28 ديسمبر، 2024 5:33 م

صوت الحياة عبر الأثير

صوت الحياة عبر الأثير

كان ايقاع الحياة أكثر هدوءاً في السابق،كونها كانت أقل تطوراً وازدحاماً،فكان هناك فرصة ٌ أكبر للإستمتاع بجمال التفاصيل،وتذوق اللحظات،وخلق الفرح دون تكلف لتقارب الأفكار وتشابه الظروف أحياناً،وتشارك الرؤى والمشاعر التي تذيب الفروق بين الناس فتجعلهم أكثر قرباً من بعضهم وتفرغاً لبعضهم،وكان جهازٌ مثل الراديو كفيلاً بجمع الأهل والأصدقاء حوله للإستماع له والإستمتاع به والحديث عن أسرار أولئك الأشخاص الذين يرسلون صوتهم الينا عبره،فكان اختراعاً بالغ الأهمية ومهد لحدوث ثورة وتطور في عالمي الإعلام والفنون،وكان الأساس الذي بني عليه كل التطور الذي نعيشه في الكثير من المجالات،ورافقنا لعقود طويلة في منازلنا ومكاتبنا ومشاويرنا اليومية ورحلاتنا عبر البرامج والأغاني والأخبار والمسلسلات الإذاعية فأصبح جزءًا من ذاكرتنا.. وبرغم تراجع دوره إلا أن هناك العديد من المحاولات لإستعادة هذا الدور بما يواكب العصر..لكن كيف بدأ في عالمنا العربي؟..

يصادف الثالث عشر من شباط/فبراير كل عام،اليوم العالمي للإذاعة..ويتم الإحتفال به نظراً لقيمة الإذاعة واختراع الراديو الذي قام بنقل البشرية من عصر لآخر،وأعطاها زخماً ودفعة حضارية وكانت منبراً وطنياً وتثقيفياً ومعرفياً في الكثير من الأوقات،واختلفت طبعاً بتغير الظروف السياسية والإجتماعية والثقافية حول العالم،وتراجع دورها لكن ظل لها جمهور خاص من المستمعين الأوفياء،الذين يقدرون قيمة ضخ حياة بأكملها عبر أثير الإذاعات خاصةً عند تأدية دورها بالشكل الصحيح،وارتباطها مع المستمع بشكل حقيقي،ولا شك أن الإذاعة تثير حالةً من الحنين في نفوس الناس وتحمل معها ذكرياتهم..

وفي العالم العربي كانت لهذه التجربة مذاق خاص بسبب الحالة العربية ككل،وبين محاولات فردية وبث رسمي واذاعات أسسها الإستعمار لتكون منبراً له..
فبعيداً عن التضارب في توثيق هذه المرحلة،كانت أول إذاعة عربية تنطلق من داخل الأراضي العربية (وهنا لا أذكر المحطات التي أنشأها الإستعمار البريطاني والفرنسي قبلهما بقرابة العشر سنوات) هي الإذاعة المصرية التي انطلقت في 31 مايو/أيار عام 1934،بصوت الإعلامي المصري المعروف “أحمد سالم” قائلاً جملته الشهيرة “هنا القاهرة” وكان لها دور كبير فنياً وثقافياً ووطنياً مع العديد من الإذاعات العربية الأخرى،وقدمت ألمع وأهم الأسماء المصرية والعربية وواكبت أهم الأحداث وشهدت جيلاً فذاً من المبدعين والمثقفين الذين انفتحوا على بقية الثقافات العربية وبشكل خاص من بلاد الشام،وكان وجود أسماء مثل عباس العقاد وفكري أباظة وسهير القلماوي وبابا شارو وآمال فهمي وايناس جوهر وغيرهم الكثير من الذين عملوا أيضاً في اذاعات أخرى يعطيها قيمة ووزناً كبيراً..

ثم تلتها بفارق بسيط إذاعة راديو صفاقس وراديو بنزرت التونسيين بتاريخ 17 حزيران/يونيو عام 1935 فكانت تونس من الدول السباقة لدخول هذه المرحلة الهامة من التطور،ولاحقاً تم تأسيس ما عرف ب(إذاعة تونس البريدية) في 14 تشرين الأول/أكتوبر عام 1938،وكلف بإدارتها الأديب التونسي عثمان الكعاك فبدأت معه ومع أسماء تونسية هامة مثل عبدالعزيز العروي ومصطفى بوشوشة ونور الدين بن محمود ومحجوب بن ميلاد والطيب سكيك (بابا سنبل) وسعدية الجزيري ونجيب الخطاب وغيرهم الكثير ممن قدموا على مدار عقود نخبة من البرامج المنوعة الراسخة في ذاكرة التونسيين وتتفرع إلى العديد من الإذاعات الثقافية والتي انطلقت إلى البث المرئي منذ فترة وجيزة،وتغطي مختلف الفئات والأذواق..

ثم كانت التجربة الفلسطينية التي كانت قوية ومؤثرة وفريدة في تاريخ 30 آذار/مارس عام 1936،من خلال إذاعة “هنا القدس” والتي كان مقرها حي مأمن الله المقدسي،والتي انتقلت إلى مدينة رام الله بعد النكبة الفلسطينية،وكانت محجاً للعديد من الأسماء الفنية والثقافية والوطنية العربية خاصة ً من باقي بلاد الشام والعراق ومصر مثل حليم الرومي وفليمون وهبي والشاعر اللبناني بشارة الخوري والمعروف بالأخطل الصغير وفريد الأطرش وأسمهان والأديب المصري عباس العقاد والعلامة السوري محمد كرد علي وهو رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق والمغنية اللبنانية لور دكاش..

وتلتها الإذاعة العراقية في الأول من تموز/يوليو في نفس العام،أي فقط بعد ثلاثة أشهر من الإذاعة الفلسطينية وقد كانت كياناً ضخماً أسس لمدرسة في الإعداد والإلقاء وتحضير البرامج ونطق اللغة العربية وحذى حذوها العديد من الإذاعات العربية واشتهرت بتنوعها وقيمة مضمونها وتركت بصمةً بارزة ومتفردة في العالم العربي وأغنتها أسماء أدبية مثل الشاعر محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب والشاعرة نازك الملائكة والشاعرة علياء المالكي..

ثم كانت “إذاعة الشرق” اللبنانية عام 1938 والتي تم تسليمها إلى اللبنانين بعد جلاء المستعمر الفرنسي عام 1946،وتحول اسمها إلى الإذاعة اللبنانية والتي توسعت تجربتها لاحقاً لتقدم نقلة إعلامية غير مسبوقة في العالم العربي،وتزخر مكتبتها بأرشيف ضخم لأهم وأبرز الأسماء الفنية والثقافية والوطنية عربياً ودولياً وتسجيلات بصوت كبار الشخصيات في مختلف المجالات،كون لبنان مسرحاً لأهم الأحداث ومحطة أساسية في الفكر العربي بتنوع ثقافاته والذي حظي بالكثير من الأعمال المشتركة خاصة ً مع أسماء مهمة من سوريا وفلسطين ومصر..

وكانت الإذاعة السودانية بدأت بثها عام 1940 من مدينة أم درمان فقط لمدة نصف ساعة من السادسة إلى السادسة والنصف مساءً،وكانت تنشر أوامر المحتل البريطاني وتعرضت للكثير من الضغوطات ولكن السودانيين استمروا في النضال واستخدامها كمنبر وطني بقدر المستطاع في تلك الفترة حتى خروج الإحتلال البريطاني من السودان،وكان الأستاذ عبيد عبد النورهو أول مذيع سوداني..

وسيتفاجىء الكثيرون بأن مملكة البحرين كانت من أوائل الدول العربية والأولى على مستوى دول الخليج في افتتاح بثها الإذاعي اللاسلكي في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1940،والتي تطورت لاحقاً إلى مبنى إذاعة البحرين اللاسلكية في 21حزيران/يونيو عام 1955..

وكانت للتجربة الغنية والعريقة للإذاعة السورية مسارٌ مميز والتي بدأت رسمياً في الثالث من شباط/فبراير عام 1947 بصوت الأمير يحي الشهابي،والتي خرجت أشهر الأسماء الفنية العربية مثل فيروز وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وغيرهم،وكانت تولي اللغة العربية اهتماماً خاصاً،وكانت إذاعةً لها قيمة ووزن كبير واشتهرت ببرامجها ومسلسلاتها الإذاعية،كما وبدأ معها أسماء مثل حكمت محسن وأنور البابا وتيسير السعدي، وفهد كعيكاتي وصباح القباني والذي أصبح أول مدير للتلفزيون السوري، وأول صوت نسائي هدى الشعراوي،وتبلورت التجربة بأبعاد أكثر أهمية في فترة الوحدة مع مصر،وظلت في حالة تنافس مع بداية ظهور التلفزيون وانتقال العديد من كوادر الإذاعة اليه،وتعد برامج مثل حكواتي الفن للفنان القدير الراحل رفيق سبيعي من أشهر البرامج إلى جانب برنامج مسابقات على الهواء لطالب يعقوب..

ثم تلتها الإذاعة الأردنية في 15أيار/مايو عام 1948 وانطلقت من مدينة رام الله (التي ظلت تبث منها حتى عام 1956) باسم “إذاعة القدس” حتى الأول من أيلول/ سبتمبر من نفس العام،وتغير اسمها إلى الإذاعة الأردنية الهاشمية من القدس،وبعد توحيد الضفتين بين الأردن والضفة الغربية في 24 نيسان/أبريل عام 1950،أصبح اسمها إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية،والتي تبث من أم الحيران في ناعور جنوب العاصمة الأردنية عمّان،وامتازت بحضور غني ومرور أسماء لامعة بها كالسيدة فيروز والفنانة سميرة توفيق،كما وشكلت حالةً مهمة قدمت كفاءاتٍ وأسماءاً أردنية وفلسطينية مهمة منها على سبيل المثال لا الحصر ابراهيم طوقان وفدوى طوقان وخليل السكاكيني وعجاج نويهض وعزمي النشاشيبي وسلوى حداد ومحمود الشاهد،وأسس العديد من كوادرها محطات إذاعية وتلفزيونية عربية،وساهموا في تطوير برامجها وتدريب طاقمها،كما استضاف الأردن العديد من الأعمال المشتركة العربية وتتنوع مع العراق وفلسطين ولبنان وسوريا ومصر ودول الخليج،والجدير بالذكر أن الأردن كان أول بلد عربي يطلق اذاعة عبر شبكة الإنترنت عام 2000 مع راديو “عمان نت” أو “راديو البلد” وتحولت إلى إذاعة تقليدية بعد خمس سنوات..

وانطلقت بعدها أول إذاعة سعودية في الأول من تشرين الأول/أكتوبر عام 1949 من مدينة جدة تزامناً مع انطلاق موسم الحج..
وكانت الكويت من الدول السباقة أيضاً في إطلاق الإذاعات وحتى البث التلفزيوني وانطلق البث الإذاعي الكويتي للمرة الأولى في السابعة مساءً في 12 أيار/مايو عام 1951 وقدمت أداءاً مميزاً وامتازت بتقديم العديد من الأعمال المشتركة مع الكثير من الدول العربية في العراق وبلاد الشام ومصر ودول الخليج..

وتختلف التجربة الجزائرية كونها كانت رأس حربة في مواجهة الإستعمار الفرنسي وانطلقت في كانون الثاني/ديسمبر عام 1956من الأراضي المغربية وتميزت بدعمها لثورة الجزائر واستقلالها وتضامن الإذاعات المصرية والتونسية معها ضمن برامج بثها،ومرت بالكثير من المراحل التي تختلف عن الخطوات المعتادة..

وفي عام 1957 شهدت كل من ليبيا وموريتانيا والصومال مع اختلاف الظروف إطلاق البث الإذاعي،لكن التجربة الموريتانية انطلقت من مدينة “أندر” السنغالية ضمن ما يعرف بشبكة البث الإذاعي لفرنسا ماوراء البحار،والتي انتقلت إلى نواكشوط عام 1960 بعد استقلال موريتانيا،أما الصومال فانطلق بثها باللغة الصومالية والإيطالية وتم لاحقاً إضافة بث باللغتين العربية والإنجليزية،وكان لليمن دوره أيضاً عند إطلاق إذاعته في 11أيلول/سبتمبر عام 1964،وهنا يجب أن أتحدث عن إنشاء إذاعة عدن والذي يعود تاريخها إلى مطلع العام 1940 والتي ارتبط إنشاؤها بالاستعمار البريطاني الذي أخذت تدريجياً تخرج من عبائته لتأخذ منحىً وطنياً وعربياً حيث كان وجود جهاز الراديو نادراً ويعمل بالبطارية وكان السكان لا يستطيعون سماع بث إذاعة صوت العرب من القاهرة الا بعد منتصف الليل،بينما كان غالبية الناس يجتمعون حول مكبرات الصوت المثبتة على أعمدة الكهرباء وأيضاً على أبراج مراكز الشرطة في عدن،وتحولت لاحقاً في السابع من شهر آب/أغسطس عام 1954 إلى محطة راديو عدن وانطلقت لتبث صوتها عربياً تحت الإشراف البريطاني..
وتم إنشاء أول بث اذاعي اماراتي عام 1966،أما في دولة قطر بدأ البث الإذاعي 25حزيران/يونيو عام 1968،وبدأت التجربة في سلطنة عمان في الثلاثين من تموز/يوليو عام 1970..

وقد تركت التجربة الإذاعية المغربية إلى النهاية لعدة أسباب تنطبق على كل التجارب العربية السابقة منها أنه تم إطلاق تجارب إذاعية غير رسمية قبل التواريخ المشار إليها في المقال،مع اختلاف الظروف والمراحل لهذه الإذاعات،فعلى سبيل المثال تمت الإشارة إلى تاريخ الإذاعة المصرية عام 1934 كتاريخ لبداية البث الرسمي بينما في الحقيقة كانت بدايتها عام 1925 كتجارب في نفس العام مع الجزائر ولكن المتغيرات والظروف وقتها،والمعايير المتبعة في توثيق هذه الأحداث لسائر الدول تمنع اعتمادها كتجربة محلية خالصة،وكما أن البدايات في العديد من الدول العربية لم تكن من العاصمة كما هو معتاد..

وهنا نعود لنختم بالتجربة الإذاعية المغربية التي بدأت في نيسان/أبريل عام 1928والتي مرت بمراحل مختلفة وكثيرة كسائر الإذاعات من ناحية ساعات البث وتغطيتها لمدن معينة حتى تغطي كامل أرجاء الدولة تدريجياً بمرور السنوات وتطور الأجهزة والتقنيات،وبثها باللغة العربية بشكل رئيسي إلى جانب لغات أخرى مثل كل الدول العربية،واستقلالها بشكل كامل وتوجهها لكل فئات الشعب واستخدام اللغات الخاصة مثل اللغة الأمازيغية والتي تتوجه للمواطنين من نفس الثقافة،وشهدت بروز أسماء مغربية مثل خالد مشبال وعبدالله شقرون ومحمد العربي الزكاف..

ويبقى الحديث عن تاريخ الإذاعات طويلاً ومليئاً بالذكريات والتفاصيل التي اكتفيت بالإضاءة على بداياتها وأهم تفاصيلها قدر الإمكان،ويظل سحر الإذاعة خاصاً لا مثيل له على مر الزمان..