تيقنت الحركات الأصولية الإسلامية منذ تأسيسها أن أبرز عوامل تضخمها السياسي هو تبنيها لفكرة التطرف وجعلتها محور كل نشاطها. هذه الفكرة صُنعت استخباريا لكي تستنزف طاقات المجتمع العربي والإسلامي على حساب الديمقراطية والحداثة.
نحن نعيش في عالم من الصراعات، عالم الأفكار المتطرفة، عالم الإرهاب، ورغبة الحركات والقوى الأصولية الإسلامية في البقاء والسيطرة على الأرض من خلال صراعاتها الدامية. نحن نعيش في عالم تُصنع فيه الأفكار المتطرفة بطريقة هندسية حرفية مخابراتية، سيما أن هندسة الفكرة وتصميمها تخضع لجملة من البديهيات لكي توضع بصيغة عقلانية حتى تكون الفكرة ممكنة عقلا لتكون واقعة فعلا، بالتالي تتحول الفكرة في النهاية إلى تنظير أيديولوجي ونهجا فكريا وسياسيا ينطلق من إلغاء الآخر، كذلك فهو يمتد ويتطور وتترسخ دعائمه ويزداد نفوذه يوما بعد يوم.
وتأسيسا لما تقدم، يأتي موضوع استثمار الأفكار وفق اتجاهين هما التخطيط والتنظير، التخطيط يتناول الجانب العملي ليبلورها في مشاريع معقدة أشبه ما تكون بالهضم البيولوجي في معدة العقل البشري، أما التنظير فهو يُدجن الفكرة ويشحنها في مشاريع إيديولوجية أو يترجمها معرفيّا على مسرح العنف الإرهابي، وأعني هنا تحديدا التنظير وخطورته في استثمار (التراث الفكري الديني) وحشره في تيارات جارفة ومدمرة للمجتمعات والعقول. وهكذا نلاحظ كيف استكبرت الفكرة في الداخل والخارج من أجل أن تخنق النهضة والمدنية والتطور في عيون الجهلة والمغرر بهم وتعطيل مسيرة الحداثة، حيث استطاعت الفكرة أن تحاصرنا على أساس إطلاق المفاهيم المثالية والواقعية، كالحق، والعدالة، والاعتدال، فأما العدل فهو من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته سبحانه، هو المعتدل، يضع كل شيء في موضعه، هو الذي يعطى كل ذي حق حقه، المنزه عن الظلم والجور في أحكامه وأفعاله. والعدل كمنهج يحترم إنسانية الإنسان وكخيار للتقدم والحضارة، لكنه لا يمثل لدى أصحاب الأفكار المتطرفة شيئا ولا يعترفون به مطلقا، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ترفض الفكرة وصول العلمانيون أو الماركسيون أو الليبراليون للحكم عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة، لأن الأصولية الإسلامية ترفض التعددية الفكرية والسياسية، وتلغي الديمقراطية، فتصبح العدالة مجرد شعار وليس إطار يفسح المجال لأي تيار واتجاه يشارك في الاختيار الشعبي (الانتخابات). ورغم أفكارهم المتطرفة والرافضة للديمقراطية إلا إنهم أكثر المستفيدين من الديمقراطية.
هذه الأفكار كتعبير عن الأصولية الإسلامية تحاول أن تصيغ أيديولوجيا للإسلام حسب رؤية وهندسة مخابراتية لكي تصل لغرضها، ولهذا فقد أعيدت صياغة العديد من الأفكار، أعيدت بحكم التاريخ المتمثل (بالخوارج، الأدارسة، انتفاضة الزنج في العراق في فترة الخلافة العباسية، الحشاشون، القرامطة) وليس انتهاء بالعصر الراهن وهو عصر الوهابية والسلفية وجماعة الإخوان المسلمين وولاية الفقيه. وعليه فإن حقائق الجغرافية، وظروف المرحلة التاريخية لا تفصل بين المرحلة الفكرية أي فترة هندسة وصناعة الفكرة وبين المرحلة السياسية، وهكذا نجد التحرك الإرهابي انطلاقا من الفكرة المتطرفة يتقدم ويتطور، وقد تبدو هذه العملية أقرب للعبث من ناحية الشكل ويصعب تحديد أبعادها بما يشبه شكل الصخور والحصى في الطبيعة. لكن العقل البشري لديه مقدرة فائقة جدا في توظيف الأشياء وتسخيرها لصالحه إبتداءا من تدجين الأحياء والنباتات حتى صناعة الآلة والإبحار في السماء واختراعه وسائل التدمير الشامل مع تقريب كل المسافات، إزاء كل هذا الذكاء والتفوّق لم ينجح في تحقيق السلام على الأرض ولازال التوحش مغروسا في جيناته الوراثية، وذلك لأن تاريخ الأمم والشعوب حتى في أرقى مستوياتها من التقدم المدنيّ والحضاريّ والعلميّ يبدو زاخراً بالأحداث المترافقة بالعنف والقسوة والهمجية والسلوك الدمويّ. بمعنى أن تاريخ أيّ أمة من الأمم، ربما لا يخلو عبر مسيرتها التاريخية الطويلة من أحداث تتصف بالعنف والقتل والظلم والدموية والسلوك العدوانيّ، لأن مثل هذا السلوك وما يرافقه من عنف وتطرف ودموية لدى الإنسان، يكاد يكون صفة ثابتة معروفة وموجودة في تاريخ المجتمعات البشريّة. وفي العالم قليلة هي المجتمعات التي ينعدم فيها وجود العنف والسلوك العدوانيّ في حياة الناس. على العموم فإن العنف والتطرف والسلوك العدوانيّ بصوره المتعددة يكاد يكون الصفة المرافقة لنشاطات الإنسان منذ بَدء الخليقة.
لكن في الوقت نفسه يجب إلا نستبعد الأسباب الفكرية وكيف تُصنع هذه الأسباب التي هي من أبرز وأهم الدوافع المؤثرة في تصعيد العنف والتطرف، فالأفكار والمعتقدات التي يلتزم بها الأفراد والجماعات في مختلف مستوياتهم، سواء كانوا على مستوى السلطة أو الأشخاص العاديين تنعكس على مسألة العنف والتطرف. فبسبب خلفيتهم المتعصبة والمتطرفة قد يلجئون إلى ممارسة العنف. وبهذا الصدد يقول المفكر الفرنسي روجيه جارودي في كتابه (أصول الأصوليات والعصبيات السلفية ص9) ” إن المتعصبين لمعتقداتهم وأفكارهم اليوم، سواء كانوا التكنوقراطين، أو الستالينين، أو المسيحيين، أو اليهود أو المسلمين، يشكلون جميعاً أكبر المخاطر على المستقبل، وهذا هو التعصب السلفي، وهي عقيدة دينية أو سياسية أو غير ذلك في الشكل والإطار الثقافي أو الذاتيّ “.
وربما كان المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني بدعوته إلى اغتيال شاه إيران آنذاك من أوائل دعاة العنف في الحركة الإسلامية المعاصرة، غير أن أول تأطير حزبي وشامل للعنف والتطرف المنظم ضمن الأصولية الإسلامية المعاصرة في العالم العربي لم يشهد النور إلا في نهاية الثلاثينيات من خلال تأسيس النظام الخاص، أو ما يسمى التنظيم السريّ للإخوان المسلمين في مصر، حيث يمثل تأسيس التنظيم الخاص للجماعة باكورة صناعة الفكرة وهندستها مخابراتيا.
في المقابل هناك رأي آخر يفرق ما بين التطرف في الرأي وبين التطرف في الفعل، حيث يقول المؤرخ والسياسي البريطاني ماكولي في هذا الصدد “يجب التركيز على العامل الشعوري النفسي والديناميات المتنوعة التي تخلق دوافع عديدة لدى بعض الأشخاص للانخراط في الارهاب والعنف في كثير من الأحيان دون تبني أجندة فكرية متطرفة أو حتى التعاطف مع فكر متطرف معين”.
وسنأتي لمناقشة موضوع الفرق بين التطرف في الرأي وبين التطرف في الفعل لاحقا.