17 نوفمبر، 2024 10:42 م
Search
Close this search box.

صمت الحملان

صمت الحملان

في عام 1991 ، وخلال الانتفاضة الشعبانية التي كان الهدف منها القضاء على الدكتاتورية ، ادت حالة الفوضى الى نشوء ظاهرة (الفرهود) في بعض المحافظات ومنها كربلاء ..كان منزلنا قرب المخازن التي لانعرف من فتح اقفالها ودعا المواطنين لحمل مايرغبون به من حصتهم في (اموالهم لدى الحكومة) ..وقتها ، شاهدت مناظرا لاتفارق ذاكرتي حتى الآن ..هجم المواطنون على المخازن وصار يمكنك ان تشاهد عباءات النساء تسقط عن رؤوسهن وهن يجرجرن اكياسا من المواد الغذائية بينما يدوس الاطفال بأحذيتهم او ارجلهم الحافية على حبات الرز والعدس والفاصوليا والسكر التي تناثرت على الطرقات ..وقتها ، شاهدت جارنا العجوز الوقور يحمل قطعة اثاث من السيراميك لايعرف ماهيتها وحين قال له الشباب انها (مرحاض غربي ) رماها على الارض وسط ضحكاتهم..كانت مشاهدا مؤلمة جدا فالبعض اعتبر المخازن غنيمة و(فرهد) كل مافيها ببراعة لم نكن نتخيلها منه ..
وفي عام 2003، وبعد سقوط الدكتاتور ودخول الامريكان الى العراق ، كنت اسكن في احدى مناطق حزام بغداد وشهدت للأسف مرة اخرى قيام ظاهرة (الفرهود) وكان الامريكان هذه المرة من فتح اقفال المخازن وقالوا للناس (خذوا حصتكم من النفط) ..كانت المشاهد اكثر ايلاما ..كدت ارى اللعاب يسيل من افواه البعض وهم يركبون هذه المرة سيارات حديثة ويجرجرون اجهزة وقطع اثاث ومواد انشائية غصت بها منازلهم ..بعضهم فقد حياته من اجل مركبة تنافس مع آخر على اقتنائها ، واصيب احد ابناء المنطقة اصابات بالغة وهو (يسحل ) القضبان الحديدية المستخدمة في البناء ويكدسها اذ سقط من فوقها لتخترق صدره ..وقتها ، شاهدت كيف قاد شاب سيارة حديثة (فرهدها ) بسرعة جنونية فانقلبت السيارة ووقع في بركة مياه ، وبعد ان خرج من السيارة ناجيا باعجوبة لم يحتمل لوم عمه الذي شاركه في (فرهدة) السيارة فعاد الى موقع الحادث حاملا رشاشته
المليئة بالذخيرة واطلق مخزنا كاملا على السيارة ليحولها الى (سكراب ) ، حين علم اهله بالخبر علقت شقيقته قائلة :” مال فرهود مايوجع الكلب ” !!
قبل ايام ، حين حاصر المعتصمون بعض الوزارات وكانت الاحداث تشير لحدوث فوضى في الشارع العراقي ، خشيت ان تعود ظاهرة (الفرهود) الى الظهور من جديد ..فاذا كان صدام قد مارس سياسة التجويع والترهيب ليكبح جماح شعبه ويفرض عليه سلطته وتكون النتيجة (تشفي ) الشعب بفتح المخازن و(فرهدة ) اموال الدولة ، فماذا سيفعل الشعب اليوم وقد مارس معه حكام اليوم (الديمقراطيون) نفس السياسة مضافا اليها جرعة كبيرة من خيبة الأمل بهم ..خشيت ان تؤدي الفوضى الى استباحة المال العام بعد ان استباحه الحكام وان يتحول(صمت الحملان) الى عواء ذئاب فتعكس الملامح المسالمة والنوايا السلمية للمعتصمين توحشا وعنفا ..
ساحتنا السياسية اليوم لاتحتمل فوضى ولا(فرهودا ) آخرأو اجتهادات فردية كما جرى في وزارة العدل ، فالفوضى موجودة اصلا منذ ان اصبح في بلدنا (برلمانين ) وحكومة معارضة للحكومة ، والفرهود موجود طوال الاعوام السابقة ليس من الشعب بل من الحكومة اما الاجتهادات الفردية فلن تقودنا الا الى نهاية لانحسد عليها ..شعبنا بحاجة الى ضبط النفس والى استعادة توازنه والنظر بعين الحكمة الى من سيقوده الى الخلاص ويكفيه مامر به من كبوات وخيبات تاريخية أدت اليها غالبا دكتاتورية الحكام و(استباحة ) المال العام لأنه (مايوجع الكلب ) …

أحدث المقالات