18 ديسمبر، 2024 11:57 م

صراع دموي بالوكالة

صراع دموي بالوكالة

في ظني أن قلة من العراقيين صدّقت حكاية السيد نوري المالكي عن تورط السيد طارق الهاشمي بعمليات تفجير وقتل طائفي , ذلك أن للسيد المالكي سجل حافل بالكذب والتبجح و تشويه الحقائق , فضلا عن أن سيرة القضاء العراقي ممثلا برئيس مجلسه الأعلى السيد مدحت المحمود , تصمه بكونه أداة بيد رئيس الوزراء يحرّكها كيف يشاء , فعلى سبيل المثال , لازالت حيّة ذكرى تلك الفتوى القضائية المعيبة التي أصدرها السيد المحمود عقب الانتخابات النيابية الأخيرة , والتي حرمت القائمة الفائزة من حقها الانتخابي , وقدمت رئاسة الوزارة للسيد المالكي على طبق من التكييفات القانونية الملتوية , وسيحفظ تاريخ القضاء أيضاً للسيد المحمود انصياعه لأوامر المالكي بتنحية القاضي عبد الله العامري عن منصة المحكمة الجنائية العليا التي كان يقف أمامها الرئيس صدام حسين – رحمه الله – لأن ذلك القاضي الشجاع كان مؤدباً ومنصفاً في خطابه مع المتهمين .                                                                                         
كان يُفترض أن يتولى متحدث قضائي توجيه تهم على هذه الدرجة من الخطورة لمسؤول حكومي يشغل مثل هذا المنصب الرفيع , ولكن الذي حدث أن ضابط شرطة وقف أمام الصحافة رافعاً ورقة تتضمن أمراً موقعاً من خمسة قضاة باعتقال نائب رئيس الجمهورية , والغريب أنه سُمح بعدها للسيد الهاشمي بمغادرة بغداد ؛ ثم تولى السيد المالكي تفصيل الحكاية في مؤتمر صحفي كان فضيحة بكل المعايير , فقد زعم رئيس الوزراء أن فرداً من حماية الهاشمي قد أكله الندم وأرّقه عذاب الضمير , بادر الى الاتصال بالجهات الأمنية للاعتراف أمامها بتحريض الهاشمي له ولآخرين من عناصر حمايته , على ارتكاب جرائم قتل طائفي وتفجير في تجمعات مدنية , بعد أن زودهم بمسدسات كاتمة للصوت وبعبوات ناسفة , وكافأهم بثلاثة آلاف دولار عن كل عملية , مشفوعة بكتاب شكر ! وقد بلغ عذاب الضمير بالرجل الى حدّ الرجاء ببث اعترافاته على التلفزيون , فاستجاب المالكي كريماً لرجائه !                                                    
يريد السيد المالكي أن نصدّق أن ضابطاً سابقاً , وأمين عام سابق لحزب  , و نائب رئيس جمهورية , تصل به الحماقة الى إعطاء دليل مكتوب على نفسه بالتحريض على القتل وتمويله ؛  ثم بلغت الفكاهة في حكاية المالكي ذروتها عندما ذكر أن الضابط المكلف باعتقال الهاشمي قد تردد في تنفيذ الأمر , فما كان من القاضي ألا أن هدده بالسجن , وختم المالكي بلهجة مسرحية : هذا هو القضاء العراقي !
في مواجهة مثل هذه الثرثرة غير المسؤولة , ترد الى الذهن أسئلة تتطلب ردوداً من السيد المالكي ومن قضائه المستقل :
– لماذا يؤخذ الهاشمي بجريمة ما زالت قيد التحقيق , ولا يؤخذ – على سبيل المثال – السيد مقتدى الصدر بجريمة قتل السيد عبد المجيد الخوئي ورفاقه , وهي جريمة مكتملة الأركان , فيها جثث الضحايا , وفيها عشرات شهود العيان , وفيها المدّعون بالحق الشخصي وبالحق العام , وفيها أسلحة الجريمة , وفيها فوق ذلك كله مذكرة قضائية بالقبض عليه ؟
– لماذا يُطلب من الأكراد تسليم الهاشمي – وهو بريء حتى تثبت إدانته – ولا يُطلب من ايران تسليم الجلاد أبي درع القيادي في جيش المهدي , وهو مطلوب للقضاء بتهمة قتل آلاف العراقيين بسبب انتمائهم الطائفي والديني ؟             
– لماذا لا يلاحق القضاء العراقي قتلة وكيل وزارة الصحة عمار الصفار , وبعضهم معروفون بالاسم , فأحدهم عضو في مجلس النواب , والآخر مفتش عام وزارة الصحة ؟                                                                       
– لماذا لم يتحرك القضاء لملاحقة عضو حزب الدعوة الهارب الى ايران السيد جمال جعفر الذي دبّر جريمة تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981 فقتل أربعين عراقياً من نساء ورجال , فيهم البعثي وغير البعثي , بعضهم كان يؤدي عمله في السفارة , ومعظمهم كان مواطنون عراقيون يراجعون سفارتهم ؟  
– لماذا صمت القضاء عن مسؤولين حكوميين وأعضاء في مجلس النواب , مارسوا أعمال التعذيب والقتل ضد أسرى الجيش العراقي في معسكرات الاعتقال الايرانية , وهي من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم ؟
– لماذا تغاضى القضاء عن جرائم قتل مئات الأبرياء التي ارتكبها عدنان الدليمي وأولاده ؟  وكيف اطمأن الضمير القضائي للتغاضي عن مجازرهم المروعة تسهيلا لصفقة سياسية كان حزب الدعوة أحد أطرافها ؟
وإذا افترضنا أن السيد الهاشمي قد تورط بهذه الجرائم , فإن السيد المالكي هو آخر من يحق له محاسبته عليها , فتاريخه وتاريخ حزب الدعوة حافل بجرائم قتل عشوائي للعراقيين , شهدت عليها مدن لبنان والكويت والعراق .
قد يكون السيد طارق الهاشمي بريئاً من التهم التي ساقها ضده السيد المالكي وحزبه , لكنه بالتأكيد يتحمل نصيبه من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن دمار العراق , وعن دماء عشرات الألوف من العراقيين الذين قضوا سواء برصاص المحتل الأميركي , أو نتيجة إجرام فرق الموت الطائفية , فالرجل انخرط منذ اليوم الأول الذي ظهر فيه على المسرح السياسي بالمشروع الطائفي الذي أقام ركائزه الاحتلال الأميركي , وقد روى السفير الأميركي في العراق أن الهاشمي عاتبه مطلع الشهر الجاري لأن القوات الأميركية سوف تنسحب من العراق وتتركه للشيعة ولايران , وفي ظني أن تسريب هذا الحديث لم يكن فلتة لسان من السفير , لكنه أراد أن يصبّ مزيداً من الوقود على الجمر الطائفي الكامن تحت الرماد ؛ لقد أجرم الهاشمي بحق العراق يوم انتمى الى حركة الاخوان المسلمين صنيعة الاستعمار البريطاني , وأيضاً يوم شارك بالعملية السياسية واضعاً إحدى يديه بيد قاتل على شاكلة عدنان الدليمي , ويده الأخرى بيد وصولي مرتزق مثل صالح المطلك ؛ لقد مثّل الهاشمي دور نائب رئيس جمهورية وهو يعلم قبل غيره أنه ورئيسه مجرد واجهة لنظام هجين يمسك بقراره آخرون لا شأن لهم بمصالح العراق , وقد صدّق بأنه أحد الممسكين بصولجان السلطة , ولكن سرعان ما تبين خواء سلطته عندما أوقفه شرطي عند باب الطائرة فيما كان يهم بمغادرة بغداد ؛ ولقد غرف الهاشمي من المال العام أموالا طائلة في الوقت الذي يعاني فيه ملايين العراقيين الفقر وشظف العيش ؛ كذلك وجد الهاشمي نفسه و بسبب الاستقطابات الطائفية , محكوماً بعلاقات تبعية لدول تغذي الفتنة الطائفية مثل قطر والسعودية وتركيا , وهنا تحديداً يكمن السرّ الذي يتابع العراقيون تداعياته دون أن يقدر كثيرون منهم على تفسير أسبابها ؛ إن أطراف السلطة العراقية لا تتقاتل فيما بينها اليوم من أجل قضية عراقية , وإنما هو صراع تخوضه وكالة عن سادتها الاقليميين , فالإسلام السياسي الشيعي ينوب في هذا الصراع عن ايران , والاسلام السياسي السني ينوب فيه عن السعودية وقطر و حكومة أردوغان , فضلا عن كون تركيا عضواً في حلف الأطلسي الصديق الجديد لحركة الاخوان المسلمين .          
يرى بعضهم أن ما يجري في الوطن العربي , هو إحياء لاتفاقية سايكس – بيكو التي اقتسمت بموجبها فرنسا وانكلترا الوطن العربي بعد انهيار الامبراطورية العثمانية عام 1918 ؛ وفي ظني أن ما يجري في الوطن العربي اليوم هو تحديث لاتفاقية ” يالطا ” التي عقدها الحلفاء عقب انتصارهم في الحرب العالمية الثانية , واقتسموا فيها العالم الثالث وأوروبا الشرقية ؛ ولكن عقب انهيار الاتحاد السوفييتي – أحد أطراف اتفاقية يالطا – و بروزالدور المحوري للبترول في الحرب والسلم العالميين , وبسبب التدهور الخطير في اقتصادات الغرب ,  فقد قرر حلف الأطلسي – متحالفاً مع اسرائيل هذه المرة – امتطاء حكام الخليج العربي يقودهم شيخ قطر , و إعادة توزيع نفوذ دوله في العالم العربي عبر توريطه بحرب طائفية قطبا الرحى فيها تركيا ودول الخليج العربي معاً في مواجهة ايران , ويكون العراق ولبنان مسرحها الكبير , ودلائل هذا المخطط تتجلى بما حدث في ليبيا وتونس ومصر , و بالمؤامرة التي تحاك ضد سوريا والموقف الروسي منها , و باتجاه دول الخليج العربي لتطوير وحدتها السياسية .
……………………….
……………………….
يلفت النظر أن السيد المالكي شنّ هجمته على رموز الطائفية السنية فور عودته من الولايات المتحدة الأميركية , وبمجرد مغادرة آخر جندي أميركي أرض العراق , وفي ظني أنها محاولة منه لإجهاض نوايا المحافظات ذات الغالبية السنية نحو فك علاقتها بالسلطة المركزية وتأسيس أقاليمها , ولم يكن ذلك غيرة منه على وحدة العراق بقدر ما كان تماهياً مع السياسة الايرانية المتصارعة مع النفوذ التركي الذي سيمتد بحكم طبائع الأشياء الى تلك الأقاليم ؛ وليس مصادفة أن تتفجر بغداد بالسيارات المفخخة وبالعبوات الناسفة فور خروج صراع اللئام الى العلن ووصوله الى منحدر حرج , فهي مؤشر الى المنحى الذي سيتخذه هذا الصراع باتجاه تقسيم البلد في نهاية الأمر .
توقف الذين تابعوا المؤتمر الصحفي للسيد نوري المالكي عند لقطتين , كانت الأولى عندما أراد استعراض منجزات حكمه , فلم يجد الكثير ليقوله في هذا الصدد , وكذلك اعتبر لقاءه الأخير مع الرئيس الأميركي , وتوفيرالحماية لزوار العتبات المقدسة أهم منجزاته ! وكانت اللقطة الثانية هي قوله لصحفي أوشك أن يسقط المايكروفون من يده : إذا طلعت من ايدك , تروح عليك ! فإذا كان إفلات مايكروفون من يد صحفي سيتسبب ” بروحتها عليه ” , فكيف به وهو يمسك بسلطة وثروة بلد بحجم العراق ؟ .