يقول أمير المؤمنين عليّ (ع): “أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم “، ولكن ما يحدث اليوم هو أنّ هناك مَن هو أعجز من الاثنين، وهو مَن يقوم بصناعة الأعداء من لا شيء، فهو يقوم بكلّ ما يجعله يعيش التقوقع والعزلة الفكريّة والنفسيّة، وقد يصل إلى أن يكون عدوَّ نفسه في النهاية.
وتعود أسباب صناعة هذه العداوات إلى عدّة عوامل، منها ما يعود إلى شخصية الإنسان، وما يتملّكها من عقدٍ نفسية تجاه الآخرين ولا سيَّما المقرّبين منها. وبخاصة عندما يكون الآخر ممّن يحقّقون النجاحات المتتالية، والتقدّم في المراتب والمراكز، ما يدفع بالشخص المقابل (المعقّد) للحقد عليه واتّخاذه عدوّاً مصطنعاً.
وهناك أيضاً أسباب تعود إلى عجب الإنسان بأعماله وأفعاله، حتى يصل إلى تقديس ما يقوم به، وكلّ مَن يعترض أو ينتقد هذا الشيء فهو عدوٌّ مبين. وهذا ممّا يتّسع انتشاره يوماً بعد آخر في مجتمعاتنا للأسف، ولا سيّما بين (المتديّنين)، فكلٌّ يصنع إلهه الخاص به.
وهناك أيضا ً الخوف من الفكر الآخر، وهذا إن دلّ على شيءٍ إنّما يدلّ على ضعف انتماء الإنسان لفكره، وبسبب ضعف حُجّته ومنطقه في حماية أفكاره من النقد، ولذلك يلجأ إلى رجم الفكر الآخر والانزواء بعيداً عن كلّ مساحات النقاش الفكري والحواري.
ومن جرّاء هذه الأسباب التي ذكرنا، فإنّ هذا الشخص يلجأ إلى ابتكار أساليب في مواجهته الآخرين، منها ما يتّصل به شخصياً ومنها ما يتّصل (بالأعداء) من حيث الاتّهامات الموجَّهة لهم.
إنّ هذا الشخص (المبتلى) يلجأ إلى رجْم الشخص المقابل له، وينعت فكره بالكفر ومعارضة المألوف والمتوارث من الأفكار. والقول بهذا إنّما هو لأجل إضعاف موقفه أمام الآخرين، وجَعلِ كلّ مَن يقف معه مشاركاً له في هذا الضلال، وقد حدّثنا القرآن عن مواجهة الأنبياء من قِبَل قومهم، ولا شكّ أنّ الاتّهامات التي سيقت ضدّ النبي (ص) بأنّه ساحر وكاهن ومجنون …. هذه الاتهامات ما هي إلا من هذا القبيل، وللأسف هناك مَن يلجأ إلى استعمالها ضدّ الآخرين اليوم. وما يزيد الأمر تعقيداً هو اللجوء إلى قمع الفكر المضادّ لاحقاً، والعمل على كمِّ كلّ فكر خارج النطاق المتعارَف عليه، وكأنّه لا تكفي الاتّهامات السابقة، ولكن يأتيك هذا الشخص ليقمعك ويمنعك من إبداء رأيك وتقديم فكرك، وتبدأ أساليب الترهيب من هنا وهناك لكي لا يكون هناك غير فكر واحد أوحد…
وهذا الفكر الواحد إنّما هو قائم على إحاطة نفسه بهالةٍ من القداسة المزيفة، واستغفال بسطاء العقول من الناس وضعاف الإيمان أيضاً. وضعف الإيمان هذا الذي يصدّق هذا التقديس، سيلجأ تلقائيّاً إلى مواجهة أيّ فكر مضادّ، وهذا ما يحدث مع الهمج الرَّعاع الذين يشكّلون الأغلبية الساحقة من أيّ مجتمع.
ولا شكّ أنّ أيّ فعلٍ إنّما يواجَه بردّات فعل مقابلة، وفي مثل الحالة التي نواجهها من صنع العداوات من لا شيء، فإنّ هناك ثلاثة أنواع قد تَحدُث:
أ- قد يلجأ هذا (العدو) المفترَض إلى الحوار وطرح كلّ الأفكار بالهدوء والبدء بالنقاش للوصول إلى نتيجة وحلٍّ مشترك لكلّ شيء، وإن لم يحصل اتّفاق فكلّ شخص يحتفظ بفكره مع احترام الفكر الآخر، دون أي رجم أو تكفير مضاد…
ب-في الحالة الثانية قد يلجأ الشخص إلى اعتماد نفس الأسلوب، أي تكفير الفكر الآخر ورجمه، والعمل على إلصاق كلّ أنواع التهم فيه، وهنا تحصل الكارثة، فبدل الحوار والنقاش، نجد الاتّهام والاتّهام المضاد، والتكفير والتكفير المضادّ، وتزداد العداوات والتباعد، وكلّه من لا شيء، إنّما هو اختلاف فكريّ أو عقائديّ أو حتى سياسيّ…
ج- من حيث لا ندري نبدأ بالعمل بالمثل الشائع “عدو عدوي صديقي”. إنّ هذا الشخص الذي يصنع العداوات الوهمية لمآرب هنا وهناك، إنّما يدفع بالآخرين للاتّجاه إلى كلّ ما يعارض هذا الشخص، أي إنّ هذا الشخص يضاعف من أعدائه ويقلّل من أصدقائه. إنّ كلّ فكر يُقمَع سوف يتّجه إلى التعبير في أيّ مجال يُسمَح له فيه بالتعبير، حتى لو كان هذا المجال بعيداً عن أفكاره الأولى. وبهذا يكون الشخص المبتلى قد قدّم خدمة مجّانية لكلّ مَن يعارضه.
لا بدّ من البحث عن حلٍّ في النهاية للخروج من هذه الأزمة المفتعلة، والتقليل من حجم الخسائر، والبدء بإصلاح ما حدث. ولتحصيل ذلك لا بدّ من العودة إلى الله والاحتكام إليه من خلال القرآن والسُّنة الشريفة، وكلّ ذلك من خلال ما وهَبَنا اللهُ إيّاه من عقلٍ وفكر. فنجد في القرآن كيف أنّ الله حاور إبليس وترك له حرية اختيار مصيره، وحرية إبداء الرأي والتعبير عمّا يريد. كما أنّ الله قد نقل لنا كلّ ما جرى من حوارات ونقاشات بين الأنبياء وقومهم، ولم يستحِ من نقل الاتهامات التي وُجِّهت لهم… وحسبنا ما قاله رسول الله للمشركين في حواره: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ : 24]. فهذا أرقى أنواع الحوار، فلنأتِ ولنطرح كلّ أفكارنا دون قداسة لأحد، ولنخرج بنتيجة تحفظ الحرية للجميع دون أيّة عداوات هنا أو هناك.
إنّ الفكر له مساحات واسعة لا تُحدُّ، وتتّسع لجميع الآراء، فلا مقدّسات في الحوار، وكما قال المرجع الراحل السيد فضل الله(رض) : “الحقيقة بنتُ الحوار”. الفكرّ حقّ للجميع، والتعبير عنه أيضاً. فلنتعلّم من رسول الله والأئمّة كيف كانوا يحاورون ويتقبّلون كلّ نقدٍ وفكرٍ مضاد، لأنَّ الفكر الحقّ هو ما يبقى في النهاية…
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} الرعد : 17].