18 ديسمبر، 2024 7:37 م

صناديق مواجع و ” صندقچـة ” مباهج !

صناديق مواجع و ” صندقچـة ” مباهج !

بصندوق الأقتراع يتبجح مسؤولو السلطة والأحزاب الحاكمة, كلما خرجوا على قناة فضائية ومصارحتهم بالاعتراض الشعبي على تشبثهم بالمناصب مع فشلهم القاطع في كل مجال : – ” صندوق الاقتراع هو الذي جاء بنا تحت قبة البرلمان وسلّمنا سدة الحكم ونصبّنا عليكم “. اسطوانتهم المشروخة هذه التي لا يصدقها حتى المواطن البسيط… بل انهم انفسهم لا يصدقونها ولكنها لازمتهم المحفوظة التي يلوكونها عادة.

الكل يعرف ما أفرزته هذه الصناديق من وجوه سوء جلبت المصائب والمحن على العراقيين, لوت عنق الديمقراطية واختصرتها بالاقتراع وحده, وطرق وصولهم الملتوية والغير شريفة يعرفها المواطن, من استخدام المال السياسي وإمكانيات الدولة, وتجيير قوانين الانتخابات لتضمن تحويل اصوات من يكرههم أو لا يريدهم ليضعها في جعبتهم وتعيين مفوضين موالين لهم في هيئة المفوضين العليا لإدارة العملية الانتخابية من احزابهم وبالتحاصص, وقبل كل شي سلاح ميليشيات الترهيب المشرع وشراء أصوات البعض أو سرقة أو تزوير بطاقاتهم الانتخابية أو حرق صناديق اقتراع يشكّون في اختيارات المواطنين فيها, وحتى ارهاب القضاء واستغلال الدين ورجاله في فوزهم… وغيرها من أساليب الخداع من اعلام كاذب يروج لأياديهم المتوضئة ومرات حجهم إلى مكة وتوزيعهم القيمة والزردة.

من الصناديق التي فتحت مزاليقها على مصائب للبشر كما السابقة للعراقيين, ” صندوق باندورا ” في الميثولوجيا الأغريقية, الذي يحوي كل شرور البشرية من جشع وكذب وغرور. والذي يعود لباندورا الجميلة أول امرأة على الأرض, خلقها ” الإله زيوس ” الكاره للبشر على صورة ” أفروديت ” آلهة الجمال, كجزء من العقوبة البشرية وانتقام من ” بروميثيوس ” أحد الجبابرة المحبين للبشر, على قيامه بسرقة النار من الآلهة واعطائها للبشر, واهداها بعد زواجها من أخ ” بروميثيوس ” صندوقاً واشترط عدم فتحه مطلقاً.
النتيجة أن فضول ” باندورا ” غلبها ففتحت الصندوق لتتسرب منه كل الشرور لكن تسربت منه أيضاً ومضة ضوء مثلت بصيص الأمل للبشر.

حديث الصناديق لا ينتهي, فهناك الكثير منها لمن يود البحث عنها.

ولكن في انتقالة من الشرق المتوسطي الإغريقي الى الغرب منه, المنسدح بارتخاء على شواطيْ الأطلسي, حيث يتداول البرتغاليون حكاية الصندوقين الحجريين اللذين دفنهما المسلمون عند مغادرتهم شبه الجزيرة الأيبيرية بعد سقوط دولة الخلافة الأموية في الأندلس… صندوق العجائب, المملوء ذهباً ونفائس, الذي يجلب لسعيد الحظ الذي يفتحه الثراء والسعادة, وصندوق المصائب الذي يجلب لسيء الحظ الذي يفتحه النوائب والنكائب والمصائب والأمراض.
يُحكى أن لا أحد من البرتغاليين بحث عنهما, خشية فتح الصندوق الخطأ, صندوق المصائب ويؤذي أهله والبشرية.

” الصندقچـة “صندوق جدتي فقط هو الذي كان يجلب الفرح والحلوى والسلامة بالمطلق. كانت جدتي الكبيرة كما كنا نسميها لأنها في حقيقة الأمر والدة جدتي ( جدة والدي ) وقد عمّرت لما بعد المئة عام. كنا عندما نزور بيت جدي بمدينة النجف, تفرح بنا نحن الصغار أيما فرح ! وبعد التقبيل والتشميم, تقودنا إلى صندوقها الخشبي ” الصندقچـة ” والفضول يغمرنا لما يمكن أن تعطينا.
كانت عندما تفتحه ينبعث منه عطر شفيف جميل غامض به غرابة الشرق, لا يزال متغلغلاً في تلافيف دماغي, تجمع فيه حاجياتها الخاصة من ملابس ومشط خشب ومسواك اسنان… وتستل ” الأبنبات ” من بين موجوداته, وهي حلويات سكر باللون الأصفر ربما لأنه مخلوط بالزعفران, وكذلك الجوز والتُكي المجفف – التوت – و” كليجة التمر أو الشكر ” ” معمول العيد ” لتوزعها علينا.
وكان بين حاجياتها المتنوعة ” كَلّة القند ” وهو سكر مبلور نقي بلون الزجاج مصبوب على شكل مخروط, يستعمل بدل السكر العادي مع الشاي بوضع قطعة منه تحت اللسان ثم احتساء الشاي المرّ عليه, على الطريقة الإيرانية.
كان أكبر مثارات فرحي هو عندما تكلفني بتكسير القند لأجزاء صغيرة, مع استعمال الجاكوج الصغير الجميل الفريد الخاص به… طبعاً كنا نلتهم قطعاً منه, وهي ترانا وتغض النظر مبتسمة.
نسيت أن اخبركم بأن جدتي الكبيرة فقدت بصرها لفترة ثم عاد لها النظر مرة اخرى فجأة.

أكثر ما كان يثير اعجابنا ” قوري الزعفران ” ابريق شاي الزعفران المزخرف, بحجمه الأكبر من المعتاد, المصنوع من الخزف الصيني وهو عبارة عن جملٍ بارك على الأرض, سنامه مزركش بنقوش شرقية, ومنه توضع مكونات الشاي, ويجري سكب الشاي ذو اللون الذهبي بخيوط زعفران حمراء أحياناً من خلال فتحة على شكل فم جمل. كانت جدتي الكبيرة تخرجه مع فناجينه فقط عند وجود ” قراية ” وهي تجمّع لنساء الحي في عاشوراء لتذكر فاجعة استشهاد الأمام الحسين بن علي وآل بيته في واقعة كربلاء والبكاء عليهم.
وكنت ” أكربع ” – أعبّ وأكرع ما تبقى من شاي الزعفران المُحلى بكل ممنونية وسعادة بعد انفضاض اللقاء.

كان صندوق جدتي الكبيرة الوحيد الذي لم يحو على شر ولا تكمن فيه مشاعر كره للآخرين كما الصناديق الآنفة الذكر, بل كان طافح بالخير والعطاء والحب كما روحها الشفيفة, حتى انها حولت سُم العقرب القاتل إلى ترياق شفاء…فقد كان يملأنا الفضول والخوف عندما نرى قنينة زجاج بداخلها عقرب يغطيه زيت… كنا نتجنب مجرد لمسها, لكنها كانت تطمئننا بأنها ميتة وغير مؤذية, وعندما نسألها لماذا تحتفظ بها في صندوقها بين حوائجها, فتجيبنا بأنها تستعملها للئم الجروح, فتغشانا الدهشة أكثر من ذي قبل : كيف لسُم عقرب أن يعالج جروحاً وهي بلؤمها المعروف تقتل الإنسان بمجرد لسعة ؟!!!

هذه الأحجية ظلت ترافقنا لفترة طويلة حتى فكنّا لشفرة الشعار المرفوع على الصيدليات ( الأفعى والكأس ) واطلاعنا على قصة إله الطب عند الإغريق ” اسكليبيوس ” مع الأفعى التي تغيّر جلدها, ثم دور السُميّات, من جانب آخر, في صناعة العقاقير والعلاجات الشافية في الصناعات الدوائية الحديثة.

صندقچـة جدتي غيّبها الزمن ولكن مكنوناتها المبهجة لا تبرح الذاكرة.
عسى أن تبشرنا صناديق الأقتراع, يوماً, بما يُنسينا كوالح حاضرهم !