قبل أيام مرت ذكرى المبعث النبوي الشريف التي تصادف في السابع والعشرين من رجب ، ومن طقوسها أن يقوم الزائرون بعد أداء مراسم زيارة مرقد الامام علي إبن أبي طالب ( ع ) بزيارة الموتى في مقبرة وادي السلام التي تمتد على مساحة واسعة ، وتضم مئات الملايين من قبور درست ، وأخرى لا تزال قائمة ، منها لاربعة من الانبياء – آدم ونوح وهود وصالح – وأولياء وعلماء وصالحين وسياسيين ، وأخرين من طوائف وأديان وبلدان متعددة … وقد أدخلت منظمة اليونسكو مقبرة وادي السلام من ضمن التراث العالمي الانساني لأنها من أقدم وأكبر المقابر في العالم.. ويلف الانسان صمت رهيب ، وهو يدخل المقبرة .. صمت يعلو على ضجيج الحياة ، وفي ذلك درس كبير مما يشاهده ، عله يتعظ مما يرى أمامه ، ونهاية من سبقه ، ومصيره هو أيضا سيؤول اليها حتما ، طال العمر أم قصر .. وتقطع هذا الصمت تلاوات من القرآن والادعية وأصوات أجهزة التسجيل ، ومناداة الباعة على بضاعتهم ، وقد توزعوا على شوارعها ، يبيعون ماء الورد ، والبخور وقناني الماء والفواكه لتوزيعها على أرواح الموتى ، ومطاعم صغيرة ، وعربات للوجبات السريعة والشاي والمشروبات والعصائر، و(بسطيات ) لبيع مختلف
الحاجات والهدايا ، وأصوات السيارات و(الستوتات)، وزحف الملايين التي توزعت على تلك الملايين ..
وتبدو المقبرة وكأنها عالم أخر مختلف عن عالمنا … ويظهر الاموات ، وكأنهم يمدون هؤلاء الاحياء باسباب الحياة ، وينالون أرزاقهم من بينهم.. وطقوس تظهر الانسان ، غير ذاك الانسان الذي يهوى الدنيا ، وملذاتها واصابه الغرور بها ، وإعتاد على حب الحياة ، والآعيب السياسة ، و( فنون ) التجارة …!! فهل رحلة بهذه النهاية تستحق أن يغتر بها مغتر، أو يطمع بها طامع ، أو يطغى بها سلطان … ؟ وهل هناك إنسان عاقل لا يعرف أن حسابا ، ينتظره ويتوزع بعده الخلق بين الجنان والنيران ، كل حسب عمله ، فيمنع نفسه عن الرذائل ويتعفف عن الصغائر، ويترفع عن هذا الحطام الزائل . .؟ نعم …صمت القبور يعلو على ضجيج الحياة .. درس عسى ان يتعظ به من غره الطمع ، واعماه الجشع ، وحجب عنه الدولار والدينار رؤية هذه الحقيقة .. والسعيد من يأخذ من دنياه لآخرته .. ملايين القبور في هذه المقبرة وغيرها .. لكن ياترى أين تلك التي سبقتها ، وتستعصي على العد والحصر.. السؤال نفسه سبق أن طرحه الشاعر ابو العلا المعري ، ويوحي جوابه وكأن الارض مقبرة كبيرة .. وتلك هي الحقيقة …
صاح هذي قبورنا تملا الرحب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الارض إلا من هذه الاجساد
.. واللبيب من إعتبر..