19 ديسمبر، 2024 2:57 ص

صنع المغالطات في السياسة الامريكية

صنع المغالطات في السياسة الامريكية

بدءاً نؤمن، علمياً وموضوعياً، ان الفكر بازاء الالتزام هو التزام ازاء الفكر، وان التزمت دون التعصب ما هو الا اخفاق في القدرة على الاقناع يدفع الى استعمال العصا لتحقيق ما فشل فيه القلم. وهذه هي المغالطة الاساسية في المناظرة او الحوار الثنائي او الجمعي اذ تعد المغالطة بمنظور علم الاجتماع والعلوم الانسانية خطأ في التفكير من شأنه جعل النتيجة تبدو صحيحة بينما هي مغلوطة، بل خاطئة، ويلجأ الى استعمال كلمة مغالطة في المنطق للاشارة الى الاستدلال الباطل، او الى شكل بأقل من اشكال الاستدلال، اما الشكل الثاني من المغالطة SPORISTICATION فهو اقرب الى معنى السفسطة والتخريف والتمويه. هنا اصبح واضحا ما نريد امام السياسة الامريكية الفارقة في ساحلها الغربي حتى ساحلها الشرقي في تعمد المغالطات وليس مجرد العفوية في ارتكابها وظهورها او التلقائية في مواجهتها والتكيف لها فالتعمد منهج يفضي الى ذنب الاذى والعدوان والعفوية او التلقائية احتمالية تقبل المغفرة والتسامح، وشتان..

يأخذ التعمد الامريكي في صنع المغالطة اشكاله التطبيقية المتغيرة، المتناقضة المتغيرة، المتناقضة والمتضادة احيانا، والمتناغمة والمتوافقة احيانا الا انه في جميع الاحوال يجاوز حالة الممكن المرئي والملموس المتاح الا انها هي مصدره الاول والاساس، فكما ان الكلمة الانكليزية او الاميركية الدالة لوحدة قد تعطي مدلولين فكريين عربيين كما في مقابلة CIVILIZATION بالحضارة و المدنية على ما بينها من فرق تمييزي روحي واخلاقي وقيمي فان كلمة عربية واحدة قد تقابل كلمتين انكليزيتين اميريكيتين بدلالتن متداخلتن كما في مفردة الحداثة اذ تقابل MODERNISM و MODERNITY معا الا ان التمييز بين هاتين الكلمتين الاجنبيتين لم يكن بعيدا عن ثقافة العقل العربي، انما نجد التمييز الحديث بينهما صار ذا منظور سياسي اميركي مستحدث وقاتل بحق اذ اخذت الاولى المدلول الفني الادبي والثقافي على اي اتجاه او تصريف واخذت الثانية المدلول السياسي الدموي المتطرف في فرضية (زيغمونت باول) وهو احد اعمدة هذا التنظير المنحرف: (لا يوجد اي تناقض بين الحداثة) ولما لم نجد اي تناقض بين الابادة والحداثة فان التكافؤ هو البديل التعويضي الذي تريده السياسة الاميركية وليس الحياد بينهما او الجمود او اللاتلاقي بل لم يذهب البديل التعويضي هباء على شكل تجديد هوسي لانه تجسد في تعبير مخادع اخر هو الحرب النظيفة التي ضمنوها امورا ومعاني هي التناقض بعينه فمن حيث الهدف الذي شهدته حربهم ضد العراق فانه يختزل الى الانسان، من دون انجازه الحضاري من غير الانسان. ثم هو في الحالتين معا بعيدا عن الاضرار بالبيئة، نظريا، الا انه في قلب هذه البيئة التدميرية عمليا، حتى اننا لنستطيع وبكل اطمئنان وصف حربهم هذه الحرب النظيفة بالحرب شاملة الاسلحة والاهداف.

ولكن بعض العقول العراقية واقلامها ترمي بنفسها في احضان السذاجة اذ هي تضرب مثلا عليها بحرب الخليج الثانية وكان اصحابها يطالبوننا بأدلة على مشرق الشمس برغم تراكم الادلة التي تنسف هذا المفهوم بمضمونه وشكله معالم في شهداء ملجأ العامرية في جانبنا مقابل اصابة ضابطهم وجنودهم بالامراض الغامضة بفعل اسلحتهم الكتلوية هم، فضلا على اول تقرير علمي رصين في هذا الصدد اعدته جامعة هارفرد (1992-1993) وما اكده القسم العلمي في وكالة نوفوستي الروسية للانباء من تدمير البيئة العراقية وتحمل الولايات المتحدة مسؤولية ذلك كاملة، اما تقارير منظمة الغذاء والزراعة الدولية ومنظمة الصحة العالمية واليونسيف، الدورية والاستئنافية الخاصة فيها تؤكد تصاعد الخط البياني لعدد الامراض ولعدد الاصابة بها ولعدد الوفيات على معدلات مخيفة تهدد وجود الانسان العراقي في عقر داره وان مواجهة هذه الحقائق التي لا تقبل النقاش بمواقف واحكام تسطيحية وتبسيطية كاتهام العراق بالمبالغة، فان ذلك ليس الا المغالطة الاكبر ان صح التوصيف بالاكبر علميا ومنطقيا واسلوبيا.

ولكن بالعلاقة السببية بين الحداثة وما بعد الحداثة في جانبها الفكري الغائي عبر قنوات الفن والادب حصرا، فان ما بعد الحداثة الاخرى (حسب منطوق المغالطة الاميركي: PDST MODERNITY) بديل الى الجانب الفكري الغائي السياسي المرعب عبر القضاء على كل المطلقات المادية والغيبية ومن ثم تحويل العالم بوجوده وكينونته وسيرورته وغائيته الى (ابوريا)، هوة سحيقة تبلغ تلك المطلقات لو تجذبها اليها كما تجذب الثقوب في اعماق الكون كل ما يقترب منها من غير رجعة، وبذلك تخلق الولايات المتحدة لها افق حدث KVKNT HORIZON ارضي سحيق خاضع لمشيئتها فقط شاءت ان تسميه النظام الدولي الجديد ضمن القانون السياسي الامريكي المتأصل – اسم على غير مسمى – فينعكس على السياسة الاميركية الخارجية بصيغة الشريك الاكبر والزبون الافضل والحليف الاقدم والصديق الاقرب مع نقاد ضمها على سلم من الدرجات التقويمية الخاصة، اما المكافأة والمساواة في العلاقات الثنائية والكتلية فلا وجود لهما في هذه السياسة حتى باطار النظام الدولي الجديد نفسه، فبدلا من استعمال صيغة افعل المحببة هذه في التداول السياسي والعلاقات الدولية نجد السياسة الامريكية تلجأ الى صيغة افعل السلبية النقيضة كالعدو الاكبر والخصم الاشد، وتلصق بها كل النعوت التي تصيب اخيرا في جعبة المصلحة الاميركية الستراتيجية، الاقليمية والقارية لتمهد لسياسات تغمرها المغالطات من الف ابتداعها حتى باء تطبيقاتها كما في مغالطة الحداثوية السياسية و (ابوريا ) سواء بالدم والحديد واليورانيوم المنضب الذي استعمل بكثافة في العدوان على العراق، ام بالفايروس وحبة الاسبرين، بل حبة القمح وقطرة الحليب.

لقد مهد لهذا الجانب التطبيقي من المغالطة صموئيل هنتنغتون في كتابه التاريخي الموثق (صراع الحضارات – 1993) بشكله الحداثوي السياسي وربما استخلص مضمونه من الاحداث التي للولايات المتحدة دور او مصلحة في صنعها وليس على هيئة فرضية اصلية ممكنة التأييد او قابلة للتنفيذ عندما نقل اسس التصنيف الحضاري الى معيارية جديدة (وليس كل جديد جيدا) فأسماها خطوط الصدع بين الاديان والمدنيات- الحضارات التابعة لها في الدول التي تدين بها وجعل حضارة الغرب قمة فوق الجميع، ثم بدأ يوزع نصائحه وارشاداته لاجل مقاومة المتوقع او المنتظر من الحضارات الاخرى في القرن الواحد والعشرين، الا ان زيغمونت باول صمم الوجه الاخر للعمل ولم يصنع عملة جديدة سواء سبق هنتنغتون تاريخيا ام تأخر منه حتى ليخيل لنا ولاسباب موضوعية وعملية متكاملة اننا نستطيع الربط بينما على هيئة معادلة نسميها معادلة (باول- هنتنغتون) بازاء تحليل السياسة الاميركية الجديدة- القديمة عالميا وليس معادلة هذين المنظرين في تحايل واقع العالم وفعل التاريخ المعاصر، غير اننا في الوقت نفسه لا نقول باحكام هذه الثنائية عضويا (بعيدا عن مفهوم الشعب العضو FOLK) على نحو دائم، بل ان التفريق بينهما ممكن ومتاح وجائز وعلى نحو واسع ايضا، فحرب (الخليج الثانية) بموجب فرضية هنتنغتون تمثل استثناء لقاعدة او مضمون الفرضية برغم ان هذه الحروب تعد من اكبر حروب التاريخ واعقدها الا انها تقع في صلب فرضية (باول) في المزاجية بين الابادة والحداثة السياسية، ولو تداركنا المغزى النهائي في مثل هذه الفرضيات التنظيرية التي لم يشهد تاريخ الفكر السياسي الانساني اخطر منها على سلامة الانسان ومستقبله لما وجدنا غير اطار محدد لما يتعين على السياسة الاميركية ان تسير بموجبه تلقاء العالم كله في الحاضر والمستقبل مادامت القوة والاقتصاد والمعلوماتية والجغرافية قد اجتمعت بين يديها وذلك بغية الهيمنة الحقيقية العملية والكاملة على هذا العالم الصغير ومنع اية حضارة اخرى من الاقتراب منها ومنافستها، كليا او جزئيا، حتى لو كانت غريبة في اخر المطاف.

من هنا يمكن القول ان النضال السياسي من اجل الاستقلال الوطني كان خطوة اولى اما الكفاح من اجل الاستقلال الاقتصادي فقد صار خطوة متقدمة الا ان الاستماتة من اجل الاستقلال الفكري وشرعية صنع القرار وطنياً وقومياً وانسانياً ومقاومة الاستسلام القدري النزعة المنبعثة من تلك الفرضيات او الظواهر المترتبة عليها يفضي الى القضاء على اثارها المدمرة ولا سبيل الى هذه الاستماتة والمقاومة بغير مواجهة الاجراءات السياسية الاميركية القائمة على هذه الفرضيات بوعي ومسؤولية تلزم المثقف العراقي في الداخل والخارج مراجعة موافقة وتطلعاته بترجيح الاهم فالمهم وبتقدير موقف العراق التقدير الموضوعي على هذا الاساس، ومن ثم المثقف العربي في خارج الوطن العربي وفي داخله لنتبين حقيقة معاداة الولايات المتحدة الاميركية لنا بالذات والتصدي لفكرة قلب موازين كل الفرضيات السياسية المعادية للشعوب على نحو غير مسبوق، ومؤثر في هذا الجيل ولعقود طويلة كما ارى.

ان محاولة جعل العراق قدوة في العالم مشروعة وصحيحة ولكن محاولة الولايات المتحدة جعله عبرة للعالم مسألة عدوانية وصارخة الظلم، اما الخيار من بين الاثنين فليس صعباً على كل حال بالنسبة الى اي مثقف.
*[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات