من نافلة القول ، أنه بعد مرور اكثر من اربعة عشر عاماً على العملية السياسية في العراق ، أنها اتسمت بالفشل والاخفاق التام ، ورافقتها أزمة ثقة بين مكوناتها تتعمق يوماً بعد يوم ، ولم تقد الى نظام سياسي ديمقراطي كما كان يأمل ويطمح اليه الشعب العراقي بكل اطيافه وتشكيلاته ومكوناته الطائفية والقومية بعد عقود من الحكم الشمولي ، بل انها رسخت وعمقت نظام المحاصصة الطائفية والقومية .
ولذلك فان العراق يعيش ويعاني أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وفكرية ، وفي ظل هذا الواقع الصعب المزري نجد نكوصاً في دور الثقافة في المجتمع العراقي ، وغياب بل ولا اغالي اذا قلت تلاشي صوت المثقف العراقي الذي كان يوماً فاعلاً ، مجلجلاً ، صارخاً ، غاضباً ، رافضاً ، ومقاتلاً بالقلم والسلاح ، ما يدل على انهيار البنية التحتية للثقافة العراقية في حياة الناس والمجتمع .
ان المثقفين العراقيين ليس لهم اي دور فاعل في الازمة الحالية التي يعيشها العراق ، بلد النخيل والرافدين ، على عكس رجالات العشائر رالقبائل ورجال الدين والسياسيين الذين يقودون الانسان العاراقي كالرياح الى اي وجهة يريدون ..!
وللاسف أن صوت القبيلة والعشيرة والمؤسسة واحزاب السلطة اكثر ارتفاعاً من صوت المثقف العراقي والثقافة العراقية ، مما يشكل عاراً ومثلبة في جبين الوعي الثقافي والثقافة والحضارة العراقية التي كانت تصدر العقول المفكرة والمثقفين والمبدعين الى العالم الغربي .
ان ازمة المثقف العراقي تتأتى من أزمة المثقف نفسه ، والتي تنسحب بالتالي على أزمة المجتمع العربي على كل الصعد والمجالات .
يعود انكفاء المثقف العراقي الى الممارسات القمعية للمؤسسة السياسبة الحاكمة واحزابها التي تعمل وتسعى الى بسط سيادتها ونفوذها وسطوتها ، ومواجهة المثقفين الذين لا ينضوون تحت حرابها وخيمتها ورايتها .
لقد ضاع وخفت وغاب صوت المثقف العراقي وسط جعجعة الخطب السياسية والشعارات الزائفة للاحزاب المتسلطة ، وهناك الكثير من المثقفين غادروا الوطن بعد أن تركوا القمام الايديولوجية والتابوات الفكرية والأغلال الحزبية والاعلامية ، ووجدوا متنفساً لهم في المنافي خارج الحدود والاسوار ، وبات وهج الحرية اقوى بالتالي ..!
ان دور المثقف العراقي ينحصر بطبيعة الحال في نقد الاحزاب السياسية والمؤسسة الحاكمة وسياسيتهما ، التي مارست الدكتاتورية ، وتعرية مكائدها السياسية والفكرية ، فضلاً عن نقد الحركات والتنظيمات والقوى المشبوهة التي ترتبط بجهات أجنبية أو خليجية أو عربية رجعية .
لا يخفى على احد ان الثقافة العراقية تعيش واقعاً مزرياً للغاية ، وأن الثقافة غدت بضاعة كاسدة في المجتمع العراقي كباقي المجتمعات العربية قاطبة ، وأن المثقف العراقي بات واقفاً على الهامش والرصيف متفرجاً دون أن يتحرك او يفعل شيئاً من أجل التغيير والتحول الجذري الديمقراطي ، ولم يبادر الى ارساء أسس جديدة لثقافة وطنية جذرية عصرية مكافحة ومقاتلة تلعب دوراً ايجابياً مهماً في صنع غد جميل وأفضل للعراق الجريح .
الثقافة ليست شأناً عابراً ، وانما هي أساس البناء الفكري والحضاري ودعامة للدولة المدنية العراقية المستقبلية التي يرنو اليها كل الناس المتنورين والعقلانيين المحبين للحياة والحرية والديمقراطية من أبناء الشعب العراقي ، المتطلعين لمستقبل افضل أكثر اشراقاً وزهواً واخضراراً .
وعليه فان معركة المثقف العراقي مع الكائنات والزواحف المؤسساتية لا تحسم بالقلم والمحبرة ، وانما يتوجب عليه استخدام رفع ” الحذاء ” وقذفه بوجوه القوى السلطوية ، التي تعمل على الاساءة للمثقف العراقي ، وتلجأ الى آليات وأدوات المافيات لاسكات واخراس صوته وكل الاصوات المغايرة والمضادة .
ان المثقفين العراقيين يتحملون المسؤولية عن عدم المواجهة والتحدي والتصدي لقوى البطش والظلام والنزول الى الشوارع والميادين والساحات العامة ، ومواجهة كل الطحالب والزعانف التي تفرض سيطرتها وسطوتها وتسلطها على الواقع العراقي .
لذا فان المثقف العراقي يتوجب عليه ، وباستطاعته ، اذا اراد ، ان يقدم الكثير في نطاق ومساق دور الثقافة في الحياة الاجتماعية العراقية ، والسعي الى توحيد كل القوى الثقافية في وعاء ثقافي واسع ووحدوي ، يستنذ الى وعي عميق ودقيق يجعل من الثقافة جزءاً من الواقع والحياة ، وأداة للوحدة وليس للتفرقة والتشتت والتشرذم .
وكم يحتاج العراق الى المثقف المشتبك الذي يطلق صرخته بكل قوة ويتحدى بشجاعة وجرأة ، ويقف بوجه المؤسسة واحزابها السلطوية ، ويشتبك في حوارات وجدالات فكرية وسياسية وثقافية هادفة بغية ترصين وتوطيد اسس وحدة الثقافة العراقية ، والدفاع عن تنوعها وتراثها الحضاري الغزير ، الذي سيبقى نبراساً ومصباحاً يضيء دروب السائرين نحو الانعتاق والحرية والانتصار والخلاص .