يتندر البعض احيانا بالقول إن شيئا ما كان في الهواء أو في الماء، وأنا أقول نعم حدث هذا معي. هذا ما يقوله الزميل “سـعد زغيّر كاظم” في حديثه عن تلك الأيام من عام ١٩٧٠ والتي ترافقت مع اعادة تنظيم (هيئات) اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية بمحافظة الديوانية: نعم كان لهواء المدينة ومائها وأجواء البيت، لابل الأجواء اليسارية لمحلتنا الرائعة (الجديدة) والتي كانت تلقب ب (موسكو الصغرى) فعلها الساحر علينا نحن الشباب المندفع بالروح الوطنية الوثابة، متأثرين بعوائلنا وتأريخهم الوطني ، و مسيرة الشعب العراقي. ويبدو ان حالة النضج السياسي (كنتُ قد بلغتُ سن السادسة عشر) كانت من العوامل التي ساعدت ان التقي ومجموعة طيبة ونعقد العديد من الأجتماعات بغية تنضيج فكرة اعادة عمل اتحاد الطلبة العام في مدارس الديوانية، خاصة بعد أن تفرد (الأتحاد الوطني لطلبة العراق) بالساحة الطلابية، وعدم رغبة العديد من ابناء العوائل الوطنية الأنخراط في منظمة طلابية هي رديف لحزب البعث الحاكم، ويعود الفضل الى أخي الكبير (د.فريد) الذي كان طالبا في الكلية الطبية آنذاك، وزميله كريم جاسم حمادي، إذ اوجدا لنا تلك الصلة مع زملائنا في بغداد.
كانت الأنطلاقة من (اعدادية الديوانية) وأتذكر منهم ، يكمل الزميل “سعد”: مؤيد كريم، عماد كريم، يوسف محمد طه، بدر كاظم الجبوري، اسامة عبد الكريم وزملاء آخرين، حيث انصبت نشاطاتنا آنذاك على استقطاب الطلبة ذوي التوجهات الوطنية والديمقراطية. وأبرز ما كنا نقوم به كان اعادة استنساخ جريد الأتحاد (كفاح الطلبة) بأستخدام أوراق الكاربون وبخط اليد وتوزيعها على اوسع قطاع ممكن، وكانت ذكرى ١٤ نيسان عام ١٩٧١ اولى نشاطاتنا الكبرى، إذ قمنا بكتابة وتعليق نشرة حائطية في الأعدادية اضافة الى توزيع الحلوى (الجكليت) الذي كان يحتوي على الشعارات الوطنية للأتحاد، وكان هذا تقليداً درج عليه الزملاء الذين حرموا من النشاطات العلنية
والأحتفال بذكرى مناسبة اجتماع ساحة السباع في ١٤ نيسان ١٩٤٨.
لم تمض تلك الفعاليات دون التفاتة اعضاء(الأتحاد الوطني) الذين حاولوا استدعاء وأستفزاز العديد من الزملاء، لكن ظروف البلد والحوارات السياسية التي كانت جارية هي التي (ربما) حالت دون القيام بحملات قمعية ضدنا.
استمرت نشاطات هيئاتنا الأتحادية، وإزداد عدد اعضائها وشاركتنا اعدادية زراعة الديوانية وأعداديات اخرى، حيث كانت نشاطاتنا مستمرة في الفصل الدراسي و حتى في العطلة الصيفية، إذ كنا غالبا ما نقوم بعمل الحفلات والسفرات الشبابية ، ونعيد اكتشاف الطاقات الشابة، ونعزز العلاقات الأنسانية بين الشابات والشباب، هذا اضافة الى التثقيف بالمثل الوطنية والمواقف الأنسانية، والدعوة للتفوق الدراسي وأحترام الأنظمة.
على إن عملنا المهني الآخر كان ينصب في اثناء اجتماعات الهيئة التدريسية مع الطلبة، أو بالعلاقة مع إدارة المدرسة في التخفيف من اي احتقان بين الطلاب والمدرسين، او لرفع مستوى التعليم في الأعدادية، والضغط لملء الشواغر في الدروس والمدرسين، وكانت النتائج مشجعة معظم الأحيان.
قبل انهائي الأعدادية، يكمل الزميل “سعد زغير كاظم” حديثه: انتقلت العائلة الى بغداد وتحولت دراستي الى (اعدادية الأمين) وعملت آنذاك في الهيئة الطلابية القيادية لثانويات الكرخ ومعاهد بغداد، وكانت تلك واحدة من أثمن الفرص في التعرف على خيرة الكوادر الطلابية التي كان لي شرف العمل معها وأذكر منهم: الشهداء (خالد متي ـ منعم ثاني ـ باسم ـ لطيف كاظم) سعدي، حسن أبوذر. لقد كان عملنا كبيرا وإلتزاماتنا عالية في تغطية هذا العدد الكبير من المدارس والمعاهد، لكن وللأسف مضت الأيام لتصبح المنظمات الديمقراطية (اتحاد الطلبة، اتحاد الشبيبة ورابطة المرأة) ورقة ضغط ومساومة لما كان حزب البعث يضمره من نيات سوداء انطلت على الكثيرين، فدفعنا ثمنها غاليا. فكان قرار (تجميد) العمل في المنظمات الديمقراطية واحدا من أسوأ القرارات التي مرت ومررت على تلك الجموع الطلابية والشبابية والنسوية المتطلعة للدولة المدنية الديمقراطية الجديدة.
نعم لقد خسرنا الكثير في تلك الأيام، وكانت خسارتنا أكبر حينما فرغت الساحة لمنظمات حزب البعث، الطلبة والشباب والمرأة، وباقي القصة معروفة لدى الكثيرين.
إن الوقوف امام تلك التجارب والخروج بالدروس منها، آمل ان يمنحنا الحصانة والرؤيا لتجنب تكرارها ، ودفع اثمانها غاليا، ولعل غياب القوانين المنظمة للعمل السياسي، وحرية الأحزاب والصحافة، وقوانين انشاء الأندية والتنظيمات المهنية هي التي أدت الى تلك الكوارث، إذ جعلت تلك التنظيمات رديفة للأحزاب، وهذا ما استغله البعث حينما حوّل منظماته (المهنية) الى اوكار تجسس ومراكز تحقيق وأعتقال وأرهاب للطلبة والمدرسين . إن الدرس واضح للعيان، فالبلد الذي ينشد التطور، يحتاج الى تنظيم اعماله بقوانين مدروسة لا بسلطة الميليشيات او التخويف والتخوين.
امنياتي للحركة الطلابية والشبابية خاصة ونحن على ابواب الأحتفال بالذكرى ـ ٦٧ ـ لأجتماع “ساحة السباع”: أن تثبت هذه الحركة حضورها حتى في ظل هذه الفوضى السياسية والوضع المعقد. فالشباب والطلبة بحاجة الى المنظمات التي تحمل لهم الأمل والمستقبل، المنظمات التي تساوي بين كل العراقيين وتتطلع لدولة العدالة والفرص المتساوية، وتؤسس لأرضية مواجهة تلك العقليات التي تؤمن بالعنف وتفريق الصف الوطني، او في تغليب القيم والأفكار الغيبية التي تدعو الى الغاء العقل والعلم. ويقينا إن املنا يتجدد من خلال طلبتنا وشبيبتنا بالدولة المدنية العلمانية، وبالقيادات الوطنية المخلصة لشعبها قبل اي شئ آخر.
الزميل سعد زغيّر كاظم من مواليد الديوانية عام ١٩٥٤، منطقة (الجديدة) درس الأبتدائية في مدرسة التهذيب، المتوسطة في العروبة والثانوية في اعدادية الديوانية والأمين في بغداد.تخرج من كلية الزراعة عام ١٩٧٨، غادر العراق الى الكويت بعد اشتداد الهجمة البعثية على الوطنيين والديمقراطيين عام ١٩٧٩، ثم هاجر الى كندا عام ١٩٨٦، وبعدها الى الولايات المتحدة عام ١٩٩٩ ومنذ تلك الفترة مقيم في مدينة ديترويت. له ولدان نورس ونبراس، وبنت واحدة ساندرا. في كل محطات الهجرة كان نشطا في العمل الوطني، وكان له حضوره في الدفاع عن الشعب العراقي وفي محاربة
النظام الدكتاتوري، او نظام المحاصصة الطائفية ويعمل من اجل اقامة الدولة المدنية العلمانية، أمل العراق والعراقيين للخروج من هذا النفق المظلم، نحو الأمل والحياة والمستقبل.