23 ديسمبر، 2024 1:00 ص

كان صوت القطار الجميل يخترق الحقول والوديان والمساحات الممتدة على طول البصر. جلستُ عند النافذة أتطلع الى المساحات الخضراء الساحرة. كان الطريق طويلا في إحدى مناطق الدانمارك الجميلة . كل شيء جميل في تلك اللحظة. بين الحين وألآخر أقرص يدي كي أتأكد أنني أعيش في واقع وليس حلم جميل من أحلام الشباب التي تركتها كلها هناك في بلدي الذي يحتظر كل ليلة وكل نهار. قررتُ أن أترك بلدي الى ألأبد لأنني شعرتُ أنه يلفظني الى ألأبد كقطعة من قماش لم تعد لها فائدة في فناء الدار.قررت أن أجوب العالم – كل العالم- بتلك النقود التي جمعتها طيلة خمسون عاماً من عمل شاق لايعرف معنى الهدوء لحظة واحدة.  لأول مرة أشعر في حياتي أنني وحيد في هذا العالم. لم يعد هناك أطفال ولا أبناء كنا قد تعذبنا في تربيتهم في حياة قاسية لم يعد لهم وجود سوى ذكريات ودموع لاتنتهي. ذهبوا جميعاً الى مناطق لاأعرفها ..كل شخص فرح بما لديه حتى شريكة حياتي لم يعد لها وجود.  مؤلم أن يشعر ألأنسان أنه يحتظر لوحده بعد أن أفنى شبابه في خدمة ألآخرين. قررت الضياع لوحدي كي لا أجلب تعاسة لأخرين ربما يهمهم أمري دون أن أدري. تسللتُ في جنح الليل بلا رفيق بلا صديق بلا قريب وسافرتُ في طريق مجهول. قذفني القدر الى هذا القطار بعد معاناة كثيرة. لم أكن مهاجراً أجوب البحار بلا شرعية أنشد حلماً ليس له وجود كما فعل بعض شباب بلدي..لا..لا…كل أوراقي سليمة وسافرت من وسيلة الى أخرى محترم بسبب أوراقي الرسمية التي تُعلن لكل من يراها أنني سائح نحو العالم أبحث عن متعة الروح وليس الجسد. كانت هناك مقاعد خالية قربي وكأن الناس رفضوا أن يسافروا في هذا القطار الساحر الجميل. وضعتُ السماعة الصغيرة في أذنيَّ وأغمضت عيناي لأذوب مع موسيقتي المفضلة . كانت هناك صور كثيرة تتصارع في ذاكرتي تنطلق مع الموسيقى. بعد فترة وجيزة سمعت أحدهم – يتنحنح- وكأنه يريد أن يجعلني أنتبه لوجوده. 

   وقف شاب وسيم جدا مع فتاة رائعة وطفل صغير يقف الى جانب والدته يتطلع اليَّ بذهول وربما إحتقار. إستاذن مني الشاب للجلوس في المقعد المقابل له وجلست زوجته الى جانبه. كان هناك مقعد الى جانبي ظل شاغراً. حاولتُ تجاهل تلك العائلة الجميلة وبقيتُ أنظر الى المساحات الخضراء  إلا أن صوت الفتاة أيقظني من سباتي السرابي البعيد. راحت تتذمر من أنها حاولت أن تقنعها  بتغيير مقعدها والمجيء الى كابينه أخرى إلا أنها سمحت لهم بتغيير مقاعدهم وقررت أن تبقى جالسنة في مكانها لحين إنتهاء السفرة. نقاش طويل ظل يحتدم بين الشاب والفتاة . حاولت التدخل في الموضوع إلا أن نفوري من كل العلاقات الأجتماعية جعلني أتراجع في اللحظة ألأخيرة . بعد دقائق معدودة جاءت إمرأة ..نهض الشاب يحاول أن يقدم لها كل أنواع ألأحترام الكبير. إستاذن مني أن تجلس في المقعد القريب من مكان جلوسي. أشرت له بالموافقة وكأن ألأمر لايعنيني .  جلست السيدة وهي تطلق زفيرة كبيرة وهي تحاول أن تضع اللوم على ولدها لأنه أصر على ترك وطنه والسفر الى أقصى منطقة في العالم. راحت تتحدث عن حب الوطن وعذاب السفر. لم أدقق النظر في وجه تلك السيدة إلا أن صوتها كان يرن في أذني يجعلني أرتجف لكل كلمة تقولها. غريب جدا..هذا الصوت ربما سمعته في مكان ما يوما. وضعت نظراتي السوداء وتظاهرت بالنوم. أردت ألأنتباه جيدا الى كل نبرة من نبرات ذلك الصوت الجميل . حاولت الفتاة أن تهمس في أذن السيدة أن تتوقف عن الكلام لأن الرجل الجالس قربها يبدو عليه التعب ويريد أن ينام . كانت السيدة مرحة جدا وراحت تتحدث بطريقة هامسه ” ..ولماذا ينام ويترك مشاهدة تلك المناظر الخلابة..يبدو أنه سأم الحياة برمتها ويريد أن يهرب الى عالم بعيد ..” وراحت تضحك بصوت متقطع خافت. راح الشاب يحاول أن يسكتها قليلاً كي لاتسبب للجالس قربها نوعا من المضايقة وراح يؤكد لها أن هذا البلد يختلف كثيراً في تقاليده عن البلد الذي هربوا منه. أيقنت مئة في المئة أن صوت السيدة هو نفس صوتها – الفتاة التي تركتني قبل أكثر من أربعين سنة وتزوجت ضابطاً في الجيش العراقي. وضعتُ نظارتي على المنضدة القرية مني وسألت الشاب بكل هدوء ” ..هل هذه زوجتك وهذا طفلك؟” إنتبهوا جميعاً لسؤالي. أكد لي بألأيجاب وأن هذه السيدة هي والدته. كان قلبي لايتحمل ألأنتظار لقول أي شيء لكنني ضبطتُ أعصابي التي كانت على وشك ألأنهيار. ” .. هل تزوجت أم ولدك عن حب أم زواج تقليدي؟” إنتبهت السيدة لسؤالي وكذلك الفتاة. أكد لي أنه كان يحبها من أيام الجامعة وقرر الزواج منها بعد التخرج. ” قلتُ له ” .. أنت محظوظ حقاً ..ليس مثلي..تركتني الفتاة التي عشقتها بكل صدق وراحت لترتبط بشخص آخر أغنى مني..كانت خائنة لكل عشقي لها. تمنيت لها الموت عدة مرات لكنني تراجعت في اللحظات ألأخيرة وتمنيت لها السعادة.. هي لاتستحقني لأنها لم تقدر صدق عشقي لها. كانت قاسية جدا معي مع العلم أنها أكدت لي عشرات المرات أنها لن تتخلى عني. كانت رائعة وكانت وكانت وكانت..أشياء كثيرة. كانت تمازحني وتقول لي بين الحين وألآخر أنني أجمل منها…هل تصدق هذا ؟ هل يمكن أن يكون الفتى أجمل من الفتاة ؟ لايمكن أن يكون هذا؟ ” . كانوا جميعاً مرتبكين لكلامي وكانت زوجته تذرف دموعاً . عرفتُ أنها تأثرت لحالتي. نهضت من مكاني وأنا أحمل حقيبتي الصغيرة الوحيدة لأخرج من تلك المقصورة. توقفت ونظرت الى الشاب وقلت ” ..قبل أن أذهب..هل أستطيع أن أسالك سؤال واحد وتجيبني عليه بصراحة؟” . نهض الشاب وأقسم لي أن يكون صريحاً ” ..نعم ..تفضل” . نظرتُ في عينيه لحظات تذكرتُ فيها كل حياتي الماضية . ” ..أنت نوار أليس كذلك وأمك إسمها فوزية؟” راح الشاب يرتعش وهو يقول ” ..نعم..كيف عرفت إسمي؟ ” خرجت من المقصورة مسرعا وأنا اذرف دموعاً بصمت. جلست في آخر مقصورة في ذلك القطار وحيداً. بعد ربع ساعة جاءت السيدة وجلست قربي وفي يدها سيكارة مارلبورو وقالت ” ..هل يمكن أن تولع لي هذه السيكارة؟” في اللحظة التي راحت تنفث فيها سيكارتها أخرجت ألبوم صور صغير وضربتي به وهي تقول ” ..خذ ..هذا تاريخي كله معك…….” .