23 ديسمبر، 2024 10:05 ص

لم تكن وليدة اليوم، لكن هذه الأشكال الباهتة من الفنون ومنها فن صناعة الجوع باتت الأكثر رواجا في عالمنا المعاصر وفي بلدان الشرق عموما، وخصوصا في (شرق أوسطنا الكبير). وكما ان للفنون والصناعات الأخرى نجوم ومروجون وخطط وستراتيجيات ورجال اعمال، فقد أضحى لصناعة الجوع هي الأخرى كوادرها ومخططوها ومختصوها.

وانطلاقا من كون هذا النوع من الفن الشاذ كفيل بتغييب الوعي الانساني وتكبيل القدرات الابداعية وتشويش الفكر، لذلك أضحى وسيلة أساسية بيد الساسة ورجال المال وبعض الحكومات والممالك لتحقيق مآربهم الخسيسة، حتى لم تَعُد السياسة “فن الممكن” كما هو شائع بل أضحت فن (صناعة الجوع) في معظم الأحوال.

يقول الله تعالى .. “وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ” (19) سورة الذاريات، ليصف في قوله المحسنين ويحثهم فيه على مد يد العون للفقراء، لكن ما نراه على أرض الواقع الآن، هو أن الإنتهازيين والمفسدين والمفخخين قد أصبحوا أصحاب الحظوة في أموال الساسة وصُنّاع القرار، وخزائن بيوت المال كونهم أدوات لتكريس الفقر والموت والجهل والخراب.

فالجوع وما أدراك ما الجوع، حيث ربط الرسول الأكرم (ص) وفي أكثر من حديث نبوي شريف، ربط الفقر بالكُفر، فإستعاذ بربه من كليهما.. كما ويصف الامام علي (ع) الفقر بالموت الأكبر، ويقول لو كان الفقر رجُلاً لقتلته.. والقبر خير من الفقر.!

 ففي 25 آذار 2014 وفي حادثة لم يتوقف عندها الكثيرون لما تحمل من دلالات انسانية، وبما أسهمت به رؤوس الأموال الخليجية والعطايا السخية للمجاميع الارهابية في تشريد اللاجئة مريم وأطفالها الأربعة من وطنها الأم سوريا، والتي وقعت مع اطفالها في حبائل الجوع الذي لا يرحم، وبعد ان سيطر عليها  الشعور باليأس التام ازاء عجزها عن تأمين أرغفة الخُبز لأطفالها، لم تجد سوى اضرام النار في نفسها أمام مركز المفوضية العليا للاجئين في مدينة طرابلس اللبنانية من  اجل لفت الأنظار الى ما يعانيه أطفالها الأربعة الذين ظلّوا ولثلاثة ايام متتالية وهم يتضورون جوعاً أمام عيون الأم التي كانت تصرخ قبل اقدامها على اضرام النار قائلة .. ” آتي الى هنا منذ ثلاثة ايام للحصول على مساعدات مع أولادي الأربعة، وفي كل مرة يقولون لي ان اعود في اليوم التالي، فأعود فارغة”، كانت تصرخ بذلك قبل حرق نفسها، وحتى بعد اضرام النار ودخولها المستشفى لم تُنسها ألسنة اللهب التي أكلت جسدها بطون أطفالها الخاوية فقد بقيت متمتمة بعبارة ..” صدري يؤلمني ولكن ليس لدينا طعام”..  وكأن معروف الرصافي حينما قال قصيدته (الأرملة المرضعة) كان قد تنبأ بما سيحصل لمريم، حينما قال:

لقِيتُها لَيْتَنِـي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَـا === تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـــــــــا

أَثْوَابُـهَا رَثَّـةٌ والرِّجْلُ حَافِيَـةٌ === وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَـــــــــــــا

بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا === وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَـا

المَوْتُ أَفْجَعَهَـا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا === وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا وَالغَمُّ أَضْنَاهَـــــــــــــــا

فَمَنْظَرُ الحُزْنِ مَشْهُودٌ بِمَنْظَرِهَـا === وَالبُؤْسُ مَرْآهُ مَقْرُونٌ بِمَرْآهَـــــــــا

في مثال آخر، ومثلما هي مريم فقد اختلطت شكوى رجل (پيشمرگه سابق) لم تُبكه مراحل الكفاح أبان التصدي لأعتى الديكتاتوريات المتمثلة في نظام البعث الصدّامي ولم تؤرقه تلك الليالي الطوال على سفوح الجبال أو موجات البرد القارس ولم تخيفه صدى الكهوف وسموم الأفاعي والعقارب ولا قصف المدافع والطائرات من قبل الأعداء، ولكنه قد اختلط نحيبه اليوم بالدمع المنهمر من عينيه شاكيا الفقر والجوع بعد أن ذاق الحرمان نتيجة عدم صرف السلطات في اقليم كردستان لراتبه الذي يشكّل مصدر رزقه الوحيد بعد بلغ من العمر ما بلغ، حيث لم تترك له ايام النضال فرص نيل الشهادات الجامعية، ولم يترك له ايمانه بقضية شعبه العمالة والتزلف لنظام صدّام للإثراء على حساب أبناء شعبه المضطهد كما فعل البعض، حيث يقول في الفيديو المرفق في أدناه وهو يتأوه باكيا ويترنّح في مجاهيل العوز والحرمان.

لم أكن قد استلمت راتبا لفترة طويلة مضت كان آخرها في الفترة التي سبقت الانتخابات المحلية الماضية (ولا شك ان ذلك الراتب لم يكن اعترافا بالإستحقاق قدر كونه دعاية للانتخابات من قبل السلطات الحاكمة في الاقليم)، ثم يعقّب (أسوة بقصة مريم) .. ” سوف أعدم نفسي”، يقول ذلك وهو يفتح محفظة نقوده، ويقسم بأغلظ الإيمان بأنه “لا يملك ديناراً واحد”، ومن ثم يبكي مستصرخا  ضمائر المسؤولين في الاقليم بالقول “قبل أيام اقترضت خمسة دنانير” لسد حاجتي أسوة بما مضى، فهل تريدوننا “أن نمتهن التسوّل في الأسواق لكي نعيش”.

وهنا سؤال يطرح نفسه: إذا كان وكما يدعي المسؤولون بأن خزينة الاقليم خاوية بسبب عدم صرف الحكومة المركزية لحصة الإقليم، فأين واردات النفط المصدّر من الاقليم الى الخارج يوميا؟ وأين واردات الكمارك و مداخيل الضرائب الأخرى؟.. وأين أرباح الاستثمارات الأجنبية ؟ فضلا عن أن الأمر ليس بالجديد، فإن معاناة الپيشمرگه الحقيقيين وكوادر الحزب القدامى، هي قديمة فكانوا ولا زالوا مركونين على الرفوف وعوائلهم تواجه شظف العيش ولم يقبضوا سوى الوعود الكاذبة والشعارات الرنّانة التي يرفعها المسؤولين لخداع الناس والتي لاتسمن ولا تُغني من جوع.

ولا بأس من إستذكار نفسي هنا، فبعد نضال مماثل لأكثر من 35 عام، ومن رحلة بين ربايا الجبال وسجون الطاغية، مازلت لا أملك مترا واحدا في الوطن، ولم يُصرف لي حقاً تقاعديا، علما أن أحد الذين كانوا يعملون تحت أمرتي هو الآن بدرجة لواء في الأسايش العامة تبعا لمعيار الانتقائية المعتمد الآن..  حقا هنا نقول اذا كان هناك من تليق به مهنة التسول فهم الانتهازيون والقتلة ممن تسلّقوا على أكتاف الآخرين، وممن تركوا شعوبهم عرضة للجوع الكافر، بل الجوع ليس كافرا وحسب، أنما هو ابو الكفار.. وكما قال الشاعر مظفر النواب:

لا تلم الكافر في هذا الزمن الكافر

فالجوع ابو الكفار

انا في صف الجوع الكافر

ما دام الصف الاخر يسجد من ثقل الاوزار

ومن بين ثنايا القصّتين، نقول: ويلُ للقاسية قلوبهم، والذين تجرّدوا من الرحمة والشفقة على بني جلدتهم، بل على بني جنسهم.. فإن معظم المسؤولين اليوم وكذلك أغلب صنّاع القرار وأغلبية الحكومات، لايفكرّون سوى بمستقبل عوائلهم وكراسيهم، من جهة، ومن جهة أخرى منهمكين في تمويل العمليات التي تهدف الى إدامة وجودهم في السلطة حتى وأن أدى ذلك الى الخراب وصناعة الجوع، وحرق الأخضر واليابس.

إن هذا الفن وصناعة التجويع ومهما طالت فسوف تنقلب على أصحابها في نهاية المطاف، فلربما إكتفت مريم بحرق نفسها، وإكتفى رجل الپيشمرگه بالبكاء، ألا أن الشواهد التاريخية تقول وعلى لسان رمز اليقظة في الضمير الانساني أبا ذر الغفاري ” عجبت لمن لايجد قوت يومه ولا يخرج على الناس شاهرا سيفه”، إذن يا ممولو العمليات الارهابية كفى قتلاً، ويا صنّاع الجوع والمترفون حذاري من غضب المسحوقين، فإنه إن انفجر، فلن يبقي لكم وجودا ولا يذر.

الرابط: أحد أفراد البيشمركة من شدة غضبة يبكي لعدم صرف حكومة أقليم كوردستان لرواتبهم (عن صحيفة صوت كردستان)
http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=NQ5kYXr9BSk