الاطلاع على بعض حكايات السجون المظلمة في العراق يزرع في النفس والفكر آهات وحسرات لا مثيل لها، وربّما يجعل الناس تشعر بالضياع والرعب من الغد المجهول لأنّنا نتحدّث عن حكايات ظلم لآلاف الأبرياء!
الغريب أنّ تناول هذا الملفّ، ربّما، يُعرضك للاتّهام لأنّ غالبيّة السطحيّين يتصوّرون أنّنا ندافع عن الإرهابيّين!
العمل الصحفيّ الحرّ يقف مع القانون والأمن والعدل ضدّ الفوضى والخراب والظلم، ولو كنّا على دراية بأنّ ما يجري هي ملاحقات قانونيّة لإرهابيّين لما أرهقنا أنفسنا في مهمّة الدفاع عن المعتقلين، لكنّ حديثنا حصراً عن آلاف الأبرياء الذين نعرف بعضهم، ونعرف عوائلهم وحكاياتهم المريرة التي تؤكّد غياب الشفافية في التعامل مع هذا الملفّ الحيويّ، الذي يمثل دوامة قاتلة لخيرة شباب الوطن!
يوم الثلاثاء الماضي ارتكب جهاز مكافحة الإجرام بمدينة النجف الجنوبيّة جريمة قتل لأحدّ المعتقلين، وبعد تشكيل لجنة تحقيق ومقابلة قائد الشرطة ومدير المكافحة، زعما أنّ ” وفاة المعتقل (بشار الرماحي) نتيجة فشل كلويّ”!
المذهل أنّ لجنة التحقيق اكتشفت (زيف) شهادة المسؤولين الأمنيين، وكذلك التقرير الطبّيّ الذي وثّق ” تشريح الجثّة، وأنّه توفّي نتيجة فشل كلويّ”؛ لكنّه، وأثناء معاينة الجثّة وجدت اللجنة آثار تعذيب على جسد الرماحي!
التزوير في شهادات وفاة المعتقلين حالة مؤلمة، ومألوفة في الواقع الصحّيّ العراقيّ حيث إنّ اللجنة الطبّيّة تكتب ما يمليه عليها رجال الأمن، وهي تُنفّذ ذلك بالحرف الواحد خوفاً من سطوتهم وبطشهم، وعائلة الضحيّة يلتزمون الصمت هلعاً من الغدر والملاحقة!
وبعد الحادثة عدّ عضو مفوّضيّة حقوق الإنسان (مشرق ناجي) ازدياد حالات الوفاة نتيجة التعذيب في المواقف والسجون أثناء التحقيق مؤشراً خطيراً على تراجع حالة حقوق الإنسان، ويتنافى مع الدستور، ويعدّ إخلالاً بالتزامات العراق بالاتفاقيّة الدوليّة لمناهضة التعذيب!
ولحدّ اليوم لم يشرّع البرلمان أيّ قانون يتعلّق بمناهضة التعذيب!
حادثة الشاب النجفيّ تقودنا لأصل الموضوع وهو تواتر الأخبار المؤكِّدة للجرائم الرسميّة، سواء عبر تقارير المنظّمات الدوليّة، أو الإقليميّة والمحلّيّة أو حتّى بشهادة بعض المفرج عنهم، أو أقاربهم، وبأنّ عمليّات التعذيب القاتلة مستمرة بكل قسوة حتّى بحقّ الذين صدرت بحقّهم أحكاماً نهائيّة!
سجون الناصرية والتاجي والعدالة وغيرها ما هي إلا مواقع لسحق المعتقلين سواء أكانوا من الأبرياء، ضحايا المخبر السريّ، أم من المجرمين، وهذه البشاعة لا تتلائم مع أبسط أهداف السجون التي أقيمت أصلاً لتقويم سلوك المنحرفين وليس لأن تكون مقبرة للأبرياء المظلومين، ووكراً لتخريج الناقمين على الوطن!
وفي منتصف تموز/ يوليو الحالي أكّدت مفوّضيّة حقوق الإنسان العراقيّة أنّ” عدد المسجونين بتهمة الإرهاب بلغ (17) ألفاً، بينهم (1875) امرأة، وأنّ اكتظاظ السجون جاء بسبب كثرة المسجونين وقلّة استيعاب الدور، وأنّ هنالك آلاف الشكاوى بشأن وجود عمليّات تعذيب داخل السجون”!
ويوم الأربعاء الماضي أكّد المرصد الأورومتوسطيّ لحقوق الإنسان أنّ قوّات الأمن العراقيّة مستمرّة في ممارسة انتهاكات قاسية بحقّ المعتقلين داخل السجون، وأنّ شهادات لمعتقلين في سجن التاجي، شمالي بغداد، تثبت انتهاج سياسة الإذلال والاضطهاد ضدّهم، وحرمانهم من مقوّمات السلامة الصحّيّة والنفسيّة والغذاء، واستمرار الابتزاز الماليّ للمعتقلين وذويهم!
وبهذا تتواتر الأدلة الرسميّة وغير الرسميّة على ثبوت التعذيب في السجون والمعتقلات، وهذه قضيّة ينبغي تداركها لأنّها تتعلّق بأرواح المعتقلين وكرامتهم!
الظلم القضائيّ، والمعاملة الهمجيّة الانتقاميّة مع السجناء، الأبرياء والمذنبين، لا يمكن أن تُعيدهم إلى جادّة الصواب؛ وبالتالي منْ يُريد أن يجعل من السجون مكاناً للإصلاح عليه أن يوفّر الأرضيّة الصالحة للتقويم، وإلا فإنّها ستكون أماكن لصناعة الكراهية، وحينها لن نجد من يتحمّل النتائج التدميريّة الناجمة عن جنايات سوء معاملة السجناء والمعتقلين!
واقع الحال يجعلنا نجزم بأنّ العدالة لم تتحقّق لغالبيّة المعتقلين نتيجة الموادّ القانونيّة المتعلّقة بالإرهاب، والأوراق التحقيقيّة المزوّرة، والتعذيب والمعاملة السيّئة، والإجبار على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها!
لن تقوم للأمّة العراقيّة قائمة إلا بالعدل وتفريغ السجون من الأبرياء المظلومين.
فمنْ يمكنه فعل ذلك؟