لي القدر، أو نهاية هذا المرض الذي أخذ يفتك برئتيَ. مع جرعات الأمل الذي كان الطبيب يضخها في نفسي في كل زيارة لي الى عيادته، التي ساعدتني على الصبر، ومتابعة العلاج بلا هوادة، مع الكثير من حب الحياة، المجلل بحبي لعائلتي الصغيرة. كان وجه ابنتي الوحيدة، وابتسامة زوجتي التي كانت تستقبلني بها في كل مرة اعود من عملي. أنما الاكثر تأثيرا على نفسي في هذه اللحظة؛ ضحكات ابنتي او قفزاتها وهي تعود من المدرسة، لتقدم لي وثيقة نجاحها، الذي تحتل به الترتيب الاول على صفها. عليه، رغبت على الرغم من نصيحة الطبيب ان لا ادخن ابدا، لكن رغبتي هذه كانت قوية الى الدرجة التي بها، عزمت ان اطلب من جاري، سيكاره أطفيء بها نيران حسراتي التي اشتعلت في صدري، لكن جاري كان يغط في نوم عميق. من ثم نظرت الى جانب الطريق، قرأت لافتة تشير بسهم الى تركيا. وراء النافذة بمسافة قليلة جدا، من الناحية الثانية من الطريق، سلاسل من التلال، تخيم عليها، غير بعيد منها؛ قمم الجبال. كل شيء في الانحاء كان يلفه الصمت والسكون المشحون بالخوف والترقب. سألتني هل غفوت أم لا. عندما واجهني ظلام الليل عندما نظرته، تأكدت وأنا ابحلق في العتمة؛ من أني قد نمت كثيرا، حين سمعت، من وراء التلال زمجرة قذائف الكاتيوشا، وقذائف اخرى، لا اعرفها. مددت رأسي من النافذة؛ انظر الى ما يجري، لم اتمكن من معرفة هذا الذي جرى بغتة بفعل دمس الليل. استيقظ جميع الركاب.- شكو. سألني جاري. قلت له لا اعرف. من جهتي، ولسماعي للحركة الصاخبة، لهمرات الامريكان، وما احدثته من ضجيج مزق صمت الليل، على مقربة من الطريق؛ عرفت انها اخذت، تختفي بين الاشجار وسلسلة التلال، وهي تطلق قذائف مدافعها في الاتجاه الثاني. توقفت الحافلة بعد ان صارت بين القذائف من الجانبين. لكن سائق الحافلة، لاحقا، بسرعة؛ رجع الى الخلف حتى اصبحت الحافلة في المنطقة الأمنة، خارج مساقط قذائف الجانبين، لكنها ظلت في محيط المكان، على مقربة من المعركة التي لم تزل مستمرة. جميع الركاب ينظرون على غير العادة في مثل هذه المواقف؛ الى المعركة المستعرة بين الجانبين. اشرئب بعنقي وأنا انصت الى رطانة الجنود الامريكان، الذي اسمعه يجيء لي من بين الاشجار التي تختفي هي الأخرى في عتمة هذا الليل. في الثواني التالية؛ رما الامريكيون حزم من مشاعل التنوير. دفعَتني اكثر، لثواني، خارج النافذة حتى يتيسر لي مشاهدة افضل. لا أدري ما الذي جعلني في هذه اللحظة المشحونة برعب القذائف من الجانبين، ان اتذكر طلب ابنتي وهي تودعني، في وقفتها على عتبة الباب: لا تنس الصور، اريدها صور عن تركيا وعن الطريق. فقد كانت ابنتي زينب مهوسة بالتقاط الصور، لتحتفظ بها في ألبوها الخاص. كان الظلام شديد العتمة قبل ثواني من الآن، تخترقه بين الفينة والفينة الأخرى وميض القذائف. أما الآن فقد صار الفضاء كما النهار. ذكرني بتلك الليلة البعيدة، في واحدة من اشرس معارك الثماني سنوات. عندما كنت اشد عزم المقاتلين في سريتي التي كانت تقف على الساتر في بحيرة الاسماك. كان حينها، مصور البعثة الاعلامية؛ يؤرشف المعركة صوريا. اخرجت بسرعة الكامرة التي اعطتني ايها ابنتي لالتقط لها الصور. رأيت قبل ان اضغط على زر التصوير، نقطة حمراء تتحرك على زجاج النافذة، على بعد اصبعين من رأسي. عندما ضغطت على زر التصوير، لالتقط صورة لهمر شبت فيها النيران؛ شعرت بوخزة حارقة في جبيني