22 نوفمبر، 2024 7:48 م
Search
Close this search box.

صفحة من بطولات الهراكنة ( الاوباش )

صفحة من بطولات الهراكنة ( الاوباش )

الشهيد ظافر السلامي وابو شرارة وابو ناتاشا
هركي قاعدة للأنصار الشيوعين تتوسط المسافة بين قاعدة بهدنان ،التي تشكل قاعدة  مركزية لتهريب الرفاق والاسلحة من سوريا ،عبر الاراضي التركية الى كردستان العراق ومناطق سوران. قاعدة صغيرة تقع في المناطق التابعة للعمادية والمسؤولة لاحقا عن العمل الانصاري فيها. تشكل قاعدة هيركي محطة راحة للرفاق الذاهبين باتجاه مناطق سوران وهورمان او بالعكس للمفارز القادمة من هذه المناطق لحمل السلاح على الظهور من بهدنان الى سوران او هورمان في رحلة قد تمتد الى عدة اسابيع.

في شتاء 1981  تعرضت احدى المفارز القادمة من بهدنان الى هركي الى عاصفة ثلجية في قمم احد جبال المنطقة وحوصرت بين الحياة والموت. كانت المفرزة اصلا مجموعة من الانصار الجدد الملتحقين من الخارج والمنسبين لتعزيز قاعدة هركي ، التي لم يكن يتجاوز عددها 25 نصيراً. كان دليل المفرزة النصير البطل ابو شرارة ( غسان الدايني ). لم يكن ابي شرارة موافقاً على موصلة الطريق عبر القمة لتقديره بخطورة وسوء الاحوال الجوية، التي تعني في لغة اهالي المنطقة والانصار احتمال الموت انجماداً، خاصة حينما تتسع الامكانيات في ظروف كهذه لأن يفقد الادلاء دلالات طريقهم. لكن اصرار المستشار السياسي  للمفرزة والقاعدة لاحقا وهو كان من الملتحقين الجدد ( استشهد فيما بعد في أحداث بشتاشان وهو في ربيع عمره  وعطائه) على مواصلة السير، دفع  ابو شرارة على مواصلة السير. تحدى رفاق المفرزة وبدون استثناء وبأراده شيوعية عنفوان العاصفة الثلجية. لا أحد منا يعرف الا القليل عن حجم العذاب والالم والجوع والاصرار الجبار على مواصلة السير وتحدي الطبيعة الجبارة وثلج قمم جبال كردستان . يعرف كل  من مر بتلك الدروب ان دليل المفرزة الذي يتقدمها يفتح الطريق بخطواته الاولى بين طبقات الثلج الناعم والتي تكون كالقطن المندوف و يصل عمقها احيانا الى متر او اكثر. على اثر خطواته تسير بقية المفرزة كأنها الرتل التابع لمقدمته في حقل الالغام. هذا يعني ان الدليل او من يكون في مقدمة المفرزة يحتاج الى جهد مضاعف لشق طبقات الثلج المتراكمة بأقدامه وساقيه ووسط جسمه ان تطلب الامر. هو العرضة الاولى للإصابة بالانجماد وعلى قدراته تتوقف حياة المفرزة في معظم الاحيان.   كان ابو شرارة على استعداد للتضحية بحياته من اجل انقاذ المفرزة، وقد نجح في تحدي طغيان العاصفة والوصول بها الى احدى القرى. استشهد وبصمت الرفيق ( ظافر السلامي ) وكان لتوه قد التحق بالأنصار تاركا زوجة بعمر الورد وطفلا صغيراً. اصيبت قدما النصيرين ابي شرارة وابو ناتاشا بالانجماد. كانت ايام عصيبة وكنت شاهداً على بطولة ابي شرارة وابي ناتاشا وهما يتحدين الموت وامكانية بتر أقدامهم.

 

في ذلك الشتاء الثقيل، كان الانصار القليلو العدد المتوجودين في هيركي يمارسون حياتهم اليومية بكل روتينية ، خاصة ان الجيش العراقي كان منسحباً من المنطقة إلى جبهات القتال مع ايران، ولا توجد امكانيات لتقدمه او تقدم قوات الجحوش ،التي هي اصلا قليلة العدد نسبياً، مقارنة مع مناطق سوران. وصل الخبر بعد الظهر من قرى المنطقة بتعرض المفرزة للعاصفة الثلجية واستشهاد احد رفاقنا واصابة اخرين دون تفاصيل محددة وان المفرزة تتجه بمساعدة فلاحي القرى الى القاعدة. مع حلول المساء  بين الساعة الرابعة والخامسة وصلت المفرزة، يتقدمها بغلان كان اهالي القرى قد اعاروهما للمفرزة. الاول محمل بابي شرارة والثاني محمل بابي ناتاشا وبقية من انصار لا يتجاوز عددهم الثمانية ان لم اخطئ، مرهقة وخارجة من جحيم الموت. تقدم المفرزة صخب ابو شرارة الجميل. وبعض من كلماته الساخرة وبصوته العالي الذي اعتدناه بما لا يترك الشك بانه لم يكن مصابا.

 

ابو شرارة ( غسان الدايني ): شاب في مطلع العشرين من عمره. طالب ترك مقاعد الدراسة وهرب الى الخارج خلال حملة النظام الساقط ضد الشيوعين 1978. التحق في 1980بقوات الانصار الشيوعين. لامس بعض الصلع شيئا من شعره الاشقر، ذو بنية جسم طبيعية ولكنه ذو طاقة غير محدودة في العمل. يجمع بين ثناياه بين روح القرية والمدينة. له غرام بقراء المولد النبوي والادعية الصوفية ويحلو له في اوقات الاستراحة ان يقلد العميان وطريقة قراءتهم المولد النبوي ما فيها قلب بياض عينه كانه اعمى ويروي الكثير من خبايا حكاياتهم بما فيها شرب الخمور. خلف صخبه الجميل تسكن روح طفل برئ. لا يصعب ان تراه احيانا كثيرة منقطعاً متأملا كانه في خلوة صوفية. من مفارقات تلك الايام، كان ابو شرارة على مشاكسة يومية تقريبا مع النصير ابو بسيم وهو عامل تجاوز الخمسين من عمره، لكنه بحيوية الشباب وسابقاً في العمل. اكتشفنا لاحقا وبسبب وضعه الصحي، ان احدى عينيه  كانت زجاجية. الاثنان كانا من ديالى او مناطقها. لذلك حين يكون الجو رائقا بين الاثنين، يناديه ابو شرارة بـ(خالي)، مما ينعش مزاج ابو بسيم ويشعره بقوة سلطته المفترضة على ابي شرارة ذي المزاج العنيد احيانا.

لا ينجز عمل يومي بين الاثنين في هذه القاعدة الصغيرة حتى يعلو النقاش والعناد على احر من الجمر بين الاثنين. كان ابو بسيم شبيه ابي شرارة وربما أكثر بـ(حوصلته) الصغيرة. تدخل بعض الانصار في البداية لفك الاشتباك بين الاثنين ولكن الاثنين يكونان خارج اطار التغطية. مع الايام تعودنا الامر وكف الجميع عن التدخل بهذه الاشتباكات الكلامية، بل على العكس كان قسم منا ينتظرهما وربما يستمتع بها او يرمي الزيت علي نارها ليزيدها اشتعالا لما تحمله من روح الفكاهة. عندما نسمع وبصوت عالي كلمة (يا رفيق) مسبوقة بشرح ابي شرارة لوجهة نظره، هذا معناه أن  الاشتباك قد بدأ ويتجه الان نحو القمة. لم يتجاوز ابي شرارة يوما حدوده وحبه( لخاله) ابو بسيم وهذا من شيم اخلاقه، ولكن بعد ان نسمع وبصوت عالي كلمة  (يا خالي)، نعرف ان ابي شرارة فقد سلطة الاقناع ويتجه الان للترضية والمساومة. ومع انخفاض درجة الحرارة عند ابي بسيم، تكتسب كلمة يا خالي غنجاً وسينتهي الامر بضحكة ( داعرة) وحركة خبيثة من ابي شرارة. ونهايته قبلة من ابو بسيم لابي شرارة أو العكس، لكن هذا الامر لا يستبعد أن يفجر الوضع من جديد بعد دقائق قليلة.

 ابو ناتاشا: تعرفت عليه في بيروت في فترة اعدادي للدخول الى كردستان. اوربي الشكل. عيون زرقاء وشعر اشقر ولون حمصته الشمس.  في مقتبل الأربعينات. ياسرك هدوءه الوديع وتعليقاته المقتضبة. قليل الحديث، بطئ الحركة، يضفي على المكان دفئه ولن يتردد المقابل أن يمنحه ثقته. استغربت لاحقا حين عرفت انه كان ضابط احتياط خاض تجربة 8 شباط 1963. كنت معجباً بعالم رحلاته الى اروبا الغربية.     

 بقينا ننتظر ترجل ابو شرارة من البغل، فلم يفعل ولعلعة لسانه لا تتوقف كأنه في زفة عرس. اخيراً طلب المساعدة في انزاله، محذراً لنا بالرفق بقدميه لأنها مصابة. حملنا الاثنين الى القاعة الكبيرة وهى احدى القاعات الثلاثة للقاعدة. تحت ما بقى من ضوء المساء ونور الفانوس كشفنا عن قدمي الاثنين وهنا كانت الفاجعة. كانت أقدام أبي شرارة وأبي ناتاشا منتفخة. مملوءة بالسوائل وبعمق 3 الى 4 سم. لم يترك اللون الاسود او الازرق واطيافهم منطقة فارغة. اصابع القدمين لابي شرارة وكعبي قدمه كانت سوداء. الاحساس مفقود تماماً ويبدأ الشعور به بعد مفصل القدم. درجة حرارة القدم مرتفعة وهي امر بديهي لإصابة كهذه. لم يجرؤ أي منا ان يقدر مقدار العفن المنبعث من الاصابة وهو احد الاشارات المهمة للاصابة  بالغنغرينا، ربما خوفا ان نصدق ان الاصابة هي الغنغرينا، التي سيترتب عليها  سؤال ماذا سنفعل. 

 لم يكن الانصار قد تعرفوا بشكل جيد على الغنغرينا، الا سماعاً وحادثة واحدة في نهاية 1979 او بداية 1980، حيث تجمد قدما النصير ابو جاسم في مفرزتهم المتكونة من اثنين فقط، لتأمين المواد الغذائية من القرى الكردية التركية. كان ابو جاسم ( عربي من الموصل) والذي سبق ان انهى دراسة في السويد، قد تجمد في ثلج ذلك الشتاء الذي كان استثنائياً بقسوته وكمية الثلوج التي سقطت، الا ان الشهامة والروح الثورية للنصير خليل ابو شوارب ( كردي يزيدي )  الفارع الطول والذي كان يساعد ابو جاسم في الترجمة ومهمة تأمين المواد التموينية، أبت هذه الشهامة ان يترك رفيقه امام الموت المحتوم، فحمل رفيقه ساعات طويلة الى أن وصل به لإحدى القرى الكردية التركية حيث  تم اسعافه ونقله لاحقاً الى مقر القاعدة في بهدنان ليقوم الشهيد الدكتور عادل ( غسان عاكف حمودي ) باستئصال احد اصابع قدمه.

 اما هنا في قاعدة هيركي فأن الوضع مختلف. لم يكن في القاعدة طبيب. الدكتور سليم  وهو معاون طبي والمستشار السياسي للقاعدة كان في مفرزة للقاعدة المركزية ( بهدنان) والتي تبعد خمسة ايام مشياً. بسبب الثلج كان الطريق مسدوداً وتنعدم امكانية نقل المصابين الى بهدنان او الى سوران التي تبعد ايضا خمسة ايام مشياً. لا يوجد جهاز لاسلكي للاتصال مع القواعد الاخرى لطلب المساعدة. لم يكن في القاعدة حينها الا سبعة او ثمانية امبولات من المضاد الحيوي امبينسلين ولا اكثر من علبتين من الاسبيرين. ادوات الجراحة لا تتعدى علبة ادوات تشريح مدرسية وهي عبارة عن ثلاثة او اربع مقصات وابرة تخيط ومشرط وبعض الضمادات ومن حسن الحظ كان قسم مخصص للحروق. لا يوجد مطهر او معقم الا قنينة كحول صغيرة ولا وجود لأي مخدر او قفازات طبية او مستلزمات طبية أخرى. اما ( كادرنا الطبي ) اذا جاز التعبير فهو الفقيد ابو اثير الذي يمتلك خبرة للعمل في مذاخر الأدوية والصيدليات وهو خريج احدى الدورات الصحية في الستينات و كاتب المقالة والذي سبق له ان تدرب مع النصير ابي وحيدة في دورة للتمريض لمدة اسبوعين اقامها الدكتور عادل في منتصف 1980. اختار الشهيد الدكتور عادل ابو وحيدة باعتباره خريج معهد مهن صحية وانا باعتباري كنت طالباً في السنة الرابعة في قسم الانتاج الحيواني في كلية الزراعة في جامعة البصرة. عرفنا ان اصابة ابي شرارة هي الاقوى من خلال حديثه لأنه كان دليل المفرزة. في حقيقة الامر لم نكن نعرف باي درجة كانت اصابة ابي ناتاشا اقل أو هكذا افترضنا.  

 تركت القاعة مبتعدا وغرقت في نوبة من البكاء الحار خلف غرفة صغيرة للإدارة وخمنت ان عزرائيل يشتهي ان يحل ضيفاً علينا. جاءني ابو بدر ( القاص علي شبيب ). كان لأبي بدر هيبة بين الهراكنة. فهو العمود الثقافي للقاعدة ومركز ومنشط حياتها ونقاشاتها بين الهراكنة في كل المجالات. لم يرسم يومياً مسافة بينه وبين الانصار. كان وجهه محملا بكل تعابير الصداقة والمودة، لكن صوته كان حازم لم يترك لي مجال للمناورة او التراجع. ( هذا ليس وقت البكاء. تعال افحص اقدام الرفاق وابحث لنا عن حل). كنت مرعوبا، حتى في تجربة الاعتقالين والتي سبق ان تعرضت لها لم يداخلني هذا الرعب. حين استرجع تلك الايام يلامسني لحد الان شيء  من هذا الرعب.

 قررنا، الفقيد ابو اثير وانا ان نفتح الاقدام المتورمة ونزيل المناطق السوداء فقط ونقوم بتضميد الجروح. اتفقنا  ان يقوم ابو اثير بفتح قدمي ابي شرارة وان اقوم أنا بفتح قدمي ابي ناتاشا. بدأنا بابي شرارة بعد وضع الطشت تحت قدميه. ولسبب في ضعف نظر ابو اثير وارتجاف يديه بسبب العمر ووضعه الصحي وقلة الضوء قمت انا بالعمل تحت اشرافه، محاطاً بصمت الرفاق وانفاسهم المكتومة. فتحت باطن القدم من منتصفها تقريبا . سالت سوائل ودماء مختلطة ونزلت الانسجة على شكل خيوط وسلاسل غير منقطعة. كانت الانسجة والعضلات مهروسة. كنت اتصور ان نفخت عليها ظهرت عظام القدم. ازلنا ما استطعنا من المناطق السوداء فقط وحفظنا قدر الامكان على المناطق الاقل اصابة. واصل ابو اثير العمل في تضميد الاقدام بضمادات الحروق وانتقلت انا لمواصلة العمل على قدمي ابو ناتاشا. رغم شدة العمل وشدة اصابة عضلات القدم الا انه لم يكن هناك شعور بالألم عند الاثنين وهذا ما كان يربكني. زرق كل من الأثنين بجرعة من المضاد الحيوي وتركنا الاقدام مكشوفة مع عمل غطاء فوقي عليها. لم نرفع الاقدام الا قيلا حتى نضمن اندفاع الدم اليها، كذلك طلبنا بالحفاظ على درجة حرارة الغرفة بشكل مناسب. استخدام المسكنات ومراقبة الحرارة وغيرها من الاجراءات الوقائية. صباح اليوم الثاني تحرك النصير البطل توفيق ختاري ،الذي اصبح لاحقا احد قادة الانصار الشيوعيين في المنطقة على القرى الكردية التركية لإقناعهم  بمساعدتنا في شراء المضادات الحيوية من تركيا بعد ان زوده ابو اثير بقائمة ما يمكن شرائه.   في نفس اليوم ظهرت مشكلة اخرى. قرر ابو اثير ان يعطي كل من المصابين نصف جرعة من المضاد الحيوي حتى يستطيع ان يعطيهم اطول مدة ممكنة، لحد وصول المضادات الموعود بها من تركيا ولم نكن نعرف مدى جدية هذا الامر. كنت الى جانب ان نعطي جرعة كاملة كل يوم مما يقلل من امكانية حصول الالتهابات ،التي تشكل اساساً الخطر القادم على عملنا، هذا اذا كانت تصوراتنا صحيحة. امام اصراري التجأ الفقيد ابو اثير للقرار الحزبي من مسؤول القاعدة للاستمرار في تطبيق رأي ابو اثير والاستمرار في العمل وعليه اتفقنا ان يكون ابو اثير مسؤول عن تطورات وضع ابي شرارة واكون انا مسؤول عن تطورات وضع ابو ناتاشا. اتاح لي هذا الاتفاق أن اتعامل مع رعبي بشكل اخر، فقد كنت خائفاً من اصابة ابي شرارة وتحمل مسؤوليتها وبالذات امام الانصار. اية ايام سوداء ستنتظرني اذا تدهورت الحالة وانا لست على علاقة بالطب وغيرها من الاسئلة. كنا جميعاً وبدون استثناء ننتظر الاسوأ ونتوقعه وهو بتر الاقدام اذا استمر ظهور التعفن. لكن من يقوم بذلك وكيف وغيرها من الاسئلة العديدة والمخيفة لأنها تتعلق بحياة اخرين ظلت معلقة. الكل في القاعدة لم يجرؤ على التفكير بصوت عالٍ واختزل هذه الاسئلة بالصمت. كانت تلاحقني مشاهد من فلم شاهدته في سينما الوطني في البصرة وقبيل اختفائي بفترة قصيرة  لصياد تجمدت اقدامه في الثلج وقام بقطع احدى قدميه بالطبر. لم تكن تقلقنا حالة اليوم فقط فانه قد عدا ، لكن كيف ستتطور الحالة غدا وما ستحمله من مفاجئات. اذا كانت هذه عذاباتي وكذلك الاخرين فما هي عذابات ابي شرارة وابي ناتاشا. واجه الاثنان هذا العذاب كل بطريقته. ابو شرارة بروحه الصاخبة وغنائه وتشجيعه وابو ناتاشا بهدوئه وصمته وملامح وجهه الطيبة. اتاح لي الاتفاق الاخير ان اكتسب جراءة اكبر وامضي في معالجة الاثنين. بعد خمسة ايام او اسبوع وصلتنا كمية جيدة من المضاد الحيوي ( تتراسيكلين) بعد ان قام بشرائها لنا احد الفلاحين. بقينا في نفس الاتجاه في المعالجة دون ان نسأل انفسنا إن كنا ما نعمله صحيحاً ام خطئاً. أستمريت بين فترة وأخرى  وبمتوسط اسبوعين او اقل بقص المناطق السوداء المتيبسة والتي لا احساس فيها. كانت الاسابيع الثلاثة الاولى ايام جحيم. خاصة عند التضميد اليومي حيث تختلط عندي الصورة. هل ان عدم شعور الاثنين بالألم هو تحدي او فقدان للشعور بالألم وانا اعرف الروح المتحدية لأبي شرارة. كنت اضغط على بعض المناطق وكنت اتمنى ان يصرخ. فالألم هنا معناه ان المنطقة حية. خلال هذه الايام ارتفعت حرارة ابي شرارة بشكل عالٍ واعتقد اننا استخدمنا الضمادات الباردة ايضا. ثلاثة اشياء كانت سَندي. الاولى بطولة وشجاعة الاثنين. كانا يتحديان  كل الاحتمالات والآلام والعذاب بصمت وإرادة جبارة كأنهما ربطا كاتم صوت على انينهم وبالذات في ساعات الليل الطويل. الثاني النصير الجميل ابو قمر( ضياء خلوصي كان يعمل مراسل صحفي رياضي في الحلة). ابو قمر كما يعرفه الانصار انه شعبيي الشخصية وكم يتذكر الانصار ولحد الان قفشاته الجميلة والمضحكة. فهو يستطيع ان يتحدث ويناقش في اربعة مواضيع مختلفة في وقت واحد. ابو قمر يحول المستحيل الى ممكن من ابسط الاعمال كالطبخ الى اسقاط السلطة وبطريقة مميزة من الجد والسخرية وبالعكس اذا اراد ذلك. سريع البديهة وتعليقاته لاذعة لمن لا يدخل قلبه وعكسها صحيح. كان ابو قمر يحي الثقة والامل بكل تعليقاته اليومية وصورني (جراح ماهر). الثالثة هي الهراكنة الحلوين وبدون اي استثناء. المعروف في ظروف كهذه تكون ساحة لظهور التذمير والتشكيك والتعليقات وغيرها علانياً او سراً. اتفق الجميع وبشكل غير معلن على الصمت. استغرب ولحد الان، نحن الذين كنا  نتحدث بأدق التفاصيل حتى الشخصية. لم يسأل احد من الهراكنة الحلوين ماذا تفعلون ولم يشكك احد بما نفعل أو تَحمل مسؤولية ما نفعل وغيرها.

 

بعد شهر او شهر ونصف بدأت تظهر بعض العلامات الايجابية وبالذات في قدمي ابي ناتاشا. وبدأ لون الطبقات الخارجية يقل سوادها. كان هذا مبعث السرور للكل. لكم ان تتخيلوا عذابات هذه الفترة. بدأت هذه العلامات عند ابي شرارة تظهر كما اتذكر بعد شهرين او أكثر ولكن ايامنا اصبحت ربيعا بعد ان انتهى خطر الاصابة بالغنغرينا. بعد ثلاثة اشهر او اربعة، استطاع ابو ناتاشا أن يقف وبصعوبة على قدميه وبدأ الجلد بالظهور. ظل ابو شرارة لمدة ستة اشهر في فراشه يلعلع بصوته وسخريته واغانيه وحبه لكل رفاقه ومن سوء حظه انني في الكثير من الاحيان كنت اعثر بقدميه المصابة عند مروري جنبه مما يسبب له الكثير من الالم. بعد ستة اشهر استطاع الهراكنة  ( شحن)  ابي شرارة على البغل ( المسجل) الى قاعدة بهدنان. لحد فترة نقل ابو شرارة فأن الجلد النامي لم يكن يغطي الاقدام المصابة وبقيت فتحة في باطن  القدمين.  بعد اشهر عديدة عاد ابو ناتاشا الى وضعه الطبيعي واخذ كما يقال بالعراقية ( يطارد ) في مفارز الانصار الشيوعية البطلة. عند وصول ابي شرارة وفحصه من قبل الطبيب ( حقيقي) اعتقد الشهيد الدكتور ابو ظفر ( محمد بشيشي الظوالم ) الذي قام لاحقا بقطع نصف قدم وعدة اصابع من القدم الاخرى للنصير البطل ابي حازم ( حسين كزار) لأصابته بالغنغرينة. قال ابو ظفر لابي شرارة كما نقل لي لاحقا ( إحمد ربك يارفيق انه لم يكن عندكم في القاعدة طبيب. لو كان هناك طبيب لقطعت قدميك ). مازال ابي شرارة يعاني الالام في قدميه وظهره وصعوبة التوزان في الحركة بسب تحول باطن القدم الى مفلطحة ولكنه يفاخر كما عرفناه بما قدمه الى الشعب العراقي ولحزبه. في الثلج الذي يغطي شتائنا في بلدان اللجوء يتذكر الانصار وبالذات الهراهنة الاوباش شهيدهم الاول ظافر السلامي وبطولات والالام ابي شرارة التي ترافقه لحد الان. قبل عدة سنوات جاءني صوت ابي ناتاشا الوديع عبر التلفون  بعد ما يقارب من خمسة وعشرين سنة لم نلتقي فيها ليقول شكراً لك ايها الرفيق. لم اكتم بعض من دموعي شوقا لكل الذين احبتهم ورافقتهم امواتاً واحياءً.

 ………………………………………………………………………………………………….

* الهراكنة الاوباش: لقب اطلقتة مفارز سوران عند استراحتها في القاعدة لسبب معين يرتبط في طريقة استقبالهم وضيافتهم. في البداية تضايق الهراكنة من هذا الوصف، لكن مع الايام تعودوا علية واستطعموا سخريته وظلوا يستخدمونه مفاخرة وسخرية.

أحدث المقالات