23 ديسمبر، 2024 2:14 م

صعوبات البحث في الظواهر النفسية ومخاطر البساطة في تعميم النتائج على الشعوب !!

صعوبات البحث في الظواهر النفسية ومخاطر البساطة في تعميم النتائج على الشعوب !!

” كل تعميم هو خطأ بما فيه هذا التعميم “
                                     مثل انكليزي
يشعر الإنسان بالامتعاض ومشاعر النشاز وهو يقرأ الكثير من الإحكام الجاهزة أو التعميمات البسيطة التي تطلق بحق شعوب وأمم وأثنيات وكأنها أحكام منتهية بل وقوانين على نسق القوانين الطبيعية التي تجري في العلوم الطبيعية, كالكيمياء والفيزياء وعلم الإحياء وغيرها, ويكون وقعها اشد ألما عندما تصدر من المشتغلين بالبحث العلمي والطموحين لمعرفة السلوك الإنساني وآلياته ومن ثم التحكم فيه, وهكذا تعميمات بسيطة لا تمت بصلة لمنهجية البحث العلمي وخاصة في العلوم الإنسانية, حيث ترجعنا في قراءتها إلى قرون سلفت حيث الأبيض أنقى من الأسود, والأول أكثر ذكاء من الثاني, والعرق الآري أنقى الأعراق وأكثرها مقدرة عقلية, ثم الأوروبي أفضل شعوب الأرض, والأسيوي أحسن أداء وفكرا من الإفريقي, وهكذا إلى أن نصل إلى قراءة مشوهة في المجتمع الواحد, حيث العربي في مجتمع تعددي القوميات أفضل من الكردي أو بالعكس, أو من الآخرين من الأقليات, ويمتد ذلك الخطر إلى الأديان, حيث المسلم أنقى وأفضل من المسيحي أو بالعكس, وكذلك الحال وبالتبادل مع مختلف الأديان والمذاهب, ثم تضيق دائرة الكراهية شيء فشيء لتصل بنا إلى دوائر التفضيل المبتذل بين محافظات البلد الواحد بجنوبه وشماله وبين عاصمته وأطرافه, ثم الانسياق إلى التقوقع والكراهية بين أبناء المحافظة الواحدة على أساس الشارع والزقاق والمحلة, وهكذا إلى البيت الواحد بين الإخوة والأخوات, وهي سلوكيات يؤطرها غياب الانتماء الصحيح إلى الوطن والأمة والأسرة, وخاصة في ظل الأزمات الكبرى حيث تصدع المنظومة القيمية والأخلاقية والثقافية !!!!.

في علم النفس كما هي الحال في بقية العلوم الإنسانية هناك صعوبات جدية في المنهج واستخلاص النتائج وخاصة في الأبحاث ذات الطابع المجتمعي التي تتجاوز دراسة الفرد الواحد وسلوكياته, وصولا إلى أحكام عامة وخلاصات بصدد مجتمع بكامله, بمعنى آخر كيف لنا أن نطلق على مجتمع بكامله انه مجتمع دموي أو مجتمع قتل, أو مجتمع يحب الرقص والطرب, أو مجتمع منافق ودجال متحايل, أو مجتمع كسالى اتكالي لا يرغبوا التغير, أو مجتمع استحواذي مستعمر عندما تسنح له الفرصة, أو مجتمع متدين لا يرغب غير الدين والعيش في كنفه, أو مجتمع تجارة وأفراده مغرمين في ممارسة العمل التجاري والاستحواذ على المال وبكل الوسائل الممكنة, أو مجتمع خانع للحاكم لا يرغب في تغيره مهما بلغت حدة القمع والجور, وهكذا نضفي على الشعوب والمجتمعات الكثير من الصفات وخاصة السلبية دون العودة إلى ظروف نشأتها الأولى والملابسات التاريخية المسببة لها, ونكون قد حكمنا عليها سلفا بالموت دون دراستها كظاهرة اجتماعية نفسية تاريخية, لها جذورها وأبعادها وهناك سبل للخلاص !!!!.

أن الظواهر النفس اجتماعية هي ظواهر معقدة من حيث طبيعتها وتتشابك عوامل لا حصر لها في صياغتها, من عوامل ذاتية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتاريخية وفلسفية وسياسية ماضية وحاضرة, وبالتالي فأن قياسها يستدعي من الباحث أن يكون على قدر من المهارة الميدانية والتمرس في البحث العلمي وعلى قدر كبير من الموضوعية العلمية قد تكون غير لازمة في أبحاث العلوم الطبيعية, لأن خطورة نتائج الأبحاث السايكو اجتماعية تمس الفرد والمجتمع وكيانهما الذاتي, وبالتالي فأن تعميمها هو مسؤولية ليست علمية بالدرجة الأولى بل هي مسؤولية أخلاقية, وبالتالي فأن نزاهة الباحث وعدم تأثره بأحداث اللحظة الآنية في تحليل الظواهر يعتبر صمام الأمان في الوصول إلى نتائج على قدر من الموضوعية !!!.

وتتأثر عموما نتائج الأبحاث النفسية والاجتماعية بكثير من العوامل التي تخل بمصداقية النتائج, منها انحياز الباحث لوجهة نظر فكرية أو سياسية مما تجعله يعمل جاهدا لتوجيه بحثه بما يخدم وجهة نظره, إيمان الباحث بوجهة نظر مدرسة فكرية سيكولوجية واجتماعية معينة مما تجعله منحازا أصلا قبل بداية البحث, ضعف القدرة على ضبط المتغيرات التي تؤثر أو لا تؤثر على الظاهرة قيد الدراسة, سرعة تغير الظواهر الاجتماعية والنفسية بالظروف المحيطة مما يصعب تعميم النتائج, افتقار المكتبات العلمية للمراجع والتقنيات اللازمة لإجراء البحوث, تزييف الإجابات لرغبة سواء لدى المفحوص أو الباحث, عدم إتباع إجراءات البحث بدقة, أخطاء مقصودة وغير مقصودة في التحليلات الإحصائية, تزوير البيانات وأخطاء في التطبيق, مشكلات في أدوات القياس والتحيز, صعوبة الضبط والتحكم في الصفات البشرية, الطبيعة المجردة لبعض المفاهيم الاجتماعية والنفسية مما يصعب قياسها, المشكلة الأساسية في موضوع البحث هو الإنسان نفسه بكل ما يحمله من ميول واتجاهات ايجابية وسلبية اتجاه مشكلة محددة, الدقة في بناء أداة البحث ومدى صدقها في الكشف عن السلوك المقاس, تداخل الظواهر السلوكية والاجتماعية مع بعضها البعض, بعض الأعراف والتقاليد التي تواجه كل من الباحث والمبحوث, صعوبة تطبيق بعض التقنيات مثل مراقبة السلوك كما يحصل بتلقائية أو صعوبة إجراء بعض المقابلات الضرورية للمفحوصين, الصعوبات الثقافية المتعلقة بالمبحوثين وعدم استجابتهم بسهولة لإجراءات البحث وكذلك الفروق الثقافية بين الباحث والمفحوص !!!!.

هذه هي ملاحظات سريعة أردت بها أثارة مخاطر إطلاق الإحكام الجاهزة على شعوب تعرضت إلى انتكاسات تاريخية وبالتالي إلى ردة قيمية وأخلاقية, وهي وليدة تلك المحطات التاريخية السوداء من حياتها, ويمكن لثورات العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية والتقدم أن تؤسس لمنظومة أخلاقية اجتماعية ثقافية بديلة قادرة على قلب المفاهيم السائدة إلى حالة مصالحة مع الذات الفردية والمجتمعية بعيدا عن التأسيس لمزاج البغضاء وتكريس عدم المساواة بالاستخدام المشوه للعلم وتقنياته !!!!.