18 ديسمبر، 2024 8:47 م

صفقنا لأمريكا مرتين

صفقنا لأمريكا مرتين

عندما دخلت القوات الامريكية عام 2003  الى بغداد وازاحت صنم صدام ، والذي كان يرمز الى عبودية الشعب العراقي ، صفقنا لها ، واستقبل البعض من اطفالنا قواتها الغازية بالورود ، وكنا على حق  وعلى وهم في نفس الوقت .
كنا على حق ، لان حكم صدام كان كابوسا حقيقيا مرعبا ، لم يكن التخلص منه ممكنا للشعب العراقي في ذلك الحين الذي سبق ثورة الياسمين التونسية بسنوات عديدة ، وكان انجاز القضاء على حكم مستبد وظالم ودموي يعد مفخرة للمنجز ايا كان ، وحتى ان كان هو صانعه وظهيره في  صناعة الموت لعدة عقود .
كنا على حق ، لان الغازية كانت قد اقنعتنا ، انها حصن الحرية المنيع وقلعة الديمقراطية ، وان همومها كثيرة ومتنوعة ، لكن مهمة نشر اجنحة الحرية وفرش بساط الديمقراطية في المناطق المكبلة بقيود الاستبداد من العالم تأتي في مقدمة هذه الهموم ، وان نشر النور في الزوايا المظلمة تسبق كل اولوياتها الاخرى .
كنا على حق ، لاننا لم نجد في رحلة البحث الطويلة من يعيننا على الخلاص من محنة ما كان لنا ان نتحملها لوقت اضافي . وقتها ونحن نعيش الجحيم ، لم ننظر الى وجه ونوايا من يؤخذ بيدنا لانتشالنا منه .
وكنا نتصور ، ان الولايات المتحدة ، تفعل ما تقول ،وتؤمن بما يصدر عن مؤسساتها وقادتها  عندما تخاطب شعوبا ضعيفة ومغلوبة على امرها ، صدّقنا الوعود والبيانات ، قلنا انها وبعد ان حققت لنا حلما كبيرا ، ستتابع عملها الخيري وبهمّ انساني ، وستجلب لنا الحرية والديمقراطية .
 قلنا حان الوقت بوجود العم سام ان ندع عهد الدماء والحروب والصراعات والمظلم  ورائنا وان ننعم بفترة من الامن والاستقرار ، ومن اكثر حاجة الى الامن منّا ، نحن الشعب العراقي ؟  من احوجه اكثر منّا ونحن لم نذق طعمه منذ ان خلق الله اغلبنا على هذه الارض التي لم نشعر يوما انها تطعمنا من خيراتها الوفيرة ، او تشعرنا بالدفئ في حضنها كالأم ، أليس الوطن أم المواطن ؟
قلنا ان الخدمات الضرورية ، مثل الماء  والكهرباء والصحة والتعليم  والشوارع وحتى الحليب والشكولاتة لاطفالنا، لن تكون مشكلة لدولة عظمى او للدولة الاعظم .
تصورنا ، ان الحكومة العراقية التي سيشرف عليها ( الاصدقاء ) الامريكيون ، ستعطي لكل ذي حق حقه . لا يفكر وزرائها ومدرائها الا في مصلحة الشعب ، سيسهرون الليالي ولن يجدوا وقتا للهو، لا بل حتى لأداء حتى  فريضة الحج لكثرة انشغالهم بالتفكير في وضع خطط للترفيه عن الشعب والعمل من اجله، اليس العمل افضل العبادات ؟
تصورنا ان دول الجوار ستنكفأ على شؤونها ، وان هيبة امريكا ستردعها  حتى عن التفكير في ايذاء احد مواطنينا .
وقلنا ان الشخص المناسب سيجد مكانه المناسب في مؤسسات دولتنا الديمقراطية ، وان الحريات للجميع ستكون مشاعة برعاية امريكية مثل الهواء تماما . وقلنا لن يجرء احد في بلدنا من التعرض لابسط حق من حقوق الانسان . و و و
فما الذي حصل حتى نصفق لامريكا كلما شاهدنا او سمعنا انها تسارع في اخراج قواتها من بلدنا المسكين ؟
ما الذي حصل اذ  صعب علينا ان نقول لقواتها حتى كلمة وداع وهي تودعنا الى قدرنا المجهول ؟
ما حصل هو اننا فهمنا الحقيقة ولو بعد حين ، وعلمنا اننا كنا نعيش وهما ، ولمسنا عن قرب معاناة الشعوب في ظل الاحتلال الاجنبي .
كانت سياسة العهد الصدامي مبنية على التمايز العرقي والطائفي والحزبي ، وكان يدفن ابناء وبنات هذا البلد ، كما يدفن الناس الذباب والجراد ، ولكن كان الانسان العراقي في اكثر الاحيان يشعر بالامان ان لم يرتكب هو او احد اقربائه اي( خطأ) في قاموس الاخطاء التي ابتدعها النظام المقبور وعدّها جرائم، اما في ظل الاحتلال فقد فقدنا الشعور بالامان ، لم اسمع في عهد البعث ان قوة بعثية اطلقت النار على ركاب سيارة مدنية تجاوزت قافلتها العسكرية ، كما حصل ابان عهد الاحتلال . قتل النظام الصدامي الالاف من الابرياء وحتى الرضع والاطفال ، لكن لم اسمع عن القتل  للتسلية .
الذي حصل هو ، تضاعفت مشاكلنا الخدمية ، وتعاظمت الصراعات الطائفية والعرقية وسالت دماء غزيرة  ، وترملت مليون امرأة وثلاثة اضعاف هذا الرقم ايتام ، واصبحت دولتنا في مقدمة الدول الفاسدة او الدولة الاكثر فسادا ، واصبح سجلنا في حقوق الانسان مخجلا ، واصبحت الحرية تتكيف في العراق ( الامريكي ) وفق المقاسات التي جاء بها المليشيات الحزبية ، والديمقراطية انقلبت الى محاصصة ونسب وهبات بدعوى التوافق ، والشراكة الوطنية يراد منها تحويل الوطن الى شركة مساهمة .فأصبحنا نسمع عن اسلحة خردة وطائرات سكراب واجهزة لا تعمل وادوية فاسدة وزيت نافذ الصلاحية وحليب مسموم ، ومليارات عدا ونقدا مفقودة.

الذي حصل هو ان امريكا لم تدعنا نتفق على حل اية مشكلة بيننا ، واصبحت مرجعا لكل قوانا السياسية . اصبح الاقليم يعاند المركز والمركز يهدده ، والمحافظة تهمش القضاء والقضاء يريد ان ينفصل والناحية تعارض. ولم لا ، ألم يجعلوا من العراق يتوزع على زعامات وتيمارات .
 كتبت لنا دستورا فضفاضا متناقضا، لن نتفق في ظله ،نؤوله كما نشاء ونختار منه ما يناسبنا ، واوجدت لنا قواعدا في الحكم لم يسمع بها احد ، بددّت ثرواتنا او تسببت في تبديدها،ونصبت نفسها حكما لتوزيع المال العام على السياسيين بوفاق وتآلف، خلقت لنا جيشا ليس من مهامه التفكير في التخندق على الحدود ، وقضاءا يصعب القول ان جلّه  محايد كما كان معروفا عنه ، واوجد لنا برلمانا يتخذ قراراته المصيرية في غير جلسات الانعقاد ، انما في رواق وصالونات الرؤساء والزعماء  . برلمانا اعضائه ( جنود ) في سرية آمر الكتلة . اوجدت لنا مؤسسات يتوظف فيها الابناء والبنات وبني العمومة ، وغيرهم من يدفع أكثر .
 اصبحنا نرى اجوائنا تخترق كل يوم دون ان تخشى الطائرات المغيرة التي تلقي بحممها على اراضينا اسراب الفانتوم الرابضة عليها . تأتينا قذائف المدافع عابرة حدودنا دون ردع ، واصبحت اكثر  الدول ضعفا في المنطقة تقتص ارضنا وتطمع في المزيد منها وتقيم منشآت لاستفزازنا ، وفي العرف الامريكي لا زلنا نشكل تهديدا للسلم العالمي بدليل خضوعنا للبند السابع من ميثاق الامم المتحدة حتى الان ، في الوقت الذي ندفع تعويضا ظالما لاصغر جيراننا ، ويتسابق قادتنا او الكثيرين منهم لأستجداء هذه العاصمة الاقليمية او تلك .
مع ذلك يتحسر البعض على رحيل القوات الامريكية ، ويعرب عن خشيته من فقدان الامن ، وكأننا عشنا عهدا آمنا بوجودها .

* محام وكاتب من كردستان العراق