20 ديسمبر، 2024 4:09 ص

صلاحية الولايات الفيدرالية في عقد المعاهدات الدولية

صلاحية الولايات الفيدرالية في عقد المعاهدات الدولية

إن ضرورات تطور أنظمة الحكم السياسية فرضت إبتداع نظام الحكم الفيدرالي، وقد جاء هذا النظام مناسبا للمجتمعات المتعددة الأعراق التي يمكن لها أن تتعايش في بلد واحد -خصوصا عندما تتعرض جميعها لتهديدات خارجية متشابهة ولا تستطيع كل مجموعة بمفردها رد تلك التهديدات- مع مراعات حقوق كل مجموعة عرقية والمحافظة على خصوصيتها القومية أو اللغوية أو الدينية, وقد تشكلت الدول الفيدرالية من تكتل “جمهوريات أو ولايات أو أقاليم أو كانتونات” في دولة واحدة، بعد الإتفاق على تحديد حقوق وواجبات كل مجموعة داخل حدودها الإدارية وبينها وبين الوحدات الإدارية الأخرى، ثم بين جميع الوحدات وبين الإتحاد الفيدرالى المركزي، على أن يقوم هذا الإتحاد بإدارة أهم الشؤون الداخلية والدولية التي تعود بنفعها على الجميع.

وقد اختلفت الحقوق الممنوحة للولايات بين بلد فيدرالي وآخر باختلاف طبيعة الظروف التي قادت لتشكيل الإتحاد، على أن الإختلافات في منح الحقوق يمكن أن تنحصر في اتجاهين رئيسين إثنين؛ إتجاه يرى تضييق حقوق الولايات الى حدها الأدنى، بينما اتجاه آخر يرى بضرورة توسيع الحقوق والصلاحيات الممنوحة للولايات داخل الإتحاد الفيدرالي، على أن وراء كل من الإتجاهين فقها وفلسفة وقواعداً قانونية تؤسس للمسوغات الواجبة لاعتماده، فأصحاب الرأي المدافع عن تقليل حقوق الولايات يعتقد بأن ذلك يحافظ على تماسك الإتحاد، بينما المدافعون عن زيادة حقوق الولايات يؤمنون بأن ذلك أدعى لاحترام الخصوصية الثقافية لكل مجموعة ضمن الإتحاد الفيدرالي.

أما ناقدوا الإتجاه الأول فيرون أن التضييق على الولايات يجعل من الدولة الفيدرالية شديدة الشبه بالدولة المركزية البسيطة فيفقد النظام الفيدرالي، والحال هذه، معنى وجوده. ويرى ناقدوا الإتجاه الثاني بأن المبالغة في حرية الولايات قد يشكل خطرا على وحدة الإتحاد وديمومته. فقد ذهب دستور الإتحاد الروسي مثلا الى حد منح الجمهوريات المنضوية فيه حرية الإنفصال إذا ما رأت أن ذلك ضروريا، وهذا ما حدث فعلا سنة 1991 عندما انفضّ عقد الإتحاد الروسي -وسط ظروف سياسية مواتية- بإعلان جمهورياته الإنفصال عنه. أما الدستور الأمريكي فهو يتجه للمحافظة على وحدة الإتحاد من خلال تقييد التصرفات الدولية بالحكومة الفيدرالية حصرا، رغم ضمان الدستور الأمريكي لحق الولايات في تصرفات دولية أقل شأنا.

إن قيام الدستور الإتحادي بإعطاء صلاحيات التصرف الدولي للولايات يُظهِر مدى قوة العلاقة بين القانون الداخلي وبين القانون الدولي العام، وضرورة تحقيق الإنسجام بينهما وصولا الى حالة الإستقرار التي تتطلبها العلاقات الداخلية والدولية على حد سواء، فمن المهم أن تتوافق القوانين الداخلية مع القانون الدولي العام -والعكس صحيح- للتقليل من التعارض الذي قد يقود الى ظهور التوترات والخلافات بين أحدى الدول وبين المجتمع الدولي، فنجد على سبيل المثال أن الإستشارات أو القرارات الصادرة عن محكمة العدل

الدولية تشير غالبا بأن تطبيق آرائها القانونية ممكن إذا لم تضع الدساتير أو القوانين المحلية استثناءات تمنع تنفيذ الرأي الدولي، ونفس الأمر ينطبق على القوانين الداخلية من حيث تجنبها معارضة القوانين الدولية التي تعكس وجها من وجوه التطور الحضاري العام.

يحتاج دخول إحدى الولايات الفيدرالية في إجراء التصرف الدولي من قبيل التفاوض مع دولة أجنبية وإجراء المباحثات معها أو توقيع المعاهدات- إلى تفويض يمنحه الدستور للولاية المعنية باعتباره أسمى وثيقة داخلية، ومن دون ذلك التفويض لا يكون للولاية الشخصية القانونية الدولية التامة التي تؤهلها للتعامل مع دول كاملة الشخصية القانونية الدولية. وقد جرت القاعدة في الدول الفيدرالية على قيام الدستور بمنح الولايات شخصية قانونية دولية محدودة لعقد المعاهدات المتعلقة بالجوانب الخدمية (كالمواصلات، السيطرة على التلوث، مكافحة الفيضانات)، على أن لا يشمل ذلك المنح والتفويض الجوانب السيادية التي تختص بها الحكومة الفيدرالية لوحدها، والقاعدة القانونية لذلك المبدأ تتعلق بأهمية المحافظة على وحدة الكيان الفيدرالي، باعتباره أكبر شخصية دولية داخل الإتحاد.

بالتعريج على التجربة الفيدرالية التي تم إقرارها حديثا في العراق سنة 2005، نجد أنها قد وُلِدت من رحم ظروف إسثنائية تمثلت بكونها نتاج احتلال أجنبي للبلد هو الإحتلال الأمريكي الذي تم سنة 2003، تلا ذلك تفاهم الحاكم المدني الأمريكي للعراق، بول بريمر مع قوى المعارضة العراقية التي استدعيت على عجل للقيام بإدارة البلد السياسية. وكانت الأحزاب الكردية العراقية قد تمكنت في اجتماع لندن لقوى المعارضة العراقية والذي عقد سنة 2002، من الحصول من باقي قوى المعارضة على الموافقة على إقامة نظام حكم فيدرالي في حال سقوط نظام صدام حسين. كما تمكنت الأحزاب الكردية ذاتها بعد سقوط النظام من التأثير على بريمر في سبيل إقرار دستور عراقي يعتمد النظام الفيدرالي، وهذا ما حدث فعلا في سنة 2005.

ومع كل الظروف السلبية المرافِقة، جاء الدستور العراقي بمواد تضمن المحافظة على وحدة البلاد، حيث نصت المادة الأولى على أن: (جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي “برلماني” ديمقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق). كما حدد هذا الدستور بوضوح الصلاحيات التي تختص بها الحكومة المركزية بما يمكن أن يفيد بأن الشخصية القانونية الدولية الرئيسية في البلاد هي الحكومة الإتحادية، فقد جاء في “أولا” من المادة 110: (تختص السلطات الإتحادية بالإختصاصات الحصرية الآتية: أولاً:- رسم السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي، والتفاوض بشأن المعاهدات والإتفاقيات الدولية، وسياسات الإقتراض والتوقيع عليها وإبرامها، ورسم السياسة الإقتصادية والتجارية الخارجية السيادية). كما حددت المادة 80 صلاحيات مجلس الوزراء، وكان من بين تلك الصلاحيات ما نصت عليه “سادسا”: (التفاوض بشأن المعاهدات والإتفاقيات الدولية، والتوقيع عليها، أو مَن يخوّله). ونصت المادة 61 على اختصاصات مجلس النواب، حيث جاء في “رابعا”: (تنظيم عملية المصادقة على المعاهدات والإتفاقيات الدولية، بقانون يُسَن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب).

وقد نص الدستور في مواد أخرى على أن ما يقع خارج الإختصاصات الحصرية للسلطات الإتحادية يكون من صلاحيات الأقاليم أو المحافظات غير المنتظمة بإقليم، وفي حالة التعارض بين القوانين الإتحادية

وقوانين الأقاليم -خارج الإختصاصات الحصرية للسلطات الإتحادية- فإن الغلبة تكون لقوانين الأقاليم، وهي سابقة لم يأت بها أيّ من دساتير الدول الفيدرالية، على أن ذلك الإستثاء الذي اختصّ به الدستور العراقي يمكن تفسيره من باب الحرية التي ينبغي أن تتمتع بها الأقاليم، وإلاّ فما معنى أن يكون نظام الحكم فيدراليا اذا كانت جميع السلطات محصورة في يد السلطة الإتحادية دون أن يكون للأقاليم أي رأي مخالف في حدود المحافظة على كيان الإتحاد. وهكذا جاءت المادة 121 من الدستور لتعطي الأقاليم الحق في ممارسة سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، باستثناء ما اختصت به السلطات الإتحادية، فأعطت تلك المادة في “رابعا” حق الأقاليم بامتلاك شخصية قانونية دولية محدودة من خلال السماح لها بتأسيس مكاتب لها في السفارات والبعثات الدبلوماسية العراقية لمتابعة الشؤون الثقافية والإجتماعية والإنمائية الخاصة بالأقاليم. وعلى هذا الأساس قامت حكومة الإقليم الكردي العراقي بتشكيل (دائرة العلاقات الخارجية) لتتولى إدارة الأعمال الدولية بالحدود التي أشار اليها الدستور.

تميزت العلاقة بين الحكومة الفيدرالية العراقية وبين الولاية أو الإقليم اليتيم بالتشنج المتواصل مذ تم العمل بالدستور حتى اليوم، وسط اتهامات متبادلة يكيلها كل طرف للآخر بالتقصير والخروج عن الدستور وإضمار سوء النية، وقد تعود هذه الأزمات في جانب من جوانبها الى التأخّر في تشريع القوانين التي يتطلبها الخروج من عمومية القوانين الدستورية ومصلحية التفسير الخاصة بكل طرف، إلى ضرورات التفصيل التي تتكفل بها القوانين الفرعية. فقد تأزمت العلاقة بين الطرفين على قاعدة قيام الإقليم بالتعاقد مع شركات نفطية لحفر الآبار دون التنسيق والتعاون مع الحكومة الإتحادية، وهدد المركز بمقاطعة وإنهاء عقود جميع الشركات النفطية التي تتعاقد مع الإقليم دون المرور بوزارة النفط الإتحادية، حيث أن بعض تلك الشركات لها مصالح نفطية في وسط وجنوب العراق ايضا. كما مرت العلاقة بين المركز والإقليم بأزمة أخرى يوم بدأ العمل على مد أنبوب لتصدير النفط من الحقول الجديدة في الإقليم عبر الأراضي التركية وصولا الى ميناء جيهان. وتصاعدت الأزمات أكثر يوم قرر الأقليم تصدير النفط وإيداع العائدات بحساب خاص به، على أن يستفيد الأقليم لوحده من مردود المبيعات.

معلوم أن الدستور العراقي أكّد في المادة 111 على (أن النفط والغاز هو ملك للشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات)، وأشارت المادة 112 “أولا” بأن (تقوم الحكومة الإتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة…) أما بخصوص تطوير ثروة النفط والغاز أي حفر الابار الجديدة وإقامة محطات العزل وخطوط النقل، فقد نصت “ثانيا” من المادة أعلاه على ما يلي: (تقوم الحكومة الإتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الإستيراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي، معتمدة أحدث تقنيات مباديء السوق وتشجيع الإستثمار). وهكذا يبدو واضحا أن هاتين المادتين ليس فيهما مطلقا ما يشير إلى صلاحية الأقاليم أو المحافظات المنتجة -لوحدها- القيام بعمليات حفر الآبار والتصدير من دون المشاركة الأساسية للحكومة الإتحادية.

والأسئلة المهمة التي يمكن أن تُثار حول ما قام به الأقليم من خطوات منفردة في المجال النفطي، هي التالية: – ما هو السند القانوني الذي اعتمد عليه الإقليم عندما تعاقد مع شركات نفط أجنبية دون العودة إلى وزارة النفط المركزية، بل ما هو سند الشركات الأجنبية القانوني لذلك التعاقد؟ – كيف تمكن الإقليم من

مد إنبوب تصدير النفط عبر الأراضي التركية واستخدام موانئها من دون إنشاء معاهدة دولية مع الطرف التركي، في الوقت الذي نجد فيه أن تمتع الإقليم العراقي بالشخصية القانونية الدولية لا يؤهله لعقد مثل تلك المعاهدات، وما هي مسؤولية الدولة التركية عندما تكون طرفا في معاهدات لا يُقرّها القانون الدولي ولا متطلبات حُسن الجوار؟ ألا يتعلق الأمر برمّته بضعف قدرات الدولة العراقية على ضبط أطرافها الداخلية وإجبارها على الإلتزام بالدستور الذي ارتضته تلك الأطراف ووقعت عليه بلا ضغط أو إكراه. وقبل هذا وذاك مالذي جعل من تلك المعاهدة سرية لم يعلنها طرفاها صراحة، ويقوما بتسجيلها لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة كما هو معروف في (وظائف جهات إيداع المعاهدات الدولية)- لو لم تكن تلك المعاهدة مخالِفة لأصول المعاهدات المعروفة في القانون الدولي العام؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات