في ظل النزاعات التي تعصف بالعلاقات الانسانية، اصبح استنطاق الماضي جزءا من رهانات الحاضر، يلوذ المفكرون بالماضي اما لتأكيد جذر او للبرهنة على سابقة، او للبحث عن توازن مفقود. وندر ان كانت العودة من اجل المعرفة. وكائناً ما كان السبب، فمن الواضح ان نسغ الماضي يتصاعد في تضاعيف الحاضر فيتعالى بصورة فكرية وادبية ودينية متعددة الوجوه. لم يعد الماضي حقبة خاملة انقضى اوانها وتوارى اثرها، انما هو ذخيرة استثمرها المتنازعون في عصرنا لتأكيد مشروعيتهم، ولهذا انخرط الماضي في معمعمة الحاضر ليكون طرفاً في صراعاته.
ان اعادة قراءة التراث بطريقة واعية، تضمن لنا فهماً اعمق لذواتنا، اذ نتمكن من الغوص فيها لنكتشف مجاهلها، فنعايش الملامح التي وهبت حياتنا اشراقة الحضارة وتلك التي جللتها ظلمة الهمجية… اننا لن نستطيع كشف ذواتنا وفهمها على حقيقتها الا عبر لقاء الآخر، فنتبين مدى تألقها حين تنفتح عليه ومدى بؤسها حين تنغلق في جدران ظلمتها… وبذلك تنبع النظرة للآخر من اعماق الذات فتصبح الصورة التي نشكلها عنه مرآة تعكس رؤيتنا لأنفسنا، فحين ننظر بعين القداسة لذواتنا وننزها عن الخطأ، نبدأ عملية تشويه الآخر دون وعي منا، فنعلي شأن الذات على حسابه، ونمعن في اظهار سلبياته، فيطغى صوت الذات على الاصوات الاخرى، عندئذ يحل التوتر محل التواصل الانساني وينتفي مبدأ التعارف التي نادى به الاسلام.
ان حكمة خلق الله بشراً متنوعين تتجلى في روعة لقائهم وتواصلهم، وبذلك يضفي التنوع جمالاً على العلاقات الانسانية وغنى لها، خاصة حين يؤسسها التقوى التي من معانيها خشية الله والسعي لمرضاته عبر ممارسة القيم التي دعا القلوب لتؤمن بها. ومن هذه القيم مبدأ العدل الذي يتجسد عملياً عبر مساواة الآخر مع الذات، والابتعاد عن الظلم، فلا يتم الغاء الآخر او تشويهه.
كتاب ماجدة حمود الذي نحن بصدد مراجعته، يندرج في اطار تلك المنطقة القلقة من التأكيدات والتأكيدات المعارضة التي تريد ان تثبت ان الخيال العربي المُمثلّ بمجموعة من الكتب الكبيرة التي قامت بتحليلها، ان كان ايجابياً. وقد انطوى على درجة رفيعة من التسامح في تشكيل صورة الآخر.
وليس يجوز تخطي تلك التركة الخصبة من ضروب التفاعل الخلاق بين الانا والآخر والانسياق وراء الترويج لثقافة الكراهية والعزل والاقصاء بل تقتضي المعرفة كشف الستار عن الرؤى الانسانية التي تقاسمها القدماء فيما بينهم من اجل التعايش المشترك مهما اختلفوا في اعراقهم وعقائدهم وثقافاتهم. ولعل الحديث عن صورة الآخر في التراث العربي يضمر بدوره حديثاً عن الذات، فمعرفة الآخر تطوي ضمناً الرغبة في معرفة الذات، ولطالما اكتنز ذلك التراث صوراً مترادفة تحيل على ثقافة نزوع انساني في سائر اشكال التعبير الادبي والفكري…
تهتم دراسة الصورة بمعرفة الصورة الذهنية التي يشكلها الانسان عن ذاته وعن الآخرين، لذلك فان أية صورة للآخر هي انعكاس لـ الذات سواء اكانت تجسد اختلافاً (الآخر مقابل الذات) ام لقاء (الآخر يشبه الذات). وبذلك، تعد هذه الصورة فعلاً ثقافياً يقدم تفاعل الذات مع الآخر فنعايش تفاصيل الحياة الاجتماعية والفكرية والروحية بكل صدقها وعفويتها، خاصة اننا نتلمسها عبر الادب الذي يطلعنا على مفاهيم الآخر وموروثاته الشعورية واللاشعورية، كما نعايش من جهة اخرى اوهام الدارس عن نفسه وعن الآخر، اذ كثير ما تسقط دراسة صورة الآخر في مهاوي التعبير عن الذات وتقديسها ونفي الآخر…
اذاً تؤدي الكتابة عن الآخر الى تعرف الفرد على ذاته، فتبدو الصورة التي يقدمها عن الآخر، تعبيراً عما يعانيه من احباط ورهاب وهوس على المستوى الفردي والجمعي، فهي مجال للتنفيس عن عقد ومكبوتات يعاني منها الفرد والأمة، اذ لا يمكن ان يكون الخيال الذي يشكل ابرز ملامح الصورة مجرد اوهام لا علاقة لها بالواقع، لانه يخضع لمؤثرات تاريخية وبيئية بالاضافة الى تجارب واحلام شخصية. لذلك، يمكننا القول بان دراسة الصورة لا تهتم بواقعيتها وانما بكونها مطابقة لنموذج ثقافي موجود قبلها في الثقافة الدارسة وليس في الثقافة المدروسة، مما يتيح لنا فرصة التعرف على اسسها وعناصرها ووظيفتها الاجتماعية.
المؤلفة ماجدة حمود تناولت في كتابها ابرز المؤلفات الادبية في مجال نظرة الحضارة العربية للآخر في فترتي السلم والحرب.. فانه من المؤلم ان نسعى الى تشويه صورتنا بأيدينا اليوم فتشوه تراثنا بقدر ما تشوه ذاتنا، وقد يلاحظ الكثير منا ان تشويه الذات اليوم ينعكس سلباً على رؤيتنا للآخر فنلجأ الى رسم صورة مشوهة له بمقدار ما نعظم انفسنا وننزهها عن الخطأ. لهذا نرى من الضروري فهم ذواتنا اولاً ثم فهم الآخر، اي كيف تبدت الذات العربية في تراثنا، ما هي جوانب ضعفها؟ وما هي جوانب قوتها، وكيف تعاملنا مع الآخر المختلف في العقيدة والعرق والمرتبة الاجتماعية.
ان الارهاب الفكري الذي مارسناه في حق الآخر المختلف هو ارهاب في حق ذواتنا ايضاً، اذ نغلق نوافذ الحياة المتجددة ونرضى ان نعيش في ظلمة الجهل رافضين ثقافة التسامح التي اسست ازدهار حضارة اجدادنا..
طمحت المؤلفة في كتابها لصورة الآخر في التراث، ان تكون نوعاً من حوار الذات بعيداً عن اوهام تقديس الذات او مجاملتها، وقد سبق اسلافنا الى ذلك، فقد سعوا الى النظر للآخر المختلف بعين العدل والمحبة مثلما ينظرون الى انفسهم تماماً. وقد حاولت المؤلفة في دراستها ان توسع مفهوم الآخر، فهو المختلف عرقياً ودينياً الذي كان شريكاً في الحضارة الاسلامية ولم يكن عدواً صليبياً فقط.
كما ان المؤلفة لم تحصر الآخر بمفهوم جغرافي غربي (اليوناني..) بل درست الآخر الشرقي (الفارسي، الهندي…)، فقد لاحظت ان كثير من الدراسات المقارنة اهتمت بدراسة صورة الآخر الغربي واهملت الآخر الشرقي.
كما ان المؤلفة، حاولت الا تكون دراستها اغفلت خصوصية الادب وروحه، لذلك، لجأت الى بعض المناهج النقدية التي تدرس اللغة باعتبارها احد اهم ملامح الصورة دون ان نغفل الاستفادة من العلوم الانسانية (علم التاريخ، علم النفس، علم الاجتماع…) وقد تعمدت المؤلفة على حد قولها اختيار كتب (البخلاء، الامتاع والمؤانسة، عيون الاخبار، كتاب الاعتبار، الف ليلة وليلة…) كونها تحتوي مشاهد قصصية وملامح من السيرة الذاتية بدت لها شديدة الصلة بالحياة اليومية، وفيه لسياقها الاجتماعي والثقافي… فهي كتب حفظت لنا قصصاً واقعية تتسم بالعفوية والصدق اذ عايشنا فيها التسامح مع الآخر في اكثر الاحيان، وان كنا قد عايشنا فيها مشاهد التعصب احياناً.
* صورة الآخر في كتاب الجاحظ/ البخلاء
من خلال كتب الجاحظ، نلاحظ ان الفرس اكثر الامم حضوراً في الحياة الاجتماعية نتيجة تمازج عرقي وديني حصل اثر الفتح الاسلامي، انعكس على الثقافة حتى يمكننا القول بان الفرس اسهموا بعد دخولهم الاسلام في الحضارة الاسلامية اكثر من غيرهم.
هكذا قدم لنا الجاحظ صورة الفرس عبر رؤية جمالية وانسانية، حتى وجدناه يضفي بهاء وجاذبية على صورة البخيل دون ان يميز فيها بين العرب والفرس. لهذا لم نجد في الحاق صفة البخل بالآخر دليلاً على ان الجاحظ قدم صورة مشوهة للفرس وانما نجد في ذلك رصد مرحلة حضارية جديدة بدأت تفرض قيمها الاجتماعية والاقتصادية غير المألوفة فتجلت معطياتها الجديدة في سلوك الاشخاص وفي مناظراتهم الفكرية بغض النظر عن انتمائهم العرقي… وهكذا حاول الجاحظ ان يرصد بحس الفنان كل ما هو شائع في عصره من قيم باتت جديدة على المجتمع العربي والاسلامي، وقد كان البخل احد هذه القيم فاستطاع ان يبين بروح العالم الموضوعية، ان هذه الصفة لم تختص بها امة دون غيرها من الامم.. ولعل مما ساعد على تقديم رؤية موضوعية لصورة الآخر، اهتمام الجاحظ بجمالية القصة بغض النظر عن هوية ابطالها، فالغاية رصد حالة طارئة على المجتمع عبر رؤية فلسفية وجمالية… وبذلك، استطاع ان يقدم لنا مثلاً لتفاعل الاديب مع عصره بشكل مبدع، فأسس لرؤية موضوعية في تقديم صورة الآخر دون ان تعرف الاستعلاء او العنصرية. لذلك، نستطيع القول بانه قدم لنا صورة الفرس كما قدم لنا صورة العرب، اذ لم ير الآخر الذي يشاركه الدين ويصنع معه الحضارة نقيضاً له بل شريكاً مسهماً معه في اغنائها، فبدا لنا عبر كتبه مدافعاً عن الفرس ضد المتعصبين العرب، كما دافع عن العرب ضد المتعصبين من الفرس.
هكذا قدم لنا ادب الجاحظ مثل كل اديب عظيم رؤية منفتحة على الانسان قد تتأثر بالاوصاف الجاهزة التي تسود في المجتمع كنظرته الى الزنوج لكنها سرعان ما تتجاوزها الى رؤية منفتحة لا تحد الانسان بمعتقد او مكان او زمان. لهذا ابتعد ادبه عن كل رؤية متعصبة ضيقة الافق.
* صورة الآخر في كتاب ابي حيان التوحيدي/ الامتاع والمؤانسة
ابو حيان التوحيدي، ابن بار للحضارة الاسلامية التي انفتحت على الآخر، فكانت القيمة العليا فيها للتقوى التي هي نقيض الكراهية والانغلاق. لذلك، استطاعت كتبه ان تقدم صورة الانفتاح المسلم على الآخر ولم تتسم هذه الصورة بالتوتر الا حين كانت تتعارض مع اخلاق الدين السمحة، وقد لاحظت المؤلفة في القصص التي اوردها، كيف اسبغ المخيال الاسلامي تعاليم الاسلام المثالية على صورة الآخر (اليوناني/ المجوسي…).
اننا- تقول المؤلفة- مدينون للتوحيدي في نقل كثير من صور التمازج الحضاري التي شاعت في القرن الرابع الهجري بفضل الدين الاسلامي. وقد كانت اوضح صور التمازج لديه هي صورة الفرس والعرب. فبين لنا كيف اخذ العرب من الآخرين، كما اعطوهم. وقدم لنا مظاهر التمازج الذي يقوم على اساس ديني.
كانت احدى مظاهره، الاهتمام باللغة العربية حتى وجدنا معظم علمائها من الفرس، كما رصد نماذج بين العرب والفرس، ووضح ان رموز هذا الصراع ممن يشك في دينهم… وبذلك كانت الثقافة الاسلامية ثقافة عالمية تتوحد تحت لوائها الامم المختلفة بل شكلت ثقافة النصراني والمجوسي والملحد…
تعتقد المؤلفة، ان اهم ما يرسخ في الذاكرة هو اتساع افق التوحيدي وتنوع النظرة لديه. انه العالم الذي استطاع ان يتخلص من الرؤية المتعصبة التي كانت قد بدأت تقرّح جسد الامة الاسلامية وتحصر الكمال في شخص واحد او امة. لذلك كانت الفلسفة العالمية في رأيه تقوم على التعدد والتنوع..
لعل من اهم ميزات التوحيدي الفكرية، امتلاك الرؤية الانسانية العامة التي تنطلق من الانسان مهما كان مستواه الاجتماعي متديناً، فانه يملك سمة تجعله متميزاً بها عن غيره، ومثل هذا التميز بين الافراد لا بد ان يؤدي الى تميز الامم وبذلك لمسنا في كتبه دعوة الى حوار الحضارات، اذ لا تستطيع امة ان تملك بمفردها الحكمة والمعرفة والادب والصناعة، فكانت هناك ضرورة ملحة للحوار بين الامم، اي الأخذ والعطاء فيما بينها، وبذلك يتم تحقيق التكامل الانساني، اي الحضارة.
* صورة الآخر في كتاب ابن قتيبة/ عيون الاخبار
قدم ابن قتيبة في كتابه (عيون الاخبار) صوراً متنوعة وصادقة لعصره ولعصور سابقة، دعتها ذاكرته التي يمكن ان تعدها امتداداً لذاكرة امة فتجسدت لنا ملامح شخصيتها مما اتاح لنا –تذكر المؤلفة- فرصة معايشتها في لحظات انفتاحها ولحظات نكوصها.. ويمكن المرء ان يلاحظ ان الآخر قد شكل حافزاً لتأليف كتاب ابن قتيبة. فقد اراد ان يكمل دور الجاحظ في الدفاع عن العرب والرد على الشعوبية.
ولما كان اكثر الشعوبيين من الكتّاب، فقد حاول ابن قتيبة ان يؤلف لهم كتاباً يقرب اليهم المعرفة ويسهل عليهم تناولها، ويجنبهم صعوبة الكتب المتخصصة، فجمع فيها شيئاً من حكمة الفرس والعرب، فذلك ادعى الى تآلفهم واقوى اثراً في صرف المثقفين الشعوبيين عن الكتب الفارسية الخالصة، لعله بذلك، يجعل المعرفة اساس الحوار مع الآخر والتقارب معه.
في كتاب ابن قتيبة، مشاهد تكرس الانفتاح على الآخر وفي الوقت نفسه عايشنا مشاهد تشوه العلاقات الانسانية، لكونها تقوم على التعصب الذي قد يصل حداً يثير الرعب، فينم تجريد الانسان من انسانيته حين يدور حول ذاته مقدساً لها ومحتقراً كل من يخالف الرأي والجنس والعرق… بذلك ينغلق على ذاته مستبعداً اي احساس بالآخر مما يؤدي الى قتل نوازع الخير في النفس البشرية فتصبح الحياة اشبه بغابة من الوحوش يأكل فيها القوي الضعيف.
ان ابن قتيبة جسد لنا انفتاح عصره على الآخر، فلم نجد لدى المسلمين تعصياً اعمى مما اتاح لنا معايشة للرؤية الاسلامية الموضوعية التي تقدم صورة ايجابية للآخر الى جانب السلبية، كما تعلي شأن الذات منطلقة من رؤية متعصبة تارة وتارة اخرى تعلي شأن الآخر على حساب الذات، منطلقة من لحظات ضعف تشوب الذات.. كل ذلك يدفعنا للاعجاب بانجازات المؤلف في مجال تقديم صورة الآخر، فقد حاول ان ينظر اليه بعين العدل التي دعا اليها في مقدمة كتابه (الشعر والشعراء).
* صورة الآخر في كتاب اسامة بن منقذ/ الاعتبار
يعد كتاب (الاعتبار) لأسامة بن منقذ، من كتب السيرة الذاتية المهمة في تراثنا،، اذ ارخ لمرحلة متأزمة في تاريخنا الاسلامي غزا فيها الفرنجة بلادنا، فاستطاع ان يعرفنا على الآخر المعتدي في احواله كلها، كما سلط الضوء على الذات، وهي تقاوم المعتدي في الحرب وتتعايش معه في السلم.
سيرة اسامة بن منقذ، سيرة جمعية للأمة اندمجت فيها الانا بـ النحن، فلمسنا روح الامة في لحظة نادرة عن التاريخ، كبونا فيها وناضلنا لننهض ثانية. كما عايشنا صورة حية للذات والآخر سلطت الضوء على مرحلة تاريخية متوترة بيننا وبين الآخر، فلم تجدها مصبوغة بالدم دائماً.
فبعيداً عن ساحات الحرب نشأت علاقات انسانية لعل احد تجلياتها، التبادل اللغوي بين اللغة العربية والافرنجية. فقد استعار ابن منقذ مفردات من لغتهم…
لهذا فضل الكثير من الافرنج بعد هزيمتهم الاستقرار في الشرق، فقد جذبتهم الحضارة الاسلامية التي تفتح صدرها لكل الناس بغض النظر عن عقيدتهم او عرقهم.
* صورة الآخر في كتاب الف ليلة وليلة
تكمن جماليات الصورة في (الف ليلة وليلة) في تعددها، فلم نجدها تتسم بالسكون وانما ثمة ما يفاجئ المتلقي فيتخلخل معارفه ويغير الصورة النمطية التي كونها عبر اوهامه الثقافية.. وقد بدت لنا الصورة التي تجسد العلاقة مع الآخر المختلف اقرب الى الموضوعية حين تبدو متأثرة بالمعايشة اليومية لكن حين تؤخذ سريعاً يغلفها الرعب والشر…
من هنا، يبدو لنا- تشير المؤلفة- ان التطور في العلاقات الانسانية وازالة سوء التفاهم محكوم بالمعرفة واقتراب الانسان من اخيه الانسان.. ورغم تأثر الليالي بما قدمته الحضارات الانسانية جميعاً، فان اثر الحضارة الاسلامية كان الابرز. بدا ذلك في لغتها وسيطرة مفاهميها على الحياة الاجتماعية وسلوك الانسان.. وقد تأثرت صور الآخر بالمعتقد الديني، فكلما كان الآخر قريباً من قيم الاسلام، كانت صورته ايجابية. لذلك كان التشوه من نصيب الكافر، سواء اكان انسياً ام جنياً. لهذا بدا لنا في الليالي عالم الجن اقرب الى عالم الانس.. لمسنا –تشير المؤلفة- تشويهاً لصورة الآخر الزنجي ثم عن نظرة استعلائية، فالحقت به كل الصفات السيئة سواء اكانت جسدية ام معنوية…
لاحظنا- تذكر المؤلفة- وجود ملامح صورة موضوعية للمرأة، لم تبق في ذاكرة المتلقي، فقد طغت الملامح السلبية (الخائنة، العبدة لشهواتها، المحتالة…) على الايجابية التي جسدتها شهرزاد وغيرها (المخلصة، الحكيمة، الشجاعة..).
ان هيمنة النسق الثقافي بما فيه من تحيز جنسي وعرقي، الذي رأيناه في الليالي، مازلنا نعيشه الى اليوم، كما ان طغيان الصورة السلبية على الايجابية في تقديم الآخر او فهمه مازال يهيمن على العقول والمخيلة، لهذا وجدنا المؤلف محكوماً للعرف الاجتماعي اكثر من المعتقد الديني….
اخيراً، طمحت المؤلفة في كتابها الى فهم الذات ونقدها عبر تعاملها مع الآخر، كي تستطيع كشف مدى تشوهها وتعصبها، ومدى محاربتها لهذا التشوه انطلاقا من المبادئ الانسانية التي دعا اليها الاسلام، لهذا حاولت الاجابة على هذا السؤال: هل اتسعت آفاق المسلمين وطبقوا مبدأ التعارف الاسلامي؟ وتخلصوا من التعاليم القبلية المتعصبة؟
من خلال قراءتنا للكتاب، بدت لنا دراسة صورة الآخر من اهم العوامل التي تسهم في اغناء شخصية الانسان، فيزداد فهما لذاته وللآخر معاً، كما تستطيع ان تسهم في توسيع افق الكتابة والتفكير والحلم مما يجعل منظومة المفاهيم التي يتبناها الانسان أقل صلابة واكثر مرونة وحيوية مما يؤدي الى نضج الشخصية الفردية على المستوى الانساني والمعرفي، فيتم التعرف على الذات والآخر في الوقت نفسه.
هذا على المستوى الفردي، اما على المستوى الجماعي فتفيد دراسة صورة الآخر في تصريف الانفعالات المكبوتة تجاه الآخر، وفهم وتحليل اوهام المجتمع الكامنة في اعماقه، فتعري الذات والآخر معاً، وبذلك تبين الصورة المغلوطة المكونة عن الذات والآخر، وتسهم في ازالة سوء التفاهم الذي ينزع الى اعلان شأن الذات وتحقير الآخر، كي تؤسس لعلاقات معافاة من الاوهام التي هي نتيجة للتشويه السلبي او الايجابي لصورة الآخر، وبذلك تسهم المعرفة في تغيير الصورة واسباغ رؤية موضوعية على الذات والآخر معاً.
اعتقد، ان هذا الكتاب، نوع من الحوار مع الذات الذي نحن اليوم احوج ما نكون اليه، لان الحوار مع الآخر لا بد ان يسبقه معرفة بالذات اولاً، كي نقف على ارض صلبة في مواجهة سوء الفهم والعداء اللذين هما رفيقا الجهل في اغلب الاحيان.
* الكتاب- ماجدة حمود- صورة الآخر في التراث العربي، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت) ومنشورات الاختلاف (الجزائر)، 2010، 217 صفحة.
[email protected]