شغل موضوع المثقف، المفكر الأيراني علي شريعتي (1933ـ1977) كثيراً، في كتاباته ومحاضراته، وشكل أهمية كبيرة في مشروعه الفكري، كون شريعتي يرى في نفسه ذلك المثقف الذي يحمل هموم أمته ومجتمعه وواقعه، وعلى عاتق المثقف تقع مسؤولية كبيرة وخطيرة في اصلاح وتغيير ومواجهة الواقع الذي يعيشه، ورسالة المثقف عند شريعتي ثقيلة وكبرى تكاد تصل الى مستوى رسالة الأنبياء والرسل والثوار والمصلحين في مجتمعاتهم، ونقد الأوضاع السيئة التي يمرون بها، ( فالمثقفون نظراء الرسل، وليسوا من طائفة العلماء أو من العوام المنحطين فاقدي الوعي، لكن المثقف “واعي مسؤول” أعظم مسؤولياته وأهدافه منح بني البشر الوديعة الالهية الكبرى أي المعرفة والوعي،…أن مسؤولية المثقف في زمانه هي القيام بالنبوة في مجتمعه حين لا يكون نبي، ونقل الرسالة الى الجماهير)(1)
ويتفق شريعتي في تعريفه للمثقف مع المعنى المتداول في الغرب وما ذُكر في المعاجم الأجنبية وهو اشتقاق لفظ المثقف من المعنى المشتق لأسم المصدر (Inteligentsia) والصفة منها (Intellectuel)، ( وكلمة Intellect تعني الفطنة أوالذكاء أو العقل أو قدرة الادراك والفهم والاستنتاج، ومن ثم تعني الصفة منها : العاقل المتفهم، وتطلق على الرجل الذي يحسن التفكير، ومن ثم تطلق على أهل الفكر أو Inteligentsiaعلى شريحة من المجتمع تكون من صفاتها المتميزة البارزة هي استعدادها الفكري والعقلي وذكاؤها…وعليه فكل انسان ذكي يبرز ذكاؤه وفكره وفهمه عن سائر مواهبه الأخرى في حياته ومجتمعه فهو مثقف)(2)
ولكن شريعتي يرى ان هناك فهم خاطىء للمثقف، متداول بين الناس، فهم قد يطلقون هذه الصفة على أي انسان لديه تعليم أو معرفة أو شهادة أو دراية في مجال ما، ولكن الأمر ليس كذلك ويخطىء من يعتقد ذلك، لأن المثقف شيء وهذه المجالات شيء آخر، والفارق الجوهري بين الأثنين هو المنهج والأسلوب في طريقة التفكير وادارة الأمور، وسعة الأفق وعمق الرؤية واستيعاب الآخرين وعدم التزمت والتعصب لتوجه ما، أو التسرع في حكم ما تجاه أي أمر من الأمور في هذه الحياة، فالمثقف يقترب في صفته من قول الامام علي (ع) في أحدى حكمه ” اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ دِرَايَةٍ لَا عَقْلَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيل” الذي يوجه من خلاله الناس الى الأناة والتعقل وفحص الأمور وعدم التعجل في أطلاق الأحكام سريعاً وجزافاً كي لا يقعوا في المحاذير والمهالك من الأمور. فالمثقف يتصف بالدراية والتعقل في تحركه، لا بالسذاجة والعجلة في أحكامه.
وللمثقف في نظر شريعتي ميزة يتميز بها عن غيره من أهل الفكر، من كتاب وأدباء وفنانين ومفكرين وعلماء، بما يتميز به من سعة الأفق ووضوح الرؤية، حتى أن شريعتي يطابق بين المثقف والمستنير، كما جاء في اللغة الفرنسية والتي تعني (Clairvoyant ومعناها بعيد النظر أو مستنير، وتعني ذلك الذي لا يتصف بالتقيد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي، بل يفكر بوضوح وسعة أفق)(3).
وكلام شريعتي هذا يذكرنا بفكر ووجهة نظر المفكر العراقي علي الوردي ورؤيته للمثقف، حين يفرق الثاني بينه وبين المتعلم العادي حين يقول : ( فالمتعلم هو من تعلم أموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره. فهو لم يزدد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضيق من مجال نظره، هو قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فاخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرضه عل الكفاح في سبيله. أما المثقف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة وللتأمل فيها ولتملي وجه الصواب منها.).(4)
فالمثقف الحقيقي شخص حر لا يتصف بالجمود والأنغلاق وغير متحيز لعقيدة أو أيديولوجيا أو مذهب ما، ومتحرر من أطره الفكرية الضيقة، سواء كانت نفسية أوفكرية أوحضارية، وتلك مهمة صعبة جداً لا يستطيع بلوغها كل انسان، ولذلك يذهب شريعتي الى القول بأن المجتمع لا يكون بخير الا حين تتوفر فيه مجموعة كبيرة من المثقفين يحملون على عاتقهم الاصلاح والتغيير، وحين تشكل تلك الجماعة طبقة مهمة داخل المجتمع، وتكون ذات تأثير فاعل في محيطها المحلي، وحين تناقش قضايا المجتمع بصورة واقعية، وتعيش هموم الناس، وتضع لهم أفضل الحلول للتخلص من حالة الأنحدار والأنحطاط الذي يمرون به.
والدور الذي يقوم به المثقف كما هو معروف في أي حقبة تاريخية وفي أي مجتمع كان، دور تغييري وتنويري مهم يسعى لنقل حالة مجتمعه واصلاحه من حال الى حال آخر، بعد ادراكه للمشكلات التي يمر بها مجتمعه وأمته، بوعي ومعرفة وحكمة، وتقديم العلاج الناجع الذي يستطيع من خلاله تحقيق تلك النقلة ومحاولة نهضة أمته وتقدمها بين الأمم والحضارات، لأن (المثقف انسان على وعي بالتاقضات الاجتماعية، وعلى وعي بالعوامل الصحيحة لهذا التناقض والتضاد، وعلى وعي باحتياجات هذا العصر وهذا الجيل، ومسؤول عن ابداء طريق الخلاص للمجتمع في هذا الوضع المتناقض المدان وتحديد الحلول والمثل المشتركة للمجتمع).(5)
ولو سألنا شريعتي من هو هذا المثقف الذي تدعو له وما هي الصفات الواجب تحققها فيه كي يكون مثقفاً مسؤولاً وواعياً تجاه قضيته ورسالته؟
من خلال قراءتنا لفكر شريعتي ومؤلفاته المتعددة وتحديداً كتابه المهم الذي يناقش ذلك الموضوع وهو كتاب (مسؤولية المثقف)، نجد شريعتي يقدم دراسة موسعة لشخصية المثقف وقيمته ووظيفته ورسالته داخل مجتمعه، تجاه نفسه وتجاه الآخرين، ويدرس شريعتي أيضاً طبيعة المثقف في المجتمعات الشرقية والاسلامية والغربية، ويعقد الصلة والمقارنة بين تلك المجتمعات وما قام به المثقف من نهضة واصلاح وتنوير وتغيير داخل مجتمعه، سياسياً وفكرياً وثقافياً وروحياً، ويرى شريعتي ان المثقف الحقيقي هو الذي حمل مشعل الثورة والتغيير في المجتمعات الغربية، فالثورة على الكنيسة ورجال الدين المسيح والفكر الظلامي الذي كان سائداً في أوربا ونزعة الاضطهاد والتطرف والعنف الديني، حمل مشعلها المثقف، العالم والمفكر والشاعر والفنان والأديب والسياسي، الذي كان واعياً بدوره ومسؤوليته تجاه ما حصل في أوربا من أحداث وممارسات خاطئة مورست بأسم الدين تجاه الناس وحياتهم، وتجاه الفكر والعلم والعقول، لقد تم الحجر التام على العقول وفرض الوصاية المطلقة عليه دينياً وسياسياً، وعندها شعر المثقف بدوره الحقيقي تجاه ما يحصل من تشويه لحياته وفكره وكبت لحرياته وأستعباده من قبل السلطتين الدينية والسياسية، اللتان عقدتا الصلح والتحالف معاً من أجل أضطهاد الانسان وتحقيق مشروعها اللاهوتي لأستحمار الناس والمجتمعات، فالثقافة تقف في طريق ذلك الأستحمار وتقطع عليه الطريق، والمثقف هو ذلك الشخص الذي يتصف بالنباهة وتوعية الناس لخلاصهم من نزعة الإستحمار التي تفرض عليهم من قبل أي صورة أو ذريعة، سواء من قبل العالم أو رجل الدين أو السياسي أو أي شخص أو مؤسسة تريد أستغلال الناس وأستعبادهم، ويقسم شريعتي النباهة والاستحمار إلى قسمين : فردية و اجتماعية. و النباهة عنده ثقافة، (وهي الوعي السياسي بالمعنى الإفلاطوني للسياسة، لا بمعناها الصحفي اليومي، بل بالمعنى الأفلاطوني للبحث المنتخب الأختياري، أي شعور الفرد بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي للمجتمع، وعلاقته بالمجتمع والمقدرات الراهنة بالنسبة اليه والى مجتمعه، وعلاقته المتقابلة بأبناء شعبه وأمته، والشعور بإنضمامه وارتباطه بالمجتمع، وشعوره بمسؤوليته كرائد وقائد في الطليعة، من أجل الهداية والقيادة والتحرير والحركة الشاملة تجاه شعبه وأمته. الامر الذي يجعل هذا بمثابة مسؤولية ثانية للانسان. فثقافة الانسان وثباته على ما شأنه أن يستلب منه، شيء واحد).(6)
فكل دافع يفضي إلى سلب تلك النباهة هو دافع إستحماري مهما كان، ذو صبغة دينية أو كان ذو قداسة خاصة، سواءً كان هذا الدافع علمياً أو عبادياً أو حتى مدنياً (حضاريا) فهو لا يعبر إلا عن دعوة كاذبة عاقبتها العبودية و سحق الذات لأنها ليست إلا تخديراً للأفكار.
هذه هي رؤية شريعتي للنباهة بوصفها طريقة في التفكير يبلغها الانسان لمواجهة الاستحمار بشتى صوره الفردية والاجتماعية، الدينية والعلمية والسياسية، والمثقف هو الشخص الواعي والمتنور القادر على مواجهة الافكار الزائفة والفساد الفكري والثقافي والاداري والسياسي داخل المجتمع.
ومن خلال دراسة شريعتي، للمجتمع الأوربي والحالة الدينية والسياسية والاجتماعية التي كان يعيشها في مرحلة العصر الوسيط (اوربا الكنسية) وجد ان الدور الكبير في الثورة والاصلاح والتغير وقع على عاتق المثقف الأوربي الذي شعر بالخطر المحدق به والممارس عليه من قبل سلطة الكنيسة التي هيمنت على كل شيء، متخذة من الدين ستاراً لممارسة الاستبداد الفكري والديني والسياسي بأسوأ صوره، مما أضطر المفكر والعالم والفيلسوف والأديب والفنان الواعي والمستنير والمثقف، للوقوف صفاً واحداً لمحاربة ومواجهة تلك الأفكار، ومحاولة بناء منظومة فكرية جديدة لأوربا تعيد لها وجهها المشرق الذي فقدته في ظل الهيمنة والأستحمار الذي فرضته على الناس، وبالتالي كان لعصر النهضة الأوربي ورجال الفكر والعلم دورهم في تحقيق التقدم والنجاح للحضارة الغربية يوم أخذت أوربا بالمنهج العلمي ومنطق الأستقراء والاحتمال والتحليل، لقد كان لمنطق أرسطو سيطرة كبيرة على عقول الناس في تلك الفترة الوسيطة، لأنه منطق الحجة والقياس والحدين، وليس منطق العلم والملاحظة والتجربة، لقد حققت أوربا الجديدة نهضتها وفكرها وثورتها وتقدمها حين طلقت منطق أرسطو وأتخذت من منطق العلم منهجاً جديداً في التفكير على يد فرنسيس بيكون وديكارت وغيرهم، يقول شريعتي 🙁 أن العامل الاساس في تخلف الفكر الأوربي، والمدنية والثقافة في أوربا، في السنوات الألف من القرون الوسطى، كان هو المنهج الأرسطي المعتمد على القياس. وعندما تغيرت هذه النظرة الى الأشياء والقضايا، تغير معها العلم والعالم والمجتمع، وتغيرت معها الحياة الانسانية.).(7)
وجهة نظر شريعتي هذه تشبه كثيراً ما طرحه مجموعة من المفكرين والدارسين الذين نقدوا منطق أرسطو، الذين وجدوا فيه منطقاً لا يصلح والعصور الجديدة المعاصرة، وهو منطق قديم أكل عليه الدهر وشرب، ويذكرنا كلام شريعتي الأخير وموقفه من منطق أرسطو برؤية وموقف علي الوردي من المنطق الأرسطي ايضاً، الذي نقده في الكثير من كتاباته، والسبب في نقد ورفض الوردي لهذا يتضح بقوله : ان ( منطق أرسطو عزل المفكرين عن واقع الحياة وصعد بهم الى السحاب. يتضح لنا ذلك حين ندرس قوانين الفكر التي يستند عليها هذا المنطق في أقيسته، فهي قوانين تناقض قوانين الواقع تناقضاً كبيراً.).(8)
ويرى شريعتي ان أوربا استطاعت أن تتقدم خطوات كبيرة جداً نحو النجاح والتطور بفضل ثورة العلماء والمفكرين الذين ساروا على منهج جديد يعتمد العلم اساساً في كل شيء، بعد أن كان العلم في العصر الوسيط يعني ما يتصل بالكنيسة وبالدين، ولكن الثورة عليها أنتجت منهجاً جديداً يعتمد الأستقراء والملاحظة والتجربة، اذ ( تعتبر مسألة المنهج في التاريخ ـ خصوصاً تاريخ العلم ـ ذات أهمية قصوى، اذ اسلوب المعرفة الصحيحة لكشف الحقائق له أهمية أعظم من الفلسفة والعلم والموهبة…اذن فالمنهج له تأثير كبير في ايجاد التقدم أو الانحطاط، والمنهج العلمي المتبع هو الذي يسبب الركود والتخلف، أو يفجر الحركة والتقدم، وليس النبوغ العلمي، فمثلاً في القرن الرابع والخامس قبل الميلاد، نبغ في الفلسفة والعلوم عمالقة لم يكن يلحق بهم نوابغ القرن الثالث والرابع والخامس عشر الميلادي، فلا ريب أن أرسطو كان أعظم نبوغاً من فرانسيس بيكون، وأفلاطون كان أنبغ من روجر بيكون، لكن لماذا أصبح هؤلاء الافراد، الذين هم أقل درجة في النبوغ من أرسطو وأفلاطون، رواد النهضة العلمية؟ بينما كان أولئك النوابغ أنفسهم سبباً لركود القرون الوسطى، وتوقف ألف سنة فيها. لماذا يصبح نابغة علمية في العالم سبباً للتخلف والركود، ويصبح رجل متوسط النبوغ سبباً للتقدم العلمي والنهضة الاجتماعية؟ والجواب هو ان الثاني وجد المنهج الصحيح للتفكير.).(9)
والاصلاح الديني هو المهمة الكبرى التي عني بها شريعتي في محاولته لتصحيح الكثير من الأفكار والمسارات والرؤى الخاطئة التي سادت في المجتمعات الاسلامية، وفقاً لذلك المنطق العقيم ولذلك المنهج الستاتيكي الذي درجنا عليه لسنوات طويلة ولم نتخلص منه الى اليوم، ومهمة المثقف في الوقت الراهن مهمة ثقيلة في نشر الوعي وتصحيح الافكار والمعتقدات، فـ (على المثقف في هذا المجتمع وفي هذه اللحظة أن يبدأ من الدين لتحرير الناس وهديهم، وايجاد محبة وايمان وحماس جديد وتنوير للاذهان والافكار، واطلاع الناس على قوى الجهل والخرافة والظلم والأنحطاط في المجتمعات الاسلامية، يبدأ من الدين بمعنى الأفكار الدينية الخاصة، …ينبغي على المثقف القيام بحركة بروتستانتية اسلامية، حتى يستطيع أن يمنح مجتمعه انعطافة من الفكر الجديد والحركة الجديدة مثلما فعلت البروتستانتية المسيحية التي فجرت أوربا في العصور الوسطى وقمعت كل قوى الأنحطاط التي أصابت فكر المجتمع بالجمود والركود بأسم الدين.).(10)
ان شريعتي يضع حركة التغيير والاصلاح والتنوير وتشكيل تلك الحركة البروتستانتية الاسلامية على عاتق المثقف المسلم الذي يقوم بنظر شريعتي بالآتي من الافكار والتوجهات : (11)
1ـ يقوم المثقف وهو المهندس الثقافي في المجتمع باستخراج الكنوز الثقافية العظيمة لمجتمعنا وتنقيتها، وتبديل هذه المواد التي سببت الانحطاط والجمود الى طاقة وحركة.
2ـ ينقل التناقضات الاجتماعية والطبيقة من باطن مجتمعه الى ضمير المجتمع ووعيه بالقدرة المتاحة له عن طريق الفن والكتابة والمحاضرات وغيرها من الامكانات.
3ـ يغقد جسراً من القرابة والألفة والتفاهم والمشاركة اللغوية بين “جزيرة أهل الفكر” و “شاطىء الناس” اللذين أبتعدا عن الآخر، ويزداد أبتعداهما بمرور الوقت، وذلك ليجعل الدين الذي نزل في الأصل للحياة والحركة في خدمة الحياة.
4ـ يشل قوى الرجعية ـ وهي القوى التي لا يزال المفكر يقوم بتعضيدها ـ عن طريق القيام ببعث ونهضة دينية، أي عودة الى دين الحياة والحركة والقوة والعدالة، ويقوم بتخليص الناس من الأسباب التي أدت الى تخديرهم وتوقفهم وأنحرافهم وخداعهم، ويجعل نفس هذه العناصر التي وسيلة احياء وتوعية وحركة ونضال ضد الخرافات.
6ـ وأخيراً بتأسيس حركة “بروتستانتية اسلامية”، ـ وبخاصة شيعية، فالتشيع هو مذهب الاعتراض وأسسه هي : الأصالة والمساواة والارشاد، وتاريخه : الجهاد والاستشهاد المستمر ـ يبدل الروح التقليدية المخدرة الاستسلامية للدين الفعلي الموجود عند الجماهير، الى روح اجتهادية واندفاعية واعتراضية ونقدية، ويستخرج هذه الطاقة العظيمة المتراكمة في أعماق مجتمعه وتاريخه، ويقوم بتصفيتها، ويهب المجتمع منها مواد مولدة للحركة وعناصر باعثة للحرارة، فينور عصره ويوقظ جيله.
ولا أعلم من أين يأتي شريعتي ومن أين نأتي نحن بهذا الثائر والمناضل والمثقف التنويري المصلح والسوبرمان، الذي رسالته رسالة الانبياء والرسل، وصفاته صفات المفكرين والعلماء، وامكاناته ملائكية تفوق أي انسان جبار على هذه الارض. كما ان شريعتي يجعل الشرط الأخير شرطاً أيديولوجياً مهماً لنجاح تلك الحركة البروتستانتية الاسلامية، ويجعل نجاح تلك الحركة مرهون بتلك العقيدة (التشيع)، فهل هذا ضامن أكيد لتحقيق ذلك الاصلاح والتغيير، وهل هذه العقيدة بريئة من التشويه والتزييف والنقد كي تكون مقياساً للغير والتغيير والتصحيح؟ أليس تلك العقيدة (مذهب الاعتراض) كما يصفها شريعتي، هي عقيدة مرفوضة من قبل المسلم الآخر الذي لا يدين بتلك العقيدة والمذهب، أليس من يعادي هذا المذهب من المسلمين من أبناء المذاهب الأخرى، ويخالفه ويرفضه ويخاصم أدبياته يعد (ناصبياً ) بلغة ومصطلحات أبناء التشيع؟ فكيف اذن وفق ما نراه من أعتراضات جوهرية على الشرط الأخير الذي طرحه شريعتي نستطيع اقامة جسور ثقة واصلاح وألفة وقرابة بين الجميع، والجميع متخاصم ورافض اللقاء والاجتماع على المشروع منذ اللحظة الأولى؟ أليس في مشروع شريعتي شيء من المثالية والتناقض والرؤية الأيديولوجية التي تجعل المشروع الاصلاحي فاشلاً وخاسراً منذ لحظته الأولى؟ ومن هذا الشخص الذي يقوم بكل تلك الأحداث والحركات والتضحية هل هو رجل الدين أم الأكاديمي أم المفكر أم العالم أم الأديب أم الفنان أم السياسي، الذي يصفه شريعتي بالمثقف، تلك الصفة والمهمة الكبيرة والخطيرة التي يضعها شريعتي على عاتق هذا الانسان الضعيف الذي شأنه شأن أي انسان آخر، لا يخلو من تناقضات وتوجهات وتحيزات عصبوية ودينية وحزبية تجعله رهين لها ويتحرك وفقها كيفما يشاء، ولم يتخلص منها حتى شريعتي في مشروعه الفكري وفي دعوته للتنوير والاصلاح والتغيير، ويلخصه شرطه الأخير الذي علقنا عليه الذي يسقطه في المذهبية، ودعوته للمثقف بصورته الاسلامية لحمل رسالة التغيير وهذا ما يسقطه في الايديولوجية، وبالتالي يتناقض شريعتي وكل ما ذكره عن المشروع الفكري الأوربي الغربي الذي تناوله بالتحليل والعرض والنقد في مؤلفاته ومحاضراته، هذا المشروع النهضوي الذي تحرر من أي توجه ديني ضيق، والذي آمن بالنزعة القومية والانسانية اللادينية والديمقراطية والعلمانية، التي ذكرها شريعتي كشروط وخصائص أساسية لنهضة أوربا وتقدمها في العصر الوسيط، تلك التي أقتفاها المثقف الأوربي في لحظة التغيير والتجديد. فهل يستطيع مفكرنا ومثقفنا ومصلحنا السير على تلك الخطى لتحقيق نهضته وتصحيح مسار ومسيرة فكره المنحرفة عن جادة الصواب؟.(12)
ولكننا نتسائل بعد كل ذلك أيضاً هل يتحمل واقعنا الاجتماعي والفكري والسياسي قيام ثورة وحركة بروتستانتية اسلامية تضاهي الحركة البروتستانتية المسيحية كما حصل في أوربا، والتي فقدت أوربا من جرائها الكثير من التضحيات في الأرواح والثروات والطاقات؟ وهل الفرد العربي والمسلم يتمتع بدرجة وعي وادراك الانسان الغربي؟ وهل لدينا حركات فكرية وثقافية وفلاسفة وأدباء وعلماء يمتلكون عقلية المفكر والمثقف العربي؟ أليس ما طرحه شريعتي وغيره من المفكرين والمجددين الثوريين العرب والمسلمين قد لاقى خصومة وأعتراض وردة فعل كبيرة من قبل رجال الدين التقليديين ومن عامة الناس؟ وهل يشبه واقعنا العربي والاسلامي الواقع الاوربي والمناخ الذي يتحرك وفقه المفكر والمثقف الغربي الذي تحرر من سلطة الأستبداد والطغيان السياسي وسيطرة الفكر الكنسي في أوربا في العصر الوسيط ؟ وهل لدينا تلك الجرأة والتحرر في ممارسة النقد وطرح الأفكار ومناقشتها بروية وعقل واعٍ غير متحزب لجهة أو أيديولوجية أو فكر ما، كما كانت لدى المفكر والفيلسوف والعالم والمثقف الأوربي الذي ناضل ودافع بجدارة وجسارة من أجل تحطيم تلك الأوهام والأصنام والأفكار الزائفة التي قيدت الناس لقرون طوال من أجل نيل كرامته وترك عقله يفكر بصورة حرة دون قيد أو شرط ؟ تلك أسئلة كبيرة ومهمة وصعبة أجد أن الاجابة عليها مهم جداً ولكن الأمر مرهون بالواقع العربي والاسلامي المختلف عن الواقع الأوربي، لا أقول أن أوربا أنتقلت من عصر كنسي ومظلم أي عصر نير وعقلاني وعلمي بين ليلة وضحاها، كلا فهي قد مرت بحروب دينية دموية عنيفة، وحتى تلك الحركة البروتستانتية المسيحية الاصلاحية على يد المصلحين والآباء المسيحيين تعرضت الى الاضطهاد والعنف والاقصاء القتل والسجن والتعذيب، ومرت أوربا بقرون دموية وعنصرية كثيرة دفعت ثمناً كبيراً لنيل تلك الحرية والكرامة والانسانية والتنوير الذي أستطاعت أن تحققه في تاريخها وتحقق تلك النقلة والنهضة الاصلاحية والثورية من أجل الحداثة والاصلاح والتنوير. ولكنني أعتقد أنه ستأتي اللحظة التاريخة الحاسمة عاجلاً أم أجلاً لتبني الناس لأفكار الكثير من المجددين والتنويرين المناهضين للأفكار الزائفة سواء الديني منها أو السياسي أو الفكري أو الأيديولوجي، ولكن ذلك مرهون بالمجتمع وبالحركة الثقافية وبـ (الطبقة الثقافية) كما يسميها شريعتي، التي تأخذ على عاتقها ممارسة النقد والتغيير والتنوير وتوعية الناس وتثقيفهم علمياً وأكاديمياً من خلال منطق العلم والحوار والتفاهم لا من خلال التعصب والانغلاق والتحيز الفكري الذي خسرنا من جرائه الكثير من التضحيات الجسام خلال تاريخنا الطويل.
د. رائد جبار كاظم. كاتب وباحث أكاديمي. الجامعة المستنصرية ـ العراق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) علي شريعتي. مسؤولية المثقف. ط1. مكتبة المعرفة. بغداد ـ العراق. 2013. ص126.
(2) المصدر نفسه. ص 49ـ 50.
(3) المصدر نفسه. ص 51ـ 52.
(4) علي الوردي. خوارق اللاشعور. ط2. دار ومكتبة دجلة والفرات. بيروت ـ لبنان. 2010. ص 46.
(5) شريعتي. مسؤولية المثقف. ص 132.
(6) علي شريعتي. النباهة والاستحمار. ط1. مركز الدراسات االتاريخية والاجتماعية في لندن. بيروت. 2014. ص 36.
(7) علي شريعتي. منهج التعرف على الاسلام. تر: عادل كاظم. دار الامير. لبنان ـ بيروت. ط2. 2007. ص 7.
(8 ) علي الوردي. خوارق اللاشعور. ص 85.
(9) شريعتي. منهج التعرف على الاسلام. ص 6ـ 8.
(10) علي شريعتي. مسؤولية المثقف. ص 144ـ145.
( 11) المصدر نفسه. ص 145ـ 147.
(12) المصدر نفسه. ص 61وما بعدها.