ليس من السهل السيطرة على حركة التطور الفكري للمجتمع أي مجتمع وتغيره باتجاه معين لأنك تتعامل مع مختلف المزاجات والانتماءات الفكرية والعقائد الدينية المحلية لوجود اتجاه من جهة واتجاه معاكس من جهة أخرى ولأنه يخضع إلى الكثير من التأثيرات الخارجية الممنهجة والمحلية العفوية وهناك إرادات متقاطعة تسعى إلى تحقيق مصالحها ولا يهمها من يقع ضحية لذلك مهما كانت الأعداد أو الطريقة وكل ما يعنيها هو إنجاح مصالحها وبالطبع كلها تصب في الجانب الاقتصادي المادي فهي تعمل على تجنيد من يخدمها وتزوده بالآليات المطلوبة في مهمته خصوصا أدوات التأثير الجمعي كوسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو المقروءة لتهيئة الأرضية المناسبة لتحقيق نصرها في نفس الوقت الذي تحاول به ما استطاعت إلى ذلك سبيلا الابتعاد بشعبها عن ساحة الاشتباك مع خصومها وليس بالضرورة أن يكون الاشتباك صدام مسلحا وعسكريا فهذا آخر وسائلها ولا يقتصر ذلك على الدول العظمى القوية بل حتى الدول الضعيفة تسعى إلى اغتنام الفرصة في تحقيق مصلحتها لدى الغير ما أمكنها من ذلك وعلى سبيل المثال تعتبر الكويت دولة ضعيفة بالقياس إلى دول جوارها ولكن مصالحها تتطلب منها التدخل في الشأن العراقي لإضعافه وشل حركته وإشغاله بما قد تنجح به إذا استعاد عافيته كإعادة ترسيم الحدود وإذا وضعنا باعتباراتنا إن هنالك سابقة لذلك فهي تغذي مشاكله الداخلية بأية طريقة لا أملا ولا طموحا منها في التوسع على حسابه رغم إن ذلك قد حصل وتمددت وأخذت أجزاء من حقول نفط الرميلة الجنوبية وجزء من قضاء سفوان الذي يحدها من الشمال رغم وجود وثائق في الأمم المتحدة تشير إلى حدودها حين أعلنت كدولة أو كما حصل عند بنائها لميناء الصباح فما كانت لتنجح ومن المستحيل لو كان العراق في عافية وقوي .
لكي لا نبتعد عن محور موضوعنا فان العراق بعد عام 2003 صار ساحة مفتوحة للجميع كما هو معروف وهدفا ومطمع للكثير من الدول وصار لابد من إضعافه للتحكم بمقدرات شعبه ولم يأتي هذا إلا من خلال تشتيت الجهد الوطني الجمعي الموحد وتفتيت كل عوامل القوة فيه فبعد أن تعرض العراق إلى صدمة قوية تمثلت بالاحتلال الأمريكي صار واضحا إن أعدائه يحاولون تدمير الإنسان فيه أولا من خلال تدمير الفكر الذي يحمله وإبداله بفكر مغاير في كل شيء وكان هذا أهم الانجازات وأخطرها فذوبت روح الانتماء الوطني كهدف أول إلى انتماءات أخرى معروفة لا داعي للخوض في تفاصيلها وسارت جادة في خطى حثيثة لتشكيل أحزاب وتجمعات وكتل كثيرة تتوالد وتنشطر من بعضها تختلف في مسمياتها لكنها بمحتوى وهدف واحد فحاولت استقطاب أفراد الشعب وجماعاته كل حسب ميوله وهواه فمنها الطائفية ومنها القومية وحتى الرياضية والفنية بل وحتى صارت جمعيات تستقطب أصحاب الشذوذ والانحراف والخطأ المرفوض عرفا واجتماعيا بينما راحت أصوات المسئولين والقيادات تتقاذف السب والشتم بينهم بعضهم لبعض للتمظهر بالوطنية فالكل يدعي النزاهة والكل يلعن الفاسد والسارق والمقصر وتستمر على هذا المنوال ولا نتيجة يتلمسها الشعب الذي يصبح على نفس ما يمسي عليه.
من غير المعقول أن تسمح الأحزاب التي تمثلت بالسلطة في أي بلد بنمو شريحة تعارضها في طريقة الحكم لان مصالحها تتحقق من خلال هذا خصوصا في البلدان الأقل ديمقراطية حيث افترقت وتباعدت الطرق في الرؤى مع الشعب أي شعب حيث يمثل الأغلبية فعليه أن يسعى إلى تحسين أساليب حياته وهنا يبدأ دور النخب المفكرة والعقول الناضجة التي تعنى بالتغيير ولا ينجح الجهد الفردي أبدا لأنه ضعيف ومن السهولة السيطرة عليه بل يمكن القول عنه انه ميت ولا يرقى إلى التأثير في المجتمع إذا لم يكن منظما وكما هو حاصل في العراق اليوم لذلك يجب على هذه النخب الوطنية والشريحة المثقفة الواعية للمخاطر التي تواجه البلد بصورة عامة إن تنظم صفوفها للمطالبة بحقوق أهلها بما يضمن عدم اختراقها والانحراف بجهدها إلى ما يسيء إليها والى الشعب بصورة عامة وبشكل سلمي هادئ بعيد عن الاصطدام كما هو حاصل في تنسيقيات التظاهرات بين المحافظات ليكمل بعضها البعض وعليهم اللجوء إلى الكيانات والتشكيلات أو المؤسسات المؤثرة كالمرجعيات الدينية والاستعانة بها في تحقيق أهدافها المشتركة حتما وتبصير الناس بالحقائق والأدلة وتقديم الحلول الواقعية المقبولة لا بالتنظير من بعيد بل الانخراط في الوسط المطلوب بالإضافة إلى التوجه لمنظمات المجتمع المدني الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان والمنظمات الجماهيرية والاتحادات والنقابات والسعي للمحافظة على طابعها المهني المتخصص وعدم السماح لأتباع الأفكار المنحرفة باحتوائها وتسخيرها لأهدافها.
ومن الضروري في حالة إصرار الطبقة المفسدة على البقاء مؤثرة في الحكم وصنع القرار بأي ثمن وعدم السماح للجهد الوطني المخلص بالاشتراك معها ومنع التغيير السلمي وعدم الاستجابة لصوت الشعب وتسويف مطالبه والاستمرار في دعم الفساد والفاسدين وهو ما يؤدي إلى تعقد الأوضاع بهيمنة الاستبداد بالقوة التي تمتلكها ويوفرها لها الدستور الذي فصلته حسب مقاساتها ومنع العمل النقابي والواعي مع تفاقم التهديدات الخطيرة للدولة والمجتمع، في هذه الحالة يتوجب البحث في إيجاد فرص وأساليب تغيير أخرى قد تكون متاحة أو يمكن الاستفادة منها في تغيير الوضع ، إذ إن عدم اللجوء إلى خيارات أخرى يمثل استسلام عملي للواقع وتكريس له واستبعاد حتمي للتغيير الحقيقي وهذا لا يمكن تحقيقه إلا في العودة إلى أسباب الضعف الأولى التي نوهنا عنها في البداية أي إلى إبعاد القوى الخارجية المؤثرة أولا كأحد أهم أسباب إضعاف الشعب وبالطرق السلمية ومن ثم التوجه والعمل على باقي النقاط تباعا بالإضافة إلى عدم إهمال الأشخاص المعنيين بالإصلاح والتغير فهم الغاية والوسيلة والهدف.