10 أبريل، 2024 4:13 م
Search
Close this search box.

صناع الأزمات والتشنجات والتفرقة والفوضى والمبررات هم سياسيوا العراق (ج 2 )‎‎‏

Facebook
Twitter
LinkedIn

لماذا عجلة النظام السياسي في العراق مستغرقة في الأزمات؟

في البدء لا بد لنا من أن نحدد فيما إذا كان النظام السياسي في العراق يعمد إلى صناعة الأزمات ليديم وجوده أو إنها أزمات تواجه النظام رغماً عنه ويسعى لحلها جاهداً دون جدوى؟ أنا شخصياً أميل إلى الرأي الأول ليس دفاعاً عن نزاهة وإخلاص القائمين على النظام السياسي بعد 2003 حتى الآن ولكن لظني بعدم قدرة النظام على أن يحول صناعة الأزمة إلى سياسة إستراتيجية لادامة وجوده. ذلك أن صناعة الأزمة بحد ذاتها تتطلب قدرة ومهارة وبيئة حاضنة ودعم دولي واقليمي يجعل من هذه السياسة عامل بقاء وقوة للنظام وهذه العوامل لا اظنها موجودة. إذن نحن نناقش العوامل التي أدت الى استغراق النظام السياسي بعد 2003 بأزماته وتفاعلاتها وبما يهدد وجوده مستقبلاً ومن هذه العوامل ما يلي:

1- ولادة النظام: هناك فرق كبير بين نظام سياسي يولد من الرحم الطبيعي للشعوب وثوراتها ونظام سياسي يولد بعملية قيصرية عن طريق الانقلاب العسكري أو الاحتلال العسكري ؛ إذ لا يخفى على كل لبيب الفرق بين الحالين، وهنا قد يبرز سؤال أليس من سهل سقوط النظام الصدامي المجرم هو دماء الشهداء وتضحيات الشعب ومعاداته للنظام المقبور؟ الجواب نعم ولو كان هناك نسبة 30‎%‎ ايمان وقبول بالنظام أو لنقل تعاطف معه لما تجرأت امريكا الى دخول هذا المستنقع ولما تمكنت من اسقاطه بغضون عشرين يوماً. لكن ذلك لا يعني أبداً أن ما حصل ثورة شعبية وطدت وأسست وأصلت لبناء النظام السياسي وفق ما تشتهي وتتمنى بل كانت الارادة الامريكية هي الراعية لأدق التفاصيل في بناء هذا النظام بدءً بقانون المرحلة الانتقالية وإلى اليوم. وقد يتساءل آخر ألم تكن اليابان والمانيا وهما من العشر الكبار اليوم دولتان محتلتان وقام نظامهما السياسي تحت ارادة الاحتلال وحرابه؟ والجواب أن السائل غفل عن أن الدولتين لم يغير نظامهما بالكامل فاليابان كانت تتمتع بنظام ملكي دستوري وبقي الامبراطور على مكانته وكذلك في المانيا فهتلر نفسه جاء بانتخابات ديمقراطية وظل يحظى بدعم شعبي كبير لما قبل سقوطه هذا من جانب.

ومن جانب آخر فإن الوضع الاقليمي المحيط بالدولتين يختلف تماماً عما عليه في العراق فهناك لاتوجد اسرائيل التي لازالت تفرض على الكبار حتى اليوم أن تكون هي القوة الاولى في المنطقة ولا تسمح بكل ما اوتيت من قدرة واستطاعة أن تكون هناك دولة تنافسها في الاستقرار والقوة الاقتصادية والعسكرية في المنطقة.

2- هوية النظام ومدى مطابقته لإرادة الكبار، ونعني بالكبار هنا الفاعلين الدوليين الذين يشكلون أقطاب النظام السياسي الدولي وهم اليوم امريكا والغرب من جانب وروسيا والصين من جانب آخر، فالقيادة السياسية في العراق لازالت غامضة الهوية على أولئك الفاعلين ففي حين هي تتبنى نظاماً رأسماليا ديمقراطياً يكاد يتماهى مع دول الغرب إلا أنها بذات الوقت لا تتخلى عن هويتها الاسلامية وميولها للنظام الاسلامي لجمهورية ايران الاسلامية وتارةً تحاول أن تختط لنفسها سلوكاً مقاوماً للامريكان وأخرى دولةً معتدلةً تساير دول الخليج في طاعتها لأمريكا وكل هذا يجعل الفاعلين الدوليين يقفون موقف اللامبالاة من الازمات التي تعصف بالبلاد ان لم يسعوا إلى صناعتها.

3- فقر التجربة وانهيار الدولة: “التجربة علم مستأنف” ولا يخفى أن القائمين على النظام السياسي الحالي لا يتميزون بخبرة طويلة في فن إدارة الدول وتلافي الأزمات، وأزمات الدول وإن تشابهت مع أي أزمة في أي مؤسسة صغيرة من حيث المدخلات والمخرجات، الاسباب والنتائج، الفرص والتحديات إلا أنها تمتاز بعقدة التشابك الدولي من حيث المصالح والنفوذ وتحتاج الى ممارسة طويلة وتراكمية لكي تكون قرارات رسم العلاقة مع الفاعلين الدوليين صحيحة. أما ما نعنيه بانهيار الدولة هو أن الاحتلال ساهم في انهيار الدولة كمؤسسات ونُهبت أو دُمرت كل موجودات الوزارات من إرشيف ومخاطبات ودراسات ناهيك عن أثاث الوزارات وأبنيتها، وإذا ما أضفت لذلك حل الجيش وكل الأجهزة الأمنية السابقة فستعلم حجم الخراب الذي ستثيره هذه الاجهزة التي تحولت من دولة فوق الأرض الى دولة تحت الأرض تعيق وتهدم الدولة الجديدة وتثير أمامها أخطر الأزمات.

4- الإعلام المنفلت: تشكل الدعاية في كل الأزمان عموماً وفي عصرنا الحاضر خصوصاً عنصراً من عناصر النظام السياسي وركناً من اركان استقراره فكلما كانت محتويات الدعاية واحدة وتخضع لاستراتيجية معدة سلفاً كلما كان التناغم بين النظام السياسي والجمهور أكثر والعكس بالعكس. في العراق بعد 2003 هناك حرية منفلتة يتبعها اعلام منفلت فلا حساب ولا عقوبة على تصريح طائفي من شأنه أن يهدد السلم المجتمعي ولا حساب ولا عقوبة على اختلاق كذبة كبيرة وسط المجتمع يصدقها الالاف وهي محض افتراء وذلك كله مما يُسهم في فوضى أزمات متلاحقة والذي يحدث في العراق ليس ديمقراطية وازنة بناءة وإنما فوضى تُغيّب القانون وتحض على تخريب العقول وزرع الإحن والفتن بين المكونات وما يؤلم أن كل ذلك يقع تحت لافتة الديمقراطية.

 

أما عن أهم الوسائل التي نحتاج تفعيلها سياسياً واجتماعياً وثقافياً لإدارة الازمات والعبور منها نحو الحل والتنمية فهي كثيرة ففضلاً عن معالجة الأسباب التي أشرنا إليها والتي أدت إلى تضخم أو تضخيم أزمات النظام السياسي فيمكننا إضافة العوامل التالية:

1- على الصعيد السياسي ليس هناك أنجع من التفاهم بين الكتل السياسية مادامت الوحدة متعذرة، وإن لم يكن فهو النفخ في المشتركات فإنها تبعث برسالة اطمئنان الى الشارع العراقي. الاختلاف سنة ولكن الاحتراب فتنة. تعدد وجهات النظر في القرارات المصيرية ذات المساس بحياة المواطنين ينضج القرار ولكن معارضة لأجل المعارضة أنانية وحسد وغل وحقد يؤدي إلى أرباك المشهد السياسي وتعطيله وبما يؤثر على حياة الناس واستقرارهم. الوطن خيمة تُظل الجميع ومداراة هذه الخيمة فائدة للجميع وهو سفينة تقل الجميع وخرقها من البعض يُغرِق الجميع. الإختلاف لأجل الوطن يعني انفتاح لمعرفة الرأي الآخر أما الخلاف لأجل الخلاف فيعني انسداد الأفق وانغلاق السبل وبالتالي الفشل.

2- وعلى الصعيد الاجتماعي فإن أهم ما يجب أن يتحلى به الشعب لتجاوز الأزمات هو الثقة بالله وبقدراته على تجاوز المحن مهما صعبت لأن الثقة بالله وبالذات هي مبعث الأمل والتفاؤل وهذان العنصران هما أهم ركيزتين في تجاوز الأزمة أي أزمة لأن الهزيمة تبدأ بالنفس قبل أن تتحقق على الواقع كما يجمع على ذلك كل علماء الأديان والأبدان. وتحقيق الثقة بالله وبالذات ليست قضية سهلة تتحقق حين نتمناها بل هي رسالة تربوية يفترض ان تتبناها الاسرة والمدرسة والدولة واعلام الدولة والاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وخطباء المنابر وكل الفعاليات الاجتماعية.

3- وعلى الصعيد الثقافي والفكري والحضاري فإن دراسة الأزمة وادارتها واستثمارها ايجابياً باتت فناً من الفنون السياسية والإدارية، ولذا فمن العوامل المهمة في تجاوز الأزمات هو أن تقوم النخب المثقفة وكوادر الجامعات ومراكز البحوث بتقديم خلاصة أفكارهم في الحلول بل يصل ببعض الدول أن تحول الأزمة إلى فرصة للنمو والاستقرار وتحول المثلب إلى مكسب والتحدي إلى سباق والحصار والشحة إلى انتاج ووفرة كل ذلك عبر الصبر والمصابرة وإعمال الفكر والمذاكرة

يتساءل الجميع عن سبب استمرار الازمات وتعاقبها في العراق الى الحد الذي اصبحت فيه القناعة ان العراق والازمات لا يفترقان، وليس خافيا على احد ان العراق يعاني من مشكلات متجذرة تشكل مصدرا لإثارة الازمات وذلك على المستوى التاريخي والجغرافي والقومي والديني والثقافي والاجتماعي وربما تتداخل هذه العوامل مع بعضها لتعقد المشهد وتزيد من صعوبة ايجاد حلول حقيقية لمشكلات العراق..

 

تاريخيا وجغرافيا مرّ العراق بمراحل مختلفة غلبت عليها سمة الصراع الداخلي بين المكونات والخارجي بين الحضارات المجاورة الطامعة في السيطرة عليه ويبدو ان هذه الظاهرة مازالت مستمرة لحد الآن..

قوميا ودينيا ومذهبيا ينقسم العراقيون من حيث الانتماء الى أكثر من قومية ودين ومذهب وان كان هذا الأمر ليس مشكلة بحد ذاته لكن المشكلة تكمن في غياب روح التعايش السلمي بين المكونات وفقدان الثقة بالآخر وغلبة المصالح الفئوية الضيقة على المصلحة الوطنية العامة مما خلق اصطفافات وتكتلات متصارعة على المكاسب والمغانم..

أما على صعيد الثقافة والقيم الاجتماعية فما زال المجتمع العراقي متمسكا بثقافة غير متوافقة مع قيم بناء المجتمعات الانسانية القادرة على احتواء الازمات وتطويع القدرات لتحقيق الانجازات..

ان العوامل أعلاه جعلت من مهمة الحكومات المتعاقبة على حكم العراق معقدة وصعبة جدا وحالت بينها وبين التأسيس لعراق مستقر مزدهر تتعايش مكوناته بسلام وتؤمن بالولاء للدولة والقانون.. ومما زاد الامر تعقيدا ان سلبيات وتعقيدات التاريخ والجغرافية والتعددية والثقافة قد اسهمت في تشويه النظام السياسي في العراق عبر تطوراته المختلفة ليكون النظام السياسي جزء من المشكلة بدلا من ان يسعى لحلها..

وأما فيما يتعلق برؤيتنا لوسائل معالجة الواقع بما يؤمن الخلاص من الازمات فإننا نعتقد ان الحل يبدأ من استبدال القيم السلبية والثقافة السيئة بأخرى أكثر تحضرا وأكثر انسجاما مع طبيعة المرحلة.. ولعل هذا يتم ابتداء من خلال المناهج التعليمية والتربوية وكذلك قيام المؤسسات الاجتماعية والثقافية والدينية بجهود لبلورة افكار يتم صياغتها فيما بعد على شكل قوانين قابلة للتطبيق تسهم في تعزيز الاستقرار المجتمعي والسياسي وترسخ التعايش السلمي وتجرم اي محاولة أو جهد أو عمل قد يشكل خرقا لقيم العيش المشترك الآمن القائم على احترام المصالح المشتركة..

الازمات وضع طبيعي في حياة الانسان، لايمكن انكار وجودها، بل لا يمكن محوها من سجل الاحداث. لكن الفرق بين البشر يظهر من خلال ردات فعلهم العقلية والسلوكية في التعامل مع هذه الازمات، وتكشف هذه الردات عن مدى وعيهم، واستقرار مؤسساتهم الاجتماعية والرسمية، ومقدار نضجهم الحضاري، لذا تجد بعض البشر يجعلون الازمات فرصا للمزيد من الابداع والتطور والتلاقي الانساني، فيما تجر هذه الازمات غيرهم الى التنازع والصراع والانحدار بكل مظاهره.

وبقدر تعلق الامر بالنظام السياسي في العراق، فهذا النظام عانى منذ ظهور الدولة العراقية مطلع القرن العشرين من عدم الاستقرار على مستوى القيم والقواعد والأحكام المحركة له، كما على مستوى المؤسسات والعلاقات والتنظيمات الفاعلة فيه، وكثيرا ما كان فشل النظام في معالجة ازماته يتم من خلال القفز على هذه الازمات: انكارا وترحيلا، او بمواجهتها من خلال مفاقمتها بخلق ازمات جديدة اكبر منها، فتتعاضد الازمات السابقة واللاحقة والتي ستنتج مستقبلا لتخلق بيئة مأزومة بصورة كبيرة -مجتمعا ودولة- وهذا ما نلاحظه مع قضية الهوية الوطنية، وتوزيع الدخل والثروة، وتحديد شكل الحكم، واختيار الحاكم، ونمط العلاقات الخارجية وغيرها… ومما يزيد الأمور تعقيدا هو ظهور قوى غير مؤمنة بمصلحة الوطن والمواطن، وتعتقد ان لها الوصاية على الدولة والمجتمع والأفراد، قوى تعتاش على الازمات وتحقق مصالحها من خلالها، وكل ذلك يترافق مع انتكاس مستمر في الوعي الاجتماعي، واختلال الادوار للقوى والمؤسسات يفقد معها النظام السياسي قدرته على التطور والتغيير نحو الافضل، فيكون مشلولا بشكل كارثي.

اما الوسائل المطلوبة للخروج من هذا الوضع المأزوم المشلول، فهو يكون باستعادة دور الدولة الحديثة والايمان بها كمؤسسة رائعة وجدت لتعزيز المساواة بين البشر بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والعقائدية والاثنية، مرتكزها الاساس قاعدة المواطنة المتساوية واحترام القانون العادل، ورابطتها المعنوية الفاعلة الهوية الوطنية. ان تعزيز بناء الدولة دستوريا ومؤسساتيا وقيميا هو السبيل الوحيد لبناء الانسان وتثوير طاقاته المبدعة عندما يجد ان حقوقه وحرياته اصبحت محترمة ومكفولة ومضمونة بعيدا عن الظلم وانتهاك الكرامة، فشعور الانسان بآدميته المتساوية، وكرامته المصانة في الوقت الذي يعزز ثقته بنفسه، فانه يؤسس لاستعادة ثقته بأخيه الانسان شريكه في الوطن، فضلا عن استعادة ثقته بالدولة ومؤسساتها، فالثقة هي الخطوة الأولى لتعاون الناس فيما بينهم ليكونوا فاعلين في مواجهة الازمات التي تواجههم، وهي المنطلق لتحقيق الاندماج الايجابي بينهم، وإدارة تنوعهم واختلافهم بطرق حديثة وحضارية، وانتاج قيمهم وقواعد سلوكهم الصحيحة لتحفيز وانجاح مسار التعايش وقبول الاخر، واحترام القانون، وقواعد السلوك الجيدة، لذلك ان هذا المسار سيكون المسار الصحيح والحل الناجع للتنمية المستدامة في القرن الحادي والعشرين، تلك التنمية التي لا يمكن تحريك عجلتها ما لم يتم بناء الانسان، واي مسار آخر لا يجعل بناء الانسان قاعدة انطلاقه سيكون محكوم عليه بالفشل والاخفاق، مهما كانت المبررات والمزاعم التي تقف خلفه، بل انه مسارا مخادعا ومضللا تقف خلفه مصالح وقوى غير بريئة القصد.

ان ما يحصل بالعراق ربما يعتبر فريد من نوعه على مستوى الحكومات القائمة بجميع الدول، فتارة تكون الازمات ناتجة بصورة طبيعية كغيرها من المشاكل التي تواجه الافراد، داخل الاسرة او المجتمع بصورة عامة، وتارة أخرى نجد بعض الازمات مفتعلة من قبل رجال السلطة، ويتخذونها عكازة لعبور مرحلة معينة دون إيجاد الحلول لها.

فلا يعقل ان العراق يعاني من ازمة الكهرباء منذ سقوط النظام ولغاية اليوم، بينما نلاحظ الكثير من التجارب المشابهة وعلى سبيل المثال، جمهورية مصر التي كانت تعاني من نفس المسألة، لكن أصحاب القرار فيها شدوا الهمة وقرروا اقتلاع الازمة من جذورها ونجحوا في ذلك، وأصبح المواطن يُزود بطاقة كهربائية على مدار اليوم.

من الغريب في العراق أيضا ان المشاكل لا تنحصر بالمستوى الاجتماعي، أي تهم افراد المجتمع فحسب، بل تمتد او تبدأ من الطبقة السياسية الحاكمة، وفي كثير من الأحيان هي من تولد العُقد وهي من تبحث عن حلول لها في نفس الوقت، فكيف لخالق المشكلة ان يحلها؟

كما اعتمدت القوى الحاكمة على استراتيجية، يمكن وصفها بالقبيحة، وهي وضع حلول مؤقتة للمشكلات الكبيرة التي تحتاج الى حلول نهائية، وترحيلها الى الأيام القادمة، وبالنتيجة يتولد الانفجار، ومثال ذلك ثورة الشباب في تشرين، وعقبها الاحتجاجات المشابهة للخريجين وغيرهم.

نحن اليوم بحاجة مُلحة الى تفعيل حقيقي لمؤسسات الدولة المعطلة منذ سنين طوال، بالاستفادة من الخبراء المحليين والاطلاع على التجارب الدولية، التي ساهمت بإنقاذ الدول مما مرت فيه، فلا داعي لوجود عدد من البرلمانيين دون تقديم التشريعات او سن القوانين التي تخدم الوطن والمواطن، يكتفي بقدر قليل لديهم الخبرة والقدرة على التعامل مع الازمات مهما كبرت وصعب السيطرة عليها.

النبي الاكرم عليه وآله الصلاة والسلام كان شخصا وحيدا، لكنه قاد امة متكاملة من جميع النواحي، ولا يستطيع متربص ان يشخص خللا صغيرا او كبيرا بنظام ادارته العظيمة.

وهنا لابد من صحوة حقيقية لمن يتسنمون زمام الأمور في العراق، والعمل بجدية لا متناهية، للخروج من بركة المشاكل المعقدة، والذهاب نحو أكثر الحلول نجاعة، لإنهاء مسلسل الازمات الذي لا نعرف متى نشاهد حلقته الأخيرة ونبدأ بآخر عنوانه التقدم والرخاء.

كل ما في الامر ان هذه البلاد تكثر فيها الازمات وتلك البلاد تقل فيها الازمات. واعتقد ان قلة الازمات يعود بالأساس الى وجود رؤية مشتركة لدى صناع القرار والمؤسسات الحاكمة من جهة والتنبؤ في قدوم ازمة والتنبؤ في حلها قبل وقوعها.

الازمة في مقابل الاستقرار وهي حالة تظهر بين الحين والاخر فتصيب مجتمعا ما او قطاعا ما او فئة ما بحالة الهلع والفزع واللا استقرار. ولا يمكن ان نتصور ان اي مجتمع يخلو من ازمة سياسية او اقتصادية او صحية او مالية او اجتماعية او تعليمية، اما في البلاد التي تكثر فيها الازمات فان غياب الرؤية الموحدة وغياب التخطيط لحل الازمات هما السببان الرئيسان لتفاقم الازمات. فالأزمة التي لا تحل تنتج ازمة وهذه تنتج ازمة اخرى وهكذا. لا يمر يوم الا وتعيش مثل هذه البلاد ازمة.

ان الازمات في العراق في حدود علمي ازمات مصطنعة ومبرمجة لتحقيق غايات محددة، ربما غياب الرؤية المشتركة في ادارة البلاد يجعل من البعض يصنع الازمة او بتعبير ادق يصطنع ازمة حتى لا يصل الطرف الاخر الى هدفه. على سبيل المثال ان الازمات التي شهدها العراق في زمن حكومة عادل عبد المهدي كادت ان تؤدي بكل مفاصل الحياة رغم ان اسبابها لم تكون واضحة واليوم هناك ألف ازمة حقيقية تصيب المجتمع العراقي ولكن لم تخرج اي تظاهرة مثل تلك التظاهرات بل حتى المؤسسات المجتمعية والسياسية التي كانت تدعم التظاهرات توقفت الان عن هذا الدعم اعلاميا وماديا، لاسيما على الجانب السياسي والاقتصادي وعادة ما تحل بالاتفاق تحت الطاولة بعد ان اخذ من وقت وراحة الناس ما اخذ.

ماعدا الازمات السياسية فان كل ما يحدث في العراق هو مشكلات لا يحسن اصحابها حلها او هم لا يريدون حلها.

ان الازمات في العراق في الغالب ازمات سياسية قصيرة الامد حلها يقتصر على اشخاص معينين واحزاب معينة. ان نظام ادارة الدولة بالأساس هو مولد للمشكلات. بمعنى اخر ليست كل مشكلة تواجهنا هي ازمة ولا ينبغي ان نسميها ازمة هي مشكلات تولد من تلقاء نفسها او تولد من قبل الاخرين. من الخطأ القول اننا نتحد من اجل حل الازمات او المشكلات التي تواجهنا على العكس. اننا نتسبب للآخرين او نسبب للآخرين بمشكلة من اجل دفع الاخرين على حل مشكلتنا لاننا نشعر ان الاخرين هم من ينبغي ان يحلوا مشاكلنا.

لكل ازمة او مشكلة حل وبشكل عام تتوقف حلول الازمات على عدة عوامل:

التوقف عن اصطناع الازمات، الاحساس ما يصيب بعضنا هي مصيبتنا، التعرف على ادوات ادارة الازمات وحلولها، اللجوء الى فن الحوار في كل ازمة او مشكلة، التخطيط من اجل القضاء على الازمات قبل ولادتها…

أن الوصف المذكور في التعايش مع الأزمات لاينطبق مع جميع دول العالم. لأنها وضعت ثوابت أساسية تعبر أزماتها ومشاكلها وفيما لو وقعت مشكلة فإن الدولة كفيلة بالعلاج ولاتسمح أن تنزل للمجتمع ولدينا نموذج جيد في ألمانيا وروسيا واليابان وكوريا الجنوبية وحتى الصين وغيرها من الدول المستقرة..

1- ان عجلة النظام السياسي في العراق أولا مستغرقة بالأزمات لأنها قامت على اعوجاج سواء في ماضيها أو حاضرها فضلاً عن وجود مشكلة في عدم وجود نخبة سياسية حقيقية قادرة على قيادة البلد وإذا أردنا تجزئة الموضوع إلى حقبتين الأولى ما قبل عام ٢٠٠٣ والثانية ما بعدها فالأولى كانت بعيدة كل البعد عن الشعب وارتهنت نفسها بالتبعية للخارج مع عدم وجود مصلحة الشعب فوق كل شيء ودخلت في التناقضات العالمية وسلسلة التآمر الدولي والتبعية الحزبية وسياسة الفخاخ، اما ثانيا فزرع نظام سياسي مستعجل محطم لآمال وتوقعات هذا الشعب وسادت العقلية البدوية في السياسة العراقية بالافتخار سلاب نهاب واستغلت الدول الإقليمية والدولية السياسي العراقي البدوي في عقليته واستدرج في دوائر التآمر الدولي والضحية الشعب العراقي الذي وقع في منطقة الأزمات، والخطر الأكبر هو أن هذه المشاكل ثمارها المئة عام القادمة.

2- الحل المؤقت فيما لو نجح لأكثر من مجال وفي بعض المفاصل من الدولة اي التعافي التدريجي من شأنه ولادة حل للمشاكل والأزمات في العراق لوقت أطول. ويبدو أن الحل هو إيجاد قاعدة من النخبة الواعية الأكاديمية الوطنية المؤمنة بالوطن هذه النخبة قادرة على إدارة البلد ورفعه إلى مصاف الدول المتقدمة ولدينا شواهد تاريخية مماثلة في ماليزيا واندونيسيا واسمهم جماعة هارفارد نسبة إلى خريجي جامعة هارفارد أو جماعة بركلي نسبة إلى خريجي جامعة بركلي الأمريكية. والذين مسكوا زمام الدولة ونقلها إلى مصاف الدول المتقدمة. أو الحل الآخر بظهور قائد من خارج الدائرة السياسية الحالية ويستغل حب العراقيين الرمزية الصنمية ويستغلهم ويعبر بهم إلى بر الأمان..

منذ قرن مضى والدولة العراقية الحديثة كأنها تقف على بركان لا يهدأ من الأزمات، ويقول باحثون مخضرمون عايشوا الحقبة الملكية في العراق، وظلوا أحياءً عند الانتقال القسري إلى حقبة الانقلابات العسكرية، يقول هؤلاء إن كل حكومة جديدة تحل محل القديمة بالقوة أول خطوة تقوم بها تهديم كل ما بنته الحكومة التي سبقتها، وهنا ضاع البناء الترامي للدولة العراقية بسبب غياب رجال الدولة، ويزوغ نجم رجال الأزمات.

تساؤلات كثيرة يتم طرحها حول رجال الدولة، ما هي صفاتهم ومؤهلاتهم، وهل هم مختلفون عن الآخرين؟ وهل هناك فارق بينه وبين رجل الأزمة؟ وأين تكمن حاجة العراقيين في مرحلة التغيير الراهنة، لاسيما في ظل احتدام الأزمات، من مظاهرات تشرين إلى جائحة كورونا، في أي من الرجلين تكمن الحلول المطلوبة؟، وهل نحن بحاجة الى رجل دولة أم رجل أزمة، سيما وأننا نحاول أن نؤسس لمرحلة جديدة ونحثّ الأمل لبناء دولة مستقرة قوية؟

البديهي أننا أمضينا ما يقارب القرن في ظل رجال الأزمات، أي منذ نشوء الدولة العراقية في التاريخ الحديث، وحتى هذه اللحظة لم يهنأ العراقيون برجال دولة، بل الغالب وجود رجال أزمات داخلية وخارجية، حتى يخلو الجو لهم مع انشغال الشعب، فتتضاعف حالات الفساد وتزداد هشاشة الدولة وأركانها وتغدو أقرب للانهيار من سواه!!

ما هي أسباب ظاهرة ازدهار رجال الأزمات على رجال الدولة، ثم ما هي النتائج التي تنتج عن رجل دولة أو رجل أزمة؟، أسئلة كثيرة تتوالد من بعضها في هذا المجال، وقبل الإجابة لنعرف أولا بماذا يتّصف رجل الدولة؟، إنه باختصار شديد ذلك الرجل الذي يضع في مقدمة حساباته وخياراته، مصلحة الدولة، لذلك فهو يؤمن بأن حاضره الفردي ومستقبله، يرتبط عضويا مع حاضر ومستقبل الدولة.

ولهذا يكون حريصا على إرساء قواعد بناء الدولة قبل حماية عرشه وحاشيته ومصالحه، ورجال الدولة يؤمنون بأن أي خلل أو اعتلال يصيب الدولة، سينعكس عليهم وعلى أبنائهم وذويهم والمقربين منهم من دون أدنى شك، بل على الأجيال اللاحقة أيضا، لذلك ينطلق رجال الدولة في عموم نشاطاتهم السياسية والاقتصادية والفكرية، من مبدأ الحرص على الدولة وسلامتها، ضمانا لسلامتهم هم ومعيتهم.

يُضاف إلى ذلك تمتع رجال الدولة بالرؤية الثاقبة التي تمتد إلى الأزمنة القادمة، حيث ستعيش الأجيال اللاحقة في دولة مرفهة مستقرة متطورة ومتوازنة، صنعها وأسهم في بنائها وتطويرها، رجال دولة يستحقون الاحترام والتقدير والاستذكار الذي يشيد بأدوارهم الخلاقة، بصفتهم أسهموا في بناء دولة متحضّرة وشعب يستحق الحياة، وهذا يتأتى من سعيهم الحثيث إلى بناء نظام سياسي يقوم على مبدأ التعددية واللامركزية ويرفض الانفراد بالسلطة.

هنا يتّضح الفارق الكبير بين هذين النوعين من الرجال، بين رجال الدولة ورجال الأزمات، فرجال الأزمة، هم على العكس تماما من رجال الدولة، إنهم يرون في اختلاق الأزمات وجودا ذاتيا له وديمومة لمصالحهم ونفوذهم، وكأنهم لا يستطيعون العيش إلا في ظل الأزمات والتوترات المتواصلة، بمعنى يمكن توصيفه كالسمكة التي تموت لو غادرت الماء، هكذا هو تماما، يموت لو انه يعيش في حياة بلا أزمات، لذا نلاحظ أن شخصية رجل الازمات معبأة بالافكار المتضاربة والمتناقضة، وهذا الوقع لا يتحقق إلا في ظل نظام سياسي هش ينخره الضعف والفساد من أعلاه إلى أدناه!!

نظام الأزمات ليس نظام دولة قوية ومستقرة، لأن النظام القوي يعني حفظ الحقوق ولعدالة والحريات واحترام الرأي وحق المعارضة، وهذه كلها تمنع حدوث الأزمات، مما يتسبب في حرمان الفاسدين من مصالحهم ومآربهم، أما نظام الأزمات فهو عبارة عن كتلة تناقضات لا يمكن لها أن تتواءم أو تستقر أو تتفاهم مع الآخرين، أو تلتقي معهم في مسار واحد، واقع متجانس كهذا لا يخدم رجال الأزمات بل يسحب البساط من تحت أرجلهم ويكنسهم خارج السلطة والامتيازات غير المشروعة.

دولة الأزمات إذن هي من صنع رجال لا يخدمهم بناء نظام سياسي جدير بالاحترام، فهو يحرمهم من مصالحهم غير المشروعة، لذلك يلجأ مثل هؤلاء الرجال إلى صنع الأزمات، لأنها الجو الوحيد الذي يلائم تواصلهم مع أهدافهم، وباختصار فإن رجال الأزمات هم مجموعة من المرضى، يعتاشون على تعكير الأجواء بحيث ينطبق عليهم تماما التوصيف الذي يقول (إنهم أولئك الذين يصطادون في المياه العكرة)، فلا يسمحون لأحد أن يبني نظاما سياسيا تعدديا متوازنا وقويا وعادلا، هذا لا يصب في مصالحهم مطلقا فيصنعون الأزمات.

العراق لا يخدمه غير رجال دولة، سياسيون محنّكون مخلصون، ينتشلون البلد من براثن الفساد والفوضى، ويؤسسون لنظام لا مركزي قوي تحكمه قواعد الديمقراطية التي تقضي على رجال الأزمات، ليحل محلّهم رجال الدولة بالتوازي مع قيام نظام سياسي يرفض الدكتاتورية والانفراد بالسلطة رفضا قاطعا.

وهكذا فإن رجال الأزمات محط تعكير دائم لأجواء النقاء والعمل السياسي الاقتصادي السليم، كما أنهم يساهمون دوما بوضع العصي في دواليب التقدم الى أمام، فنجاح الدولة يعني فضح هؤلاء وكشفهم ومن ثم طردهم خارج عملية البناء، في أي مجال من مجالات الحياة، لذلك نلاحظ تمسك هؤلاء في بعضهم ببعض بقوة، بحيث يشكلون كتلة موّحدة تستميت من أجل خلق الأزمات السياسية والاقتصادية وبث الارتباك في مفاصل الحياة.

عملية رصد هذا النوع من الساسة (صنّاع الأزمات) يجب أن تتصدر مهام الطبقة السياسية لاسيما القادة إذا توفرت لديهم نوايا صادقة لبناء نظام سياسي رصين، فرجال الأزمات موجودون دائما وهم يسعون لخلق الأجواء التي تغطي على انتهاكاتهم وتجاوزاتهم على حقوق الناس، ورصدهم ومحاسبتهم وعزلهم خارج إدارة الدولة أمر بالغ الأهمية.

في الخلاصة نحن في العراق لسنا بحاجة للأزمات لأنها موجودة بكثرة لدرجة أن حياتنا تغص بها، نحن حاجتنا لرجال الدول أهم من كل الاحتياجات، فهذا النوع من الساسة هم وحدهم من يتمكن من انتشال العراق من واقعه المزري، وهم الذي ينقذون العراقيين من شبح العودة إلى الوراء إلى المربع الأول، إلى الدكتاتورية، رجال الدولة هم غاية العراقيين اليوم، والأمل كل الأمل بهم في بناء النظام السياسي اللامركزي والدولة القوية المستقرة الحامية للحريات والرأي والحقوق.

 

فإن الأزمة السياسية العراقية الراهنة تبدو مجرد عقبة متوقعة على الطريق الطويل من الديكتاتورية إلى الديمقراطية. كل عامين أو أكثر أو أقل، تمر الطبقة السياسية بمأزق طويل، ويتم تخطي المأزق بنفس التواتر. وهكذا فإن المرء قد يعتقد أن الأمر سيكون كذلك هذه المرة. لكن إذا نظرنا بإمعان فإن الصورة تختلف. إن التجاذب الدائر حول الفترة الثانية لرئيس الوزراء نوري المالكي في السلطة يُشير إلى أمر أكثر سوءاً بكثير وهو أن العملية السياسية التي تمت صياغتها على نحو سيء والتي يعتريها الكثير من الخلل تحولت إلى أزمة مزمنة من شأنها أن تُطيح بالبنية السياسية القائمة. ولتجنب هذه الحصيلة، ينبغي على المالكي وخصومه أن يقدموا تنازلات مؤلمة: على رئيس الوزراء أن ينفذ اتفاق تقاسم السلطة الذي تم التفاوض عليه عام 2010 والتعهد بالتنحي في نهاية فترته كرئيس للوزراء؛ وبالمقابل، على خصومه التخلي عن محاولتهم للإطاحة به وبدلاً من ذلك استعمال قوتهم البرلمانية لبناء مؤسسات دولة قوية، مثل الهيئة المستقلة العليا للانتخابات، وضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة بعد عامين.

يضرب المأزق الراهن جذوره المباشرة في اتفاق إربيل بين اللاعبين السياسيين الرئيسيين، والذي أدى إلى تشكيل حكومة المالكي الثانية. ثمة عناصر في اتفاق تقاسم السلطة، الذي توصل إليه القادة السياسيون بسرعة في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 بعد نفاد الصبر من عدم وجود حكومة، لم يتم تنفيذها أبداً. بدلاً من ذلك، فإن نقاد رئيس الوزراء يتهمونه بانتهاك الدستور، ومراكمة السلطة بين يديه بشكل مستمر على حساب الفروع الأخرى للحكومة – البرلمان، والسلطة القضائية إضافة إلى الهيئات والمؤسسات المستقلة – ووضع قوات الأمن تحت سيطرته الشخصية المباشرة. كما أنهم ينتقدونه لعدم التزامه بعناصر حاسمة من التفاهم، خصوصاً إخفاقه بإجراء توزيع عادل للمناصب الأمنية الحساسة.

عندما أصدرت السلطة القضائية في كانون الأول/ديسمبر 2011، أمراً باعتقال نائب الرئيس طارق الهاشمي – أحد أبرز نقاد المالكي – انهار ما تبقى من النوايا الطيبة. قاطع العديد من شركاء رئيس الوزراء الحكومة، وجادلوا بأنه يتحول بشكل متزايد نحو الحكم الأحادي المطلق. وبينما عادوا إلى مجلس الوزراء بعد بضعة أسابيع، فإن خصوم المالكي – الذين يضمون طيفاً واسعاً من السُنة، والأكراد، والشيعة أيضاً – تعهدوا منذ ذلك الحين بالإطاحة به من خلال تصويت في البرلمان بسحب الثقة منه.

نُقاد رئيس الوزراء محقون؛ فقد دأب على تركيز السلطة بين يديه بفضل مهارته في المناورة في المناطق الرمادية للقانون والدستور منذ عام 2006. لكنهم يتحملون في نفس الوقت قدراً من المسؤولية، حيث أنهم أخفقوا في استعمال قوتهم البرلمانية لتمرير تشريعات تُقيّد السلطة المتنامية للمالكي. يمكن المجادلة بأنهم لو كرسوا طاقاتهم للمهمة الصعبة المتمثلة في مواجهته من خلال المؤسسات، لما وجدوا أنفسهم مضطرين لاستعمال التصويت بسحب الثقة منه كملاذ أخير لمنعه من التحرك نحو الحكم الأحادي. إذا كان المالكي قد أضاف إلى سلطاته – وهو أمر لا يمكن إنكاره – خلال فترته كرئيس للوزراء والتي استمرت لمدة ست سنوات، فإن ما من شك بأن جزءاً كبيراً من نجاحه مستمد من عدم قدرة خصومه على إحباط جهوده بالوسائل المؤسساتية.

من غير الواضح كيف سيتم الخروج من هذا المأزق، رغم أنه يبدو من الممارسات الراهنة أنه ما لم يحدث تغيير ملموس في سلوك جميع الأطراف، فمن شبه المؤكد أن الأمور ستنتهي على نحو سيء. بصرف النظر عما إذا تمكن من الاحتفاظ بمنصبه، فإن المالكي فقد ثقة شرائح واسعة من الطبقة السياسية، بما في ذلك بين حلفائه الشيعة السابقين. وفي نفس الوقت، فإن أعضاء المعارضة منقسمون بعمق، سواء فيما يتعلق بالقضايا الجوهرية أو فيما يتعلق بما إذا كان ينبغي دفع المالكي لتنفيذ اتفاق إربيل أو الإطاحة به بشكل نهائي. إن الرهانات على أن بوسعهم حشد الأصوات اللازمة للإطاحة به هي رهانات متدنية؛ وحتى لو نجحوا، فمن غير المرجح أن يتفقوا على أرضية مشتركة لتشكيل حكومة بديلة. وهذا سيترك المالكي رئيساً لحكومة تصريف أعمال إلى أن يحين موعد الانتخابات القادمة عام 2014. في هذه الأثناء، فإن حكومته ستجد صعوبة متزايدة في الحكم. وسيدفع جميع العراقيين الثمن. يمثل المأزق العراقي عرَضاً لمشكلة أعمق بكثير من مشكلة عدم تنفيذ تفاهم إربيل أو حتى شخصية المالكي. إنه يتعلق بشكل مباشر بعدم القدرة على تجاوز إرث نظام صدام حسين وممارساته القمعية، والمتمثلة في ثقافة مبنية على الشكوك العميقة مصحوبة بشكل من الممارسات السياسية يقضي بأخذ الفائز لكل شيء وخسارة الخاسر لكل شيء. حيث أن المساومات السياسية التي أعقبت سقوط النظام لم تُفضي إلى توزيعٍ عادل ومتفق عليه للسلطة، والأرض والموارد، فإنها لم تنجح في معالجة هذا الوضع. لقد كان النظام الدستوري الذي أشرفت الولايات المتحدة كقوة محتلة على ولادته نسيجاً مُرقّعاً لم يعالج القضايا الجوهرية، كطبيعة النظام الفيدرالي وسلطات الرئيس، ورئيس الوزراء والبرلمان، وحتى هوية الدولة وشعبها. الأسوأ من ذلك، فإن تعزيز الطبيعة العرقية–الطائفية للنظام السياسي ساعد في تغذية صراعات كانت في بعض الأحيان أكثر عنفاً، وفي بعضها أكثر خفوتاً، لكنها لم تختف بشكل كامل.

تمثل الأزمات السياسية المتكررة التي ابتُلي بها العراق تجليات منطقية لهذا الخلل الأصلي. لم تؤد أيٌ من نتائج هذه الحالات الأخيرة إلى التصدي لمصدر المأزق، ناهيك عن معالجته. بدلاً من ذلك فإنها كانت في الغالب مجرد تصليحات، واتفاقات سطحية تترك القضايا إما دون تسوية أو تسويها دون إيجاد آلية تنفيذ قابلة للتطبيق. الأكثر من ذلك هو أنه مع كل حادث تزداد الجراح عمقاً بحيث تتسع الفجوة بين الأحزاب السياسية، وتتعزز القوة النابذة التي ظهرت أول مرة في عملية صياغة الدستور عام 2005 وكذلك في جوهر النص.

هذه المرة، على القادة السياسيين القيام بأكثر من مجرد عملية ترقيع والبقاء في مواقعهم لتجاوز معركة أخرى، دون معالجة الأسباب الجذرية. يمكن لحل سريع اليوم أن يؤدي إلى انهيارٍ شامل غداً. الانتخابات البرلمانية لعام 2014 تلوح في الأفق، والرهانات أعلى من أي وقت مضى بالنسبة لجميع الأطراف. دون التوصل إلى اتفاق حول القواعد الدستورية والقانونية للعبة، فإن رئيس الوزراء سيسعى جاهداً للتشبث بالسلطة مع ما يترتب على ذلك من مخاطرة بوجود ممارسات انتخابية سيئة؛ وهذا ما سيجعل أي نتيجة مشكوكاً بها وبالتالي عرضة للنقض. في المحصلة، فإن النظام الدستوري لفترة ما بعد عام 2005 يمكن أن يتداعى في مناخ قد يكون حافلاً بالعنف.

ما يجعل التوصل إلى تفاهم أمراً أكثر إلحاحاً هو الوضع القلق للمنطقة. منذ البداية، اجتذبت هشاشة النظام السياسي الدول المجاورة لكن لم يكن ذلك بالخطورة التي هي عليها الآن. في أعقاب انسحاب الفوات الأمريكية وتنامي الانقسامات الطائفية التي انطلقت في الشرق الأوسط في اعقاب الانتفاضات العربية، يمكن للعراق أن يصبح بسرعة ساحة مناسبة للمعارك الإقليمية. في حين يتركز كل الاهتمام اليوم على سورية، فإن اللاعبين الإقليميين، بما في ذلك حكومة المالكي، يرون في العراق الساحة التالية للمعارك الطائفية، خصوصاً إذا سقط نظام بشار الأسد. سواء كان التصور القائم في بغداد مستنداً إلى الواقع أم لا فإنه يرى بأن نشوء سورية واقعة تحت الهيمنة السُنية سيشجع الجماعات المسلحة السُنية في العراق؛ كما يُشعر رئيس الوزراء بأن تحالفاً سنياً واسعاً تقوده السعودية، وقطر وتركيا سيعتبره هدفاً وسيصوّب عليه كجزء من الحرب الباردة لهذه الدول مع إيران، وبشكل أوسع، مع الإسلام الشيعي. وهكذا فإن المالكي رمى بأسهمه مع النظام المجاور، رغم علاقاتهما المتوترة في السنوات السابقة؛ كما أن بعض جيرانه مقتنعون بأنه أصبح أكثر قرباً من طهران.

لم يكن من السهولة بمكان تصحيح مسار سفينة العراق الجانحة، إلا أن المالكي، وخصومه والبلدان المجاورة للعراق تتشاطر المصلحة في تقليص حدة التوترات والعودة إلى تقاسم السلطة، حيث أن البديل سيكون تجدد الحرب الأهلية مع قدرٍ أكبر من التدخل الأجنبي. ولأنه تبين أن تعديل الدستور أمر شبه مستحيل، فإن التغييرات السلمية ينبغي أن تحدث من خلال الإجماع السياسي المستند إلى الدستور – والشروع أخيراً في معالجة القضايا التي تم تجاهلها لوقت طويل
في تقرير آخر سيصدر في وقت لاحق من هذا الشهر، ستبرز “مجموعة الأزمات” أحد الملامح الخاصة للأزمة الراهنة والذي يتمثل في عدم قدرة أحد أطراف المعارضة، تحالف العراقية، بتمثيل عائق فعّال أمام المسعى المستمر للمالكي للحصول على مزيد من السلطة. إن المحاولات المتفاوتة للعراقية، إضافة إلى محاولات أحزاب أخرى، للإطاحة بالمالكي من خلال التصويت بعدم الثقة بحكومته في البرلمان يُبرز تلاشي سلطة العراقية؛ وتُظهر أن ما بقي من الطبقة الوسطى العلمانية في البلاد يفتقر إلى قائد يتمتع بالنفوذ في وقت يشهد تصعيداً لمخاطر التوترات الطائفية التي تلهبها الحرب الأهلية في سورية؛ وتُبرز تهميش العرب السُنة والتركمان السُنة، ما يزيد من احتمالات العنف.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب