23 ديسمبر، 2024 9:39 ص

(( جلس على قارعة الطريق في الركن المعتاد عليه في كل يوم كان الجو جميلا ونسمات الهواء العليل تملأ المكان التي ترشف من قطرات أمواج النهر المجاور للشارع تتمايل معه خصال شعر الحسناوات المسترسل على أكتافهن ببشرتهن الأوربية المميزة . أمسك بصندوقه الأسود الجلدي الصغير ليخرج منه الناي الخشبي أخذ يُسافر بصوته مع كل ذرة من الهواء العبق في محيطه الذي تزاحم فيه المعجبين بعزفه يستمتعون بأصوات الحزن الذي يبعثه فم نايه وأصابع كفيه النحيلتين تُداعب عيون نايه الخشبي وهو يخترق آذان السامعين بدون إستأذان .
وقبيل الانتهاء من عزفه أنسلت سيدة في الأربعين من العمر من بين الجموع المتجمهرة أمامه لتجلس بجانبه وعندما أحس بها رمقها بنظرات التعجب لمح في عينها علامات الحزن مصحوبة بالوقار وقطرات الدمع تنساب على الخدود وعيون غارقة بالدموع أطال إليها النظر وتمعن وجهها منتظرا منها سؤلا أو أعجابا أو كلمة إطراء لعزفه لكنه طال الانتظار كأن الدموع عقدت لسانها وأنفاسها حُبست بين الأضلع . ساد الهدوء والسكون بعدما أنفضت الجموع من حوله رفعت رأسها نحوه وسألته من أي بلد أنت قال لها أنا عربي مغترب منذ سنين وهذه مهنتي ومصدر رزقي في هذا البلد بعد ما ضاقت بي السبل والعيش في وطني ردت عليه بألم مصحوبة بحسرة تتقد في الصدور أنك قلبت الذكريات وهيجت المواجع وأوقدت مواقد الألم والحزن في زمن كنت فيه بأمس الحاجة إلى من يُطفئ نارها وحنين إلى الوطن يمزق جسدي وحين رأيت الألم والحنين والشوق في عينيك وأنت تلامس الناي وأوتار قلبك تتقطع قبل مسامعك أحسست فيك الطائر المغرد في قفصه يُطرب الناس بصوت ألم صدره وحنجرته . نظرت في عينه وقالت وجدت فيك نفسي وحالي قبل خمسة وعشرين سنة مضت من عمري وأنا في هذا البلد . نهضت من عنده تلملم أطراف ردائها لتمسح به الدموع المتبقية في محاجرها كي تودعه دست في يده ورقة صغيرة وقالت هذا عنواني وأنا مستعدة للمساعدة وغادرت المكان تاركة ورائها نظرات الدهشة والحيرة والصمت يلف المكان من حوله بعدما أنفلت الجميع من أمامه إلا المارة من الناس ينتظر يوما آخر من أيام الغربة )