الحديث عن الانتاج السينمائي في العراق يسحبُك عنوة دون أن تقصد الى ظلال المشهد السياسي،رغم أنك تحاول جاهدا أن تنآى بنفسك عن مستنقعاته الآسنة،لانه صورة مستنسخة عن بقعه الداكنة،بكل تشوهاته وعقده وامراضه العضال،وبكل مايفرزه من متاهات وتواطئات ومجاملات وصفقات مشبوهة تأتي في محصلتها النهائية على حساب القيم والثوابت الاخلاقية والانسانية.
إذن الحديث عن السينما ـــ لايوجد سينما في العراق ـــ سيكون موجعا،تتشابك فيه خطوط حكاياته،بعيداً عن جماليات الصورة والايقاع والاحاسيس،منزلقة الى كواليس خلفية،ابطالها اداريون وموظفون يرتدون بدلات واربطة ،ويجلسون خلف مكاتب انيقة،يتجولون كالطواويس،يحيط بهم حفنة فنانين يعرفون جيدا من اين تؤكل الكتف،ولم تعد تجدي نفعا صبغة الشعر في أن تعيد الشباب اليهم،حكاية صنع السينما في العراق مشوقة أكثر من افلامها تبدو وكأنها فصل جديد ومثير من حكاية علي بابا والاربعين حرامي.
نفخ في قربة مثقوبة
هل أمسى الحديث عن الفن الجميل يخلو من الجمال،ولاجدوى منه؟ هل نبدو وكأننا ننفخ في قربةٍ ولاندري بأنها مثقوبة؟مع اننا نعلم جيدا بأن كل العيون ترى،لكن مامن اذان تصغي لما يُقال و يُكتب من ملاحظات تهدف إلى تشخيص عللٍ تقف حجر عثرة امام نشوء انتاج سينمائي عراقي ينهض على اسس سليمة ؟
ومايعكس هذه الحقيقة بكل غرائبيتها،استمرار الواقع السينمائي على صورته هذه،بكل هشاشته وضبابيته وسوداويته،حتى أن شعورا بات يتسلل الى جميع
الحالمين والطامحين والموهوبين،بأن لاأمل يبدو في الافق،وترسخ هذا الشعور مع هذا الكم من الافلام التي لاتصلح للعرض تولت وزارة الثقافة العراقية انتاجه خلال العامين الاخيرين 2013 – 2014 وقد وصل عدد الافلام الى 38 فلما،منها 14 فلما روائيا طويلا،و16 فلما روائيا قصيرا، إضافة الى عدد آخر من الافلام الوثائقية،حسب ماذكره مدير عام السينما والمسرح د. نوفل ابو رغيف في ندوة تلفزيونية كانت قد اجرتها معه قناة الحرة عراق الفضائية في نهاية شهر كانون الثاني من هذا العام 2015 وشاركه في الحديث عدد من المخرجين العراقيين.
غياب الاشتراطات الفنية
الانتاج العراقي منذ انطلاقته الاولى في فيلم(فتنة وحسن)للمخرج العراقي حيدر العمر عام 1955 ،بقي عاجزا عن تقديم فلم تتوفر فيه على الاقل الحدود الدنيا من الاشتراطات الفنية التي ينبغي أن يكون عليها الشريط السينمائي،ابتدأً من السيناريو المحكم البناء،والمعالجة السينمائية التي تشتغل بأدواة السينما إعتمادا على رمزية الصورة وماتختزنه من دلالات يتم ايصالها بالايحاء وليس بمفردات العُدَّة المسرحية التي عادة ما يعمل بها معظم المخرجين العراقيين،لان جلَّهم جاء إلى السينما عن طريق خشبة المسرح،وبتقديرنا أن جزءاً كبيرا من الخلل ــ الفني ــ يكمن هنا،وقد صاحب هذا الخلل مسار السينما العراقية طيلة العقود الماضية إلى أن جاء العام 2003،حينها بدأنا نشهد تحولا نوعيا في الفهم والعمل والنتائج،جاءناعن طريق مجموعة من الشباب معظمهم عاش شطرا مهما من حياته في اوربا ودرس الفن السينمائي خارج العراق،على سبيل المثال لا الحصر(عدي رشيد ومحمد الدراجي)فقدموا لنا اعمالا سينمائية توفرت فيها جملة من العناصر الاساسية في بناء الفلم،تجاورت في جمالياتها ولغتها وتطلعاتها الفنية مع مايطرح من اعمال سينمائية في العالم المتقدم،وهذا مااعطى لأفلامهم فرصة أن تحظى ببطاقة دخول الى عدد من المهرجانات الاقليمية والدولية،بل إن
بعضها ترشح لنيل جوائز رصينة،كما هو الحال في فلم(ابن بابل)للمخرج محمد الدراجي الذي نال أكثر من جائزة في أكثر من مهرجان دولي.
ومضات سينمائية مبعثرة
لو حاولنا الآن أنْ نعيد قراءة بعض الومضات البعيدة في مسار الانتاج السينمائي العراقي التي جاءت مبعثرة في مسار بعض الاشرطة التي انتجت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي،والتي اشعرتنا في حينها بالأمل،كما في فلم(الحارس 1967)خليل شوقي،(المنعطف 1974)جعفر علي،(بيوت في ذلك الزقاق 1977)قاسم حول،(الاسوار 1977)محمد شكري جميل،فإننا سنجد انفسنا وكأننا كُنّا نعيش وهما كبيراً،وأننا تجاوزنا بوهمنا حدود التفاؤل.
ومثلما تعودنا أن نتغاضى عن اخطاء قادة وزعماء كنا مؤمنين بوطنيتهم، تغاضينا أيضاعن هنّاتٍ حفلت بها تلك النتاجات(الومضات)تدفعنا الى ذلك مشاعر احتفاء ودعم للإنتاج السينمائي العراقي،وياليتنا ماتغاضينا عن أخطاء القادة والمخرجين معاً،لأن البلوى واحدة وإن اختلفت المسميات .
وفيما لو تمت مقارنة تلك(الومضات)مع ماتمَّ تقديمه من اعمال سينمائية انتجت في مصر أو سوريا أو تونس أو الجزائر في نفس فترة انتاجها ،لخرجنا بنتائج ليست في صالح ومضاتنا .
هيمنة الايدولوجيا
إن النتاج السينمائي في العراق ظل يعاني من معضلة رئيسة تتلخص في خضوعه المعيب لايدولوجيا النظام الحاكم،خاصة ذلك النتاج الذي تتولى تمويله دائرة السينما والمسرح،وهو الأكثر حضورا وهيمنة من حيث الكم،وهذا ماأسبغ عليه صبغة دعائية،ليجرده من فرصة أن تكون أدواته عالية الحرفية إحتراما لذكاء المتلقي ــ وليس احتقارا له كما هو حاصل ــ ولكي يتفاعل معه الجمهور باعتباره عملا فنيا خالصا،يتم التعامل معه نقديا وفق اشتراطات العمل الفني،وليس باعتباره جزءا من اجندة دعائية.
من هنا بقي النتاج السينمائي في العراق محشورا في زاوية الفنون الدعائية التي يتسم خطابها بالمباشرة والسطحية والسذاجة،ولاتحتاج الى وقت طويل لتأملها وقراءتها وتفكيك دلالاتها ورموزها وشفراتها كما هو الأمر في الفلم السينمائي الذي يقدمه الفنان بعيدا عن هيمنة خطاب السلطة.
النتاج العراقي بقي مفتقدا لجوهر مايسعى الى تحقيقه الفن السينمائي :الانتماء للأنسان وإنصاف قضاياه العادلة،بمعزل عن تخريجات خطاب السلطة،بشكله السياسي والاجتماعي،بكل مايحمله من تزيييف للحقائق،وأنزوى بعيداعن الحياة وماتضج به من دراما انسانية تحفل بالكثير من القصص البَكر التي لم تصلها عدسة السينما،هذااضافة الى مايطرحه الواقع بكل مايشهده من تحولات واحتدامات من قصص جديدة، مكتفيا بإعادة انتاج ماهو شائع ومكرر ،وهذا مايتناقض جوهريا مع وظيفة وضرورة الفن في أن يكون جدليا في رؤيته للواقع وليس تزويقيا وسياحيا إن لم يكن مزوراً في اغلب الاحيان .
وحتى لو صادف أن اقترب المخرج السينمائي العراقي من هذه الرؤية الجدلية فأنه سيلامسها على استحياء وحذر شديدين،كما هو الحال في افلام عبد الهادي الرواي(البيت،افرض نفسك سعيدا،حب في بغداد)الذي لاتنقصه الموهبة ولا الوعي السينمائي،لكنه لم ينصف موهبته بما تستحق،مع تقديرنا لثقل الظرف السياسي الذي كان يحيط به ــ لكونه شيوعيا ــ وكان سببا في حرمانه من العمل لسنين طويلة قبل أن تعطى له الفرصة ولكن تحت شروط وضوابط صارمة حاول على قدر مايستطيع أن يستغفل الرقيب ليمرر رسالته الذاتية،لكنها وصلت متلعثمة.
يمكننا القول بأن الافلام التي اقتربت من نبض الحياة بحرارة وجمالية تكاد تكون نادرة في تاريخ السينما العراقية،ويمكن اعتبار فلم المخرج قاسم حول (بيوت في ذلك الزقاق 1977)ضمن هذا الاطار.لذلك كان تعامل الرقيب انذاك مع الفلم قاسيا جدا،الى الحد الذي تم تغيير مشهده الاخير بنهاية أخرى غير التي وضعهاالمخرج،بشكل ينسجم مع ايدولوجيا النظام القائم،وكان ذلك من الاسباب الجوهرية التي دفعت بالمخرج إلى أن يغادر العراق قبل عرضه
خوفا من الاعتقال خاصة وان عرضه قد تزامن مع بدء حملة الاعتقالات التي طالت اعضاء الحزب الشيوعي العراقي .
إن دائرة السينما عكفت خلال فترة حكم حزب البعث العربي الاشتراكي على العودة الدائمة الى الوراء،إلى التاريخ ـــ وهذا مايفعله النظام الحالي ايضا ـــ لتقديم اعمال سينمائية ذات كلفة انتاجية عالية جدا إستلهمت فيها من الماضي البعيد قصصا وحكايات تمت معالجتها بشكل يخدم ايدولوجية الحزب،دون أن يكون هنالك اي قدر من الاهتمام بالجانب الجمالي أو المضمون الانساني،بما يشكل هذان العاملان من اهمية فيما لوعرض الفلم في إي مكان وإي زمان،مثال على ذلك فيلم(القادسية)1981من اخراج المصري صلاح ابوسيف،وفيلم(المسألة الكبرى)1982من اخراج محمد شكري جميل،ورغم الاموال الطائلة التي صرفت على تلك الاعمال إلاَّ انها لم تضف شيئا مهما ــ ضمن الاطار الجمالي ــ للإنتاج السينمائي العراقي،وذهبت في طريقها إلى النسيان بدلا من أن تستقر في ذاكرة الفن السينمائي .
وهنا ينبغي التوقف أمام رسالة الفنان عند تقديمه لاي تجربة فنية،وتمثل هذه المسألة جوهر العمل الفني وسر حضوره المشرق وديمومته،فالقيمة الاساسية لأي عمل لاتكمن في كونه يعالج الماضي او الحاضر،إنما قيمته تكمن في أن لاتكون رسالته جزءا من منظومة ايدلوجية هدفها تزييف اوتلميع اوترقيع الحقائق.فمهمة الفنان أن يرسم صورة جديدة للغد،لاأن يعيد انتاج صورة قديمة من الماضي حتى لو كانت مشرقة،فكيف الحال إذا كانت تلك الصورة مُزيَّفة ومُزيِّفةبنفس الوقت.
لاجديد في الاشرطة الجديدة
بعد انتظار طويل دام اكثر من عامين كان الجمهور العراقي ينتظر بشوق ــ كعادته ــ ماستفصح عنه مجموعة الافلام التي موَّلتها وزارة الثقافة خلال العاميين الماضيين،اقيم للفترة من 21 كانون الثاني (يناير)ولغاية 11 شباط (فبراير) مهرجانا لهذه الافلام،وبطبيعة الحال،وكما هو متوقع لدى كل من
يُعنى بالفن السينمائي من نقاد ومثقفين،كانت النتيجة مخيَّبة،فالضعف في المستوى الفني قد شمل معظم الافلام بإستثناء فلم(صمت الراعي)للمخرج رعد مشتت،وبدرجة اقل فلم(بحيرة الوجع )للمخرج جلال كامل،هذه النتيجة انعكست بالتالي على نسبة حضور الجمهور المتابع للمهرجان،فأخذت تتناقص أعداده بشكل كبير من بعد اليوم الاول لافتتاح المهرجان .
من المعلوم ان هذه الافلام قد خصص لها اكثر من 20 مليار دينار عراقي ووصلت ميزانية بعضها الى مليون ونصف دولار لكل فلم،وهكذا يصبح الرقم تنازليا مع بقية الافلام الاخرى .
ماتم تسجيله من ملاحظات سلبية ضد خطة الوزارة يتلخص أولا في هذا الكم الكبير من الافلام التي تم انتاجها،وكان ينبغي بدلا من هذا العدد ــ 38 فلما ــ أن يقتصر الانتاج على عدد محدود،لايتعدى عشرة افلام،يتم اختيارها بدقة وعناية،ابتدأ من السيناريو وانتهاء ببقية طاقم الانتاج .
ايضا كان يتوجب على وزارة الثقافة ان تعطي الفرصة للمخرجين الشباب الذين اثبتوا كفاءة وحضورا في الافلام التي قدموها خلال الاعوام الاخيرة،وعلى العكس من ذلك تم استبعاد معظمهم من خطة الوزارة، لتستولي على الحصة الاكبر من خطة الانتاج بدلا عنهم اسماء مخضرمة دائما ما كانت لها الحظوة في اقتناص الفرص طيلة العقود الماضية لكنها لم تقدم شيئا مهما،لاسابقا ولا لاحقا .
ومن الاسباب الاخرى التي تقف وراء ضعف الافلام المنتجة:عدم كفاءة اللجنة التي تولت قراءة واجازة السيناريوهات المقدمة للانتاج،فقد بدا الضعف واضحا في معظمها،بل أن اغلبها يصلح ان يكون مادة للتلفزيون ولايصلح ان يكون مادة سينمائية،لما حفلت به من ثرثرة في الحوار،وغياب الموضوعة الانسانية التي يراهن عليها في مخاطبة الجمهور العالمي في ايّما مكان وإيّما زمان.