23 ديسمبر، 2024 6:27 ص

صواريخ أربيل، مرة أخرى

صواريخ أربيل، مرة أخرى

لقد تعودنا على رؤية النظام الإيراني، دائما، وعلى امتداد أربعين سنة، وهو يأمر وكلاءه العراقيين بإرسال صواريخه ومسيراته ومفخخاته إلى ما يشاء من مدن العراق ومؤسساته  ومدارسه ومستشفياته، ثم يُبرّيء نفسه من أية مسؤولية، رغم أن المعروف والثابت أن أيَّ واحدٍ من خَدَمه الولائيين لا يرمي عقب سيكارة على أحد بدون أوامر مباشرة ومحددة ومفصلة من الإيراني المكلف بإدارة الملف العراقي من وراء الحدود.

إلا هذه المرة. فقد أعلن، على غير عادته، وعن قصدٍ مبيَّت، عن مسؤولية حرسه الثوري عن الصواريخ الأخيرة التي بررها بوجود قاعدة للموساد الإسرائيلي في أربيل.

ثم كرر تهديداته بالتحرك نحو الأراضي العراقية للقضاء على أخطار الوجود الإسرائيلي في أربيل.

فقد قال رمضان شريف المتحدث باسم الحرس الإيراني، لتلفزيون المسيرة: “في حال لم يتحرك المسؤولون العراقيون لإزالة باقي المقرات الإسرائيلية في إقليم كردستان فسنردُّ دون تردد”.

وما لم يقله المتحدث باسم الحرس الثوري، صراحة، تطوع معلقون عراقيون ولبنانيون موالون لإيران ليقولوه، بالنيابة عنه، وربما بتكليف منه، وهو أن كردستان العراق ستغدو أوكرانيا ثانية أذا بقيت نفس الأهداف (الإسرائيلية) ولم تتم إزالتها.

وقبل أن نتقدم أكثر في متابعة الحديث ينبغي أن نسجل هنا أن الادعاء بوجود مقرات إسرائيلية في كردستان يمكن رؤيتها بالعين المجردة، أو حتى بعيون جواسيس الحرس الثوري، خائب ولا يمكن احترامه، وذلك لسبب بسيط هو أن من غير المعقول أن المخابرات الإسرائيلية، في حال ثبوت وجودها، لن تترك مقار عملها ظاهرة للعيان، أو أن تمارس عملها ضد النظام الإيراني في ضوء النهار. ومطالبة التيار الصدري وجماعة الإطار التنسيقي الولائي الإيراني بالتحقيق للتأكد من صحة الاتهامات الإيرانية هي الأخرى كلام بلا معنى وضرب من ضروب الاحتيال.

أما التهديد الإيراني بغزو كردستان العراق، كما غزا بوتين أوكرانيا فلا يجهل النظام الإيراني أن دخوله إلى الحمام العراقي الكردي والعربي، هذه المرة، لن يكون أبدا كالخروج منه، لعدة أسباب، أهمها،

أن في العراق العربي، وفي العراق الكردي، شعبا لا يقل وطنية وشهامة وشجاعة عن شعب أوكرانيا. فالمقاتل العراقي الكردي والمقاتل العراقي العربي، المعروفان بالبسالة والرجولة والثبات، خصوصا بعد كل القيح الذي ملأ القهر الإيراني الطائفي العنصري قلبيها، متيقظان، متحفّزان لخوض معركة الكرامة الوطنية حتى الانتصار الأخير. وقد يكون الغزو الإيراني المزعوم هو الضارة النافعة. فسوف يُعجل بإدراك القيادات الكردية الحقيقة التي غيبَّها عنها الطمع الشخصي والأنانية الحزبية العابرة، وهي أن وجودها في دولة عراقية موحدة حرة مستقلة وقوية أضمن لها ولشعبها من بقائها في دولة مفككة مفتتة لا يجد فيها المواطن، في ظل الهيمنة الإيرانية الاحتلالية، ما يحمي حاضره ومستقبله ومستقبل أجياله القادمة، وسيعجل بعودتها إلى الصراط المستقيم.

شيء آخر. إن الغزو الإيراني المزعوم لكردستان يعني، بكل الحسابات، نسفا لمصالح تركيا الاقتصادية والسياسية والأمنية، وتهديدا خطيرا جدا لأمنها القومي، الأمر الذي سيفرض عليها أن يكون دورها مثل دور مالدوفا ورومانيا وبولندا لأوكرانيا، ولن يكون لإيران في كردستان روسيا بيضاء أو شيشان أخرى تمدها بالمقاتلين والمعدات لإعانتها على الإثم والعدوان.

 إضافة إلى أن دولا أخرى عديدة في المنطقة والعالم متضررةً من إرهاب النظام الإيراني ومليشياته العراقية واللبنانية واليمنية ستجد في الغزو الإيراني المزعوم لكردستان فرصتها النادرة للانتقام من النظام الإيراني العدواني الإرهابي وإغراقه في المستنقع الجديد، تماما كما يحدث لحليفه الروسي في أوكرانيا هذه الأيام.

وقد كتب كثيرون من زملائنا الكتاب والمحللين العسكريين والسياسيين عن هذه الواقعة ولم يُبقوا لنا فيها شيئا يضاف. ولكن هذه المقالة مخصصة لإثبات مسؤولية القيادات السياسية الكردية الحاكمة في أربيل والسليمانية، معا، ليس فقط عن الصواريخ الأخيرة، بل عن جميع ما سبقها، نتيجة تحالفها مع الأحزاب الدينية الطائفية الرجعية المتخلفة، وهي تعلم بأنها إيرانية الولادة والرضاعة والولاء.

فلولا هذا التحالف، من قبل الغزو الأمريكي في 2003، لما حدث للوطن وأهله ما حدث من تمزيق وتشويه وتخريب وإفقار وإذلال واحتلال.

فقد اختار القادة السياسيون الكرد أن يتحالفوا مع الوكلاء العراقيين للنظام الإيراني وحرسه الثوري منذ العام 1990 في (لجنة العمل المشترك) في دمشق، ثم في مؤتمر بيروت 1990، ثم مؤتمر فيينا، ثم مؤتمرات نيويورك ولندن وصلاح الدين، وكانوا، معا، دائما يفضلون الخلوة في الطوابق العليا من الفنادق التي يعقدون فيها مؤتمرات المعارضة العراقية، فيتخذون قراراتها، وحدَهم، ويُنزِّلونها على الرعية كاللوح المحفوظ.

وحين جاؤوا يداً بيد، مع الاحتلال الأميركي الإيراني للعراق، أفردت لهم الأحزاب الإسلامية، بوصاية من إيران، مكانة أكبر بكثير جدا من أي حليف آخر في مجلس الحكم سيء الصيت، ومنحتهم حقوق المشاركة في كتابة الدستور على مقاس مصالحها وأطماعها، وتقاسمت معهم تفصيل الحكومة على مزاجهم، ووفق مطالب أحزابهم واُسَرِهم وعشائرهم، بدون أي اعتراض، مقابل سكوت القيادات الكردية عن تحويل الدولة التي كان اسمها العـراق إلى محـافظة من محافظات الجمهورية الإسلامية في إيران، والسماح لنوري المالكي وابراهيم الجعفري وآل الحكيم وآل الصدر وهادي العامري وقيس الخزعلي وأبي فدك وأبي علي العسكري بأن يصبحوا رؤساء ووزراء وأصحاب مليشيات، وبأن يكون قاسم سليماني، ومن بعده اسماعيل قاءاني، رئيس الرؤساء، ووزير الوزراء، رغم أنهم يعلمون أكثر من غيرهم بأن هؤلاء مزورون، ملفقون، متآمرون، غدارون لا يؤتمنون.

ولولا ذلك التحالف المسموم بين قادة الحزبين الكرديين وجماعة (أقتل القتيل وامشِ في جنازته) لكان للعراقيين، اليوم، عربا وكردا، وطنٌ سليم ومعافى، عادل وعاقل يحترم نفسه وشعبه، وبلا صواريخ ومفخخات ومتفجرات وكواتم صوت وطرف ثالث ملثم يغتال في الظلام وتسجل الجريمة ضد مجهول.

وما حدث في أربيل، وما سيحدث لاحقا، ليس غريبا ولا عجيبا، وكان على القيادات الكردية أن تتوقعه، وأن تحذر منه، من زمن طويل. ومن يأتمن العقارب والأفاعي ويضعها في عُبّه لابد أن تلدغه ذات يوم.