الرب لا يختزل الخير … تلك حقيقة .. فهو لا يبحث مثلي عنها لانه مصدرها .هكذا تجيب ارزيتا جامشيد صاحبة الخمس وعشرين ربيعا إيرانية الولادة من أم عربية مسيحية الديانة ،وأب تركي مسلم الديانة عن سؤال الوجود : كيف نحقق الخلاص الإنساني الأبدي ونحن نجهل الحقيقة البشرية ؟ هذا ما تحاول الرواية الإجابة عنه من خلال السرد ان تخوض غمار البحث عن سؤال الكيف المعرفي عبر فصولها الست بعد ان ترك المولف فصلا سابعا لمخيلة المتلقي يسرد تصوراته عنه. تبدأ أحداث الرواية قبل نهاية فصلها الأول تسافر ارزيتا هي وعائلتها إلى تركيا حامله معها تساؤلاتها عن جدوى الواقع الإنساني المشبع بالاحباطات والصراعات الوجودية هكذا تصف ارزيتا عوالمها (اختلط الكأس وتشابه الأمر…فلا الخمر زجاجا والا الزجاج خمر)ص4 . فتتعرف على (رحال )الشاب ذو الأصول العربية الذي يتقمص دور المخلص (المسيح ) لتحقيق الخلاص الإنساني للانعتاق والتجرد من أطماعنا الدنيوية عن طريق الاتحاد مع روح القدس المتمثل بنشر تعاليم المسيح الذي ناضل من اجل خلاصنا الأبدي (أحسست بفصول الله الأربع تداهم في لحظة واحدة كياني وجسدي )ص8 ، لكن هذا التحول و الخلاص ينتهي بصدمة موت المخلص أثناء محاولته الهروب الى العراق بعد تحول الحكم في ايران من حكم علماني الى حكم ديني مسلم يرفض كل أشكال التبشير الديني لغير الإسلام ، لتحمل ارزيتا بعدها شعلة التبشير بالحرية البشرية ( ربي ومخلصي لك مؤمنتا بمجدك .. لقد جمعت عن كيان جميل أرسلته أنت لي بمحبتك في قصتي هذه ) ص36 .
يؤثث الكاتب عوالم روايته بصياغات جملية ذات دلالات رمزية وفلسفية عالية حيث تشكل هذه الجمل فضاء سرديا ووصفيا قادرا على الانتقال بالأحداث عبر سيرها من مدياتها الآنية المحدودة بالزمان والمكان الى مديات لا متناهية اي احداث مفتوحة على تحولات مختلفة لا نهائيه وذلك لمد فضاء القص من خلال شحن لغة النص بصور ومعاني إنسانية تحاول الكشف عن حقيقة المأزق الوجودي بشقيه المادي،والروحي المثقل بالصراعات والفشل في تحقيق الحرية والعدالة الإنسانية ، يتدخل الكاتب في سردها على شكل مقدمه للدخول الى عوالم الرواية (قد لا تمثل عملية التآمر على الجوارح خيانة للذات لكنها بالضرورة ترتمي خارج دائرة اللاله الرب ، فأحكام الإله ووصاياه في إطارها العام تدعو للتكامل ، وتتخذ من خصوصية الزمان والمكان محطات يتأمل الإنسان من خلالها الفعل والسلوك ويشرع بالتقييم والتقويم )ص1 وعليه فعملية التكامل و التقييم والتقويم لابد لها ان تخضع الى آليات الوعي الإنساني الإصلاحي النقدي للخلاص من هذا المأزق الوجودي الحرج.
تقوم مهمة القص (الروي) على لسان راوي عليم مشارك في بناء الأحداث يتدخل في سرد الأحداث ويساهم في صناعتها وكذلك في الإبطاء والتسريع في احداثها وهي بطلة الرواية (ارزيتا ) (كنت ارفض ولا استوعب ان يكون الجمال حبيس العقيدة مهما كان عدد معتنقيها )ص3.استخدم الراوي صيغ مختلفة في طريقة الروي حيث جاء فعل الروي مرة بضمير المخاطب (لذا سوف اطلق فراشات تجربتي من زجاجة الاستنثار وانا الذات، واهديها نورا لكل أزهار العقول والقلوب التي تنتظر أنوار الرب)ص2ومرة بضمير المتكلم ( في لحظة أحسست بأننا نهرب من شيء ما ) ص6 .
يرتكز بناء الرواية على عقدة مركزية تتبنى فكرة البحث عن (الروح الإنساني) الذي لا يمكن تحقيقه الا في فهمنا لجوهر وجودنا الحقيقي ؛ العدل /الحرية .
اعتمد الكاتب في بناء الشخصية على خصائص نمطية تتمتع بالخصوصية الفردية و متسقة مع ذاتها كما انها شخصية رئيسية ديناميكية الحركة تدور حولها الأحداث اي شخصية البطل النموذج (ارزيتا ) مع بعض الشخصيات الثانوية المكملة لشخصية البطلة لكن هذه الشخصيات تأخذ ادوارا تنويرية مساعدة ومكملة لشخصية البطل أكثر منها مشاركة في بناء الحدث او التقاطع معه وهو ما يطلق عليه في علم الاجتماع بالتفاعلية الرمزية ،فشخصية جمال الذي يتحول الى رحال التبشيري المتدين هي شخصية رمزية لها دور تنويري روحي محدد رغم سعي الكاتب في إعطائه دورا مركزيا في بناء الأحداث لكن ظل دوره يرتبط بدور المبشر الديني الذي لا يعنيه من الواقع غير الأيمان، لذلك ظهر جمال كشخصية مسيرة مسلوبة الإرادة ( اخذ الرحال بيدي الى طاولة في ركن حديقة بيتنا وبدا يرسم على صفحة الغبار المستقر عليها عدة أسهم تتجه جميعها الى الأعلى لكنها متساوية في الطول والسرعة كما يبدو ) ص30،كذلك دور الأم ،والأب ،ومثال المقعد اخو جمال كلها تأخذ ادوارا مساعدة لدور البطلة .
تتحرك جميع أحداث الرواية ضمن زمن متسلسل :ماضي ،حاضر، مستقبل والتي تبدأ من لحظة سقوط الشاه في ايران وبداية الحرب العراقية الايرانية ، تتشكل شفرة الأحداث كسلسلة متتاليات الأفعال التي تنظم تعقد الأحداث الكبيرة ومن ثم تفكيكها بأحداث اصغر كما جرت الأحداث في مكانين ذو دلالات نفسية وتاريخية ذات طابع ديني متصارع تاريخيين مابين إيران وتركيا لتوثيق لحظة التحول السياسي والثقافي في البلدين لذلك ارتبط هذا الانتقال بالحاجة الفكرية التي تقتضيها البطلة اكثر من كونها تحدث بفعل التحولات الاقتصادية والسياسية للأحداث .تصنف الرواية ضمن تيار الواقعية النقدية التي تتداخل مابين السيرة الذاتية للبطلة والنقد الاجتماعي والسياسي الموجه للمجتمع .
ما يؤخذ على الرواية هي :أنها تنحو في بعض أحداثها منحى تفسيري أيماني تبشيري صرف مما اثر على باب المتعة والمشاركة في مسألة النص وافقد النص جمالية المشاكسة والاختلاف ص22 ( بدأت أنوار يسوع تنير لنا ظلمة ممرات الحياة …الخ ).
اعتماد الكاتب خط قصصي واحد مما جعلها اقرب من القصة الطويلة للرواية. كما وان الكاتب لم يعطي مساحة كافية لشخوص روايته هذا من جانب الشكل أما المضمون فقد اتسع للبحث عن المسكوت عنه داخل مجتمعاتنا و هذا لا يمنعنا من القول ان الرواية قد حققت قصديتها الموضوعية المتمثلة في تسليط الضوء على واقع مشحون بالصراعات الدينية والطائفية المقيته فجاءت الرواية برسالة تحمل وجهة نظر ناقدة تعري هذا الواقع المأزق وتكشف تناقضاته الفكرية والنفسية المتمثلة في الميل نحو إقصاء الأخر المختلف فكريا وثقافيا لذلك جاء هذا النقد عن طريق الأخر المتمثل بصورة الأنثى(ارزيتا) وهي دلالة واضحة على هذه المجتمعات الذكورية التي ترفض كل أشكال التجديد والاختلاف في الرأي والعقيدة فرغم ان الرواية في بعدها الشكلي تأخذ شكل التبشير الديني الا أنها في بعدها الموضوعي العميق تحاول كسر نمط الانغلاق والتخندق الديني والاجتماعي وهذا ما دفع الكاتب لاختيار بطل روايته امرأة كبديل معرفي عانى التهميش وكخيار حضاري تصحيحي أيمانا منه بدورها الفاعل في بناء الإنسان فبدون الحرية الفكرية والعدالة الاجتماعية الفاعلة لا يمكن لنا إحداث تحول معرفي حقيقي في بنية الوعي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للخلاص من حجم المأزق الوجودي الذي افقدنا دورنا الحقيقي في المشاركة في بناء الحياة والواقع ،وعليه علينا ممارسة النقد الذاتي لمنظومتنا الثقافية للخلاص والحرية وكسر هذا النمط الاستبدادي الذكوري بدون ذلك نظل نقتل ونستبعد باسم الدين والمذهب والانتماء، فالخلاص الإنساني لا يمكن ان يحدث طالما لا نزال نختبئ وراء ضعفنا المقدس وكأن لسان حال كاتبها يقول لا حياة سوية وكريمة بدون الاختلاف والتنوع والنقد المعرفي والثقافي والواقع يقول كلنا خطاءون لكن نختبئ وراء ذكوريتنا المقدسة التي لم تعد قادرة على تحقيقي الخلاص الإنساني بالحرية والكرامة .