19 ديسمبر، 2024 6:18 ص

صورة المكان في السرد القصصي (مداعبة الخيال) انموذجا للقاص علي لفتة سعيد

صورة المكان في السرد القصصي (مداعبة الخيال) انموذجا للقاص علي لفتة سعيد

ترك اللص لنا ملحوظة
فوق الحصير
جاء فيها:
لعن الله الأمير
لم يدع شيئا لنا نسرقه
الا الشخير. ( احمد مطر ) من قصيدة (ملحوظة )
لقد حظي المكان في السرد القصصي  بمكانة مميزه وذلك لاعتبارات عدة ابرزها ان المكان واحد من الأركان الاساسية في بناء القصة ،فلا يمكن كتابة قصة بدون مكان مهما كان موضوع القصة او طريقة بنائها هذا من جهة ومن جهة اخرى ،لما يشكله المكان من أهمية ثقافية وجتماعية وتاريخية وسياسية للشعوب  ، فقد ارتبط  المكان دائماعند الشعوب جميعها ،  بدلالات مثلوجية دينية وأيديولجية رمزية خاصة، أفرزت لنا انساق دلالية وفنية سعت عبر النص ،من إعطاء المكان بعد وجودي انساني .وتعتبر اللغة واحدة من  الوسائل الاساسية التي ساهمت في إعطاء المكان حظوره الدائم في السرد ، لما توفره اللغة  من علاقات وظيفية ونفسية وجمالية جعلت المكان عماد ينتظم حوله بناء ( العالم) وقد افرد الفيلسوف ( غاستون باشلار في دراسته ( جماليات المكان ) بعدا فلسفيا مهما ، اذ يذهب الى ان العمل الأدبي يفقد خصوصيته ، وبالتالي أصالته اذا فقد عنصر المكان ، وكذلك يظهر  الناقد ( يوري لوتمان ) في دراسته ( مشكلة المكان الفني ) حيث يؤكد على الرغم من ان عنصر المكان يبدو متناهٍ غير أنه يحاكي موضوعا متناهيا وهو العالم الخارجي ، ولو عدنا الى محور اهتمامنا ،المكان في السرد القصصي العراقي سنجد ان تناول المكان  في السرد الروائي والقصصي معا،نجد صورة المكان تغلب عليه في الكثير من الأحيان سمت، الضيق و القدم التي يمثل لها بالحي الشعبي القذر  او المدينة القديمة المكتظة ، ويفسر ارتباط هذه السمات بالنصوص الأدبية بشكل عام والقصة بشكل خاص لكونها تحمل عنوانا لأيديولوجية معينة  انعكست حسب التحولات السياسية القمعية والهادفة الى فرض حالة من الاقصاء الديني والقومي والثقافي  للمكان من خلال تخطيط الأحياء والمدن بشكل بدائي عشوائي وحرمانها من ابسط متطلبات الحياة السوية لصالح مركز القرار على حساب الأطراف الاخرى ،لذلك نجد ان هذه السمة للمكان لها ابعاد رمزية ودلالية تكشف طبيعة الواقع المزري الذي نأن تحته لعقود طويلة . تعد المجموعة القصصية ( مداعبة الخيال ) للقاص علي لفتة سعيد التي صدرة سنة ٢٠٠٩، في القاهرة عن دار شمس للنشر والتوزيع ، واحده من المجاميع القصصية التي تعتمد في بنائها على المكان كفضاء انساني وثقافي وجمالي رحب كونه يشير الى ابعاد أعمق من المكان بوصفه جغرافيا وهذا ما دفع المؤلف الى اختيار عنوان مجموعته ( مداعبة الخيال ) لما للخيال من ابعاد روحية وفكرية واسعة تحمل الكثير من الدلالات المفتوحة على النص الأدبي ، لذلك عَنْوَن المؤلف  قصته الاولى في المجموعة بنفس عنوان المجموعة التي ستكون محور بحثنا عن صورة المكان في السرد القصصي.  يفتتح  فعل الروي بلسان الراوي العليم ( غني يا خليف اسمعنا صوتك بالله عليك ، يعدل من أطراف يشماغه البالي ) ،فشخصية خليف تظهر صورة المكان الذي يتحرك فيه من خلال كل مايحيط به ويسمعه مع حماره والتي يضعنا الراوي أمامها ( عيناه مثل حماره المطأطئ الرأس) وهي دلالة على وعي ،علي لفته للحضور الإنساني المرتبط بتأثيرات المكان كعلاقة تبادلية بين المكان والشخصية ، ويتضح ذلك جليا  في وصف بيت خليف ( بيته القصي المنفرد ،المبني من القصب .هو ذاته منذ ثلاثين عاماً) وفي مشهد اخر يقول ( حتى لكأن رؤيته باتت من معالم المدينة ) وهذا تاكيد على لسان الراوي الذي يعبر بالضرورة عن اراء المؤلف والتي تعتمد في توجهاتها على احداث مقاربة مابين المكان كفضاء ثقافي واجتماعي يخضع لتاثير الانسان ويتأثر به الانسان ، ولمكان بوصفة علاقة تبادلية مابين الزمكان ،فهذه العلاقة تكشف قدرة المؤلف في التوفيق مابين المكان الجغرافي  والمكان العضوي الإنساني متخذا من المكان فضاء للحضور الإنساني الرحب المنسجم مع احداث القصة ، فتحركات خليف داخل المكان تعطي المتلقي صورة واضحة وصريحة عن حجم الخراب المتعمد الذي احكم حولنا وخصوصا ان المكان هو مدينة الناصرية التي طالما شكلة قلعة مقاومة ورفض لكل أشكال التسلط السياسي فينتقل خليف من الحويزة الى حي شريف ومن الصابئة شرقا الى الصلبة غربا حتى يداهمه احساس البكاء . ان هذا التنقل من مكان الى اخر يرافقه دائما تغير دلالي رمزي ايديولوجي رغم افتقار هذا التحول في بعض جزاء القصة الى تفاصيل وأسباب ،فهذا التحول الذي تظهر فيه الشخصيات والاشياء المتلبسة بالاحداث تبعا لعوامل التغير المكاني تحمل فقر واضح في الوصف . ان مفهوم المكان عند علي لفتة سعيد يأخذ مديات وتجاهات متعددة فإضافة الى البعد الجغرافي او الى الحيّز المحدود للمكان الا انه يشير الى ماهو أعمق من ذالك  اي يتعامل مع المكان  كفضاءات متعددة  متأثرا بالمدارس الأدبية الاخرى،(كنت هناك أذرع مسافة اربع جدران بثلاث خطوات ، والصراخ والجوع والوحدة يمدون رقابهم في الظلمات ) لذلك استطاع علي لفته من اضافة أشياء كثيرة للمكان ، ساعيا عبر السرد الى استثمار وتوظيف للجانب الايديولجي السياسي والثقافي مع الجانب الإنساني  ليضفي على  احداث قصصه بعد جمالي وفكري أعمق ( اكتب ماتراه ، وحوله الى قوة دافعة ..النهاية يجب ان تكون محاولة لزج الواقع بالخيال ) لذلك ظل المكان عند علي لفته في مجموعته القصصية مداعبة الخيال  مكان سياسي فجائعي  اكثر منه  مكان مقاومة  للسلطة الحاكمة لانها أماكن أشبه ماتكون اجبارية اذ يكشف لنا من خلال التبادل بين المكان وشخصية خليف عن الحياة الاستلابية والقهرية التي يعشها خليف من خلال إقامة علاقة بين البيت والمكان كبنية مكانية وبين خليف كوعي ورؤية ايديولوجية ( المدينة قد احترقت وتنأثر التبن في الفضاء .. والدخان يتصاعد من هناك ، من بيت خليف .. من ذلك المكان الذي احتوى صور اربع وجسدا وحمارا فقد صوته ) . ان انية الحضور الإنساني في المكان،قد ساهمت في تحول المكان الى فضاء ينفتح على الكثير من الدلالات رغم  أنماط العيش الضيقة والقديمة التي يصورها لنا الأديب عبر السرد القصصي والروائي وهي دلالة على إنشداد الكاتب او السارد العراقي الى ماضٍ يعيد نفسه اي متوقف عن التحول والتجدد والنمو وينتظر نهايته باستسلام وقناعة تامة وكأن ، لا جدوى من التغيير الايديولجي والثقافي . لذلك انتهى خليف نهاية أشبه ماتكون حتمية لدى الكاتب وكأننا امام معادلة رياضية فالضيق والقدم يساوي الجوع والفجيعة وهذا ما يؤخذ على الأديب العراقي رغم بعض المحاولات الجيدة القليلة نسبيا عما هو سائد اليوم .وعلية ظل المكان في السرد العراقي مكان ثابت يخضع لحتمية الفجيعة والاندثار والاستسلام لما هو كأن او خاضع لسلطة السياسي والديني  .

أحدث المقالات

أحدث المقالات