17 نوفمبر، 2024 7:18 م
Search
Close this search box.

صراع دموي بالوكالة

صراع دموي بالوكالة

في ظني أن قلة من العراقيين صدّقت حكاية السيد نوري المالكي عن تورط السيد طارق الهاشمي بعمليات تفجير وقتل طائفي , ذلك أن للسيد المالكي سجل حافل بالكذب والتبجح و تشويه الحقائق , فضلا عن أن سيرة القضاء العراقي ممثلا برئيس مجلسه الأعلى السيد مدحت المحمود , تصمه بكونه أداة بيد رئيس الوزراء يحرّكها كيف يشاء , فعلى سبيل المثال , لازالت حيّة ذكرى تلك الفتوى القضائية المعيبة التي أصدرها السيد المحمود عقب الانتخابات النيابية الأخيرة , والتي حرمت القائمة الفائزة من حقها الانتخابي , وقدمت رئاسة الوزارة للسيد المالكي على طبق من التكييفات القانونية الملتوية , وسيحفظ تاريخ القضاء أيضاً للسيد المحمود انصياعه لأوامر المالكي بتنحية القاضي عبد الله العامري عن منصة المحكمة الجنائية العليا التي كان يقف أمامها الرئيس صدام حسين – رحمه الله – لأن ذلك القاضي الشجاع كان مؤدباً ومنصفاً في خطابه مع المتهمين .                                                                                         
كان يُفترض أن يتولى متحدث قضائي توجيه تهم على هذه الدرجة من الخطورة لمسؤول حكومي يشغل مثل هذا المنصب الرفيع , ولكن الذي حدث أن ضابط شرطة وقف أمام الصحافة رافعاً ورقة تتضمن أمراً موقعاً من خمسة قضاة باعتقال نائب رئيس الجمهورية , والغريب أنه سُمح بعدها للسيد الهاشمي بمغادرة بغداد ؛ ثم تولى السيد المالكي تفصيل الحكاية في مؤتمر صحفي كان فضيحة بكل المعايير , فقد زعم رئيس الوزراء أن فرداً من حماية الهاشمي قد أكله الندم وأرّقه عذاب الضمير , بادر الى الاتصال بالجهات الأمنية للاعتراف أمامها بتحريض الهاشمي له ولآخرين من عناصر حمايته , على ارتكاب جرائم قتل طائفي وتفجير في تجمعات مدنية , بعد أن زودهم بمسدسات كاتمة للصوت وبعبوات ناسفة , وكافأهم بثلاثة آلاف دولار عن كل عملية , مشفوعة بكتاب شكر ! وقد بلغ عذاب الضمير بالرجل الى حدّ الرجاء ببث اعترافاته على التلفزيون , فاستجاب المالكي كريماً لرجائه !                                                    
يريد السيد المالكي أن نصدّق أن ضابطاً سابقاً , وأمين عام سابق لحزب  , و نائب رئيس جمهورية , تصل به الحماقة الى إعطاء دليل مكتوب على نفسه بالتحريض على القتل وتمويله ؛  ثم بلغت الفكاهة في حكاية المالكي ذروتها عندما ذكر أن الضابط المكلف باعتقال الهاشمي قد تردد في تنفيذ الأمر , فما كان من القاضي ألا أن هدده بالسجن , وختم المالكي بلهجة مسرحية : هذا هو القضاء العراقي !
في مواجهة مثل هذه الثرثرة غير المسؤولة , ترد الى الذهن أسئلة تتطلب ردوداً من السيد المالكي ومن قضائه المستقل :
– لماذا يؤخذ الهاشمي بجريمة ما زالت قيد التحقيق , ولا يؤخذ – على سبيل المثال – السيد مقتدى الصدر بجريمة قتل السيد عبد المجيد الخوئي ورفاقه , وهي جريمة مكتملة الأركان , فيها جثث الضحايا , وفيها عشرات شهود العيان , وفيها المدّعون بالحق الشخصي وبالحق العام , وفيها أسلحة الجريمة , وفيها فوق ذلك كله مذكرة قضائية بالقبض عليه ؟
– لماذا يُطلب من الأكراد تسليم الهاشمي – وهو بريء حتى تثبت إدانته – ولا يُطلب من ايران تسليم الجلاد أبي درع القيادي في جيش المهدي , وهو مطلوب للقضاء بتهمة قتل آلاف العراقيين بسبب انتمائهم الطائفي والديني ؟             
– لماذا لا يلاحق القضاء العراقي قتلة وكيل وزارة الصحة عمار الصفار , وبعضهم معروفون بالاسم , فأحدهم عضو في مجلس النواب , والآخر مفتش عام وزارة الصحة ؟                                                                       
– لماذا لم يتحرك القضاء لملاحقة عضو حزب الدعوة الهارب الى ايران السيد جمال جعفر الذي دبّر جريمة تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981 فقتل أربعين عراقياً من نساء ورجال , فيهم البعثي وغير البعثي , بعضهم كان يؤدي عمله في السفارة , ومعظمهم كان مواطنون عراقيون يراجعون سفارتهم ؟  
– لماذا صمت القضاء عن مسؤولين حكوميين وأعضاء في مجلس النواب , مارسوا أعمال التعذيب والقتل ضد أسرى الجيش العراقي في معسكرات الاعتقال الايرانية , وهي من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم ؟
– لماذا تغاضى القضاء عن جرائم قتل مئات الأبرياء التي ارتكبها عدنان الدليمي وأولاده ؟  وكيف اطمأن الضمير القضائي للتغاضي عن مجازرهم المروعة تسهيلا لصفقة سياسية كان حزب الدعوة أحد أطرافها ؟
وإذا افترضنا أن السيد الهاشمي قد تورط بهذه الجرائم , فإن السيد المالكي هو آخر من يحق له محاسبته عليها , فتاريخه وتاريخ حزب الدعوة حافل بجرائم قتل عشوائي للعراقيين , شهدت عليها مدن لبنان والكويت والعراق .
قد يكون السيد طارق الهاشمي بريئاً من التهم التي ساقها ضده السيد المالكي وحزبه , لكنه بالتأكيد يتحمل نصيبه من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن دمار العراق , وعن دماء عشرات الألوف من العراقيين الذين قضوا سواء برصاص المحتل الأميركي , أو نتيجة إجرام فرق الموت الطائفية , فالرجل انخرط منذ اليوم الأول الذي ظهر فيه على المسرح السياسي بالمشروع الطائفي الذي أقام ركائزه الاحتلال الأميركي , وقد روى السفير الأميركي في العراق أن الهاشمي عاتبه مطلع الشهر الجاري لأن القوات الأميركية سوف تنسحب من العراق وتتركه للشيعة ولايران , وفي ظني أن تسريب هذا الحديث لم يكن فلتة لسان من السفير , لكنه أراد أن يصبّ مزيداً من الوقود على الجمر الطائفي الكامن تحت الرماد ؛ لقد أجرم الهاشمي بحق العراق يوم انتمى الى حركة الاخوان المسلمين صنيعة الاستعمار البريطاني , وأيضاً يوم شارك بالعملية السياسية واضعاً إحدى يديه بيد قاتل على شاكلة عدنان الدليمي , ويده الأخرى بيد وصولي مرتزق مثل صالح المطلك ؛ لقد مثّل الهاشمي دور نائب رئيس جمهورية وهو يعلم قبل غيره أنه ورئيسه مجرد واجهة لنظام هجين يمسك بقراره آخرون لا شأن لهم بمصالح العراق , وقد صدّق بأنه أحد الممسكين بصولجان السلطة , ولكن سرعان ما تبين خواء سلطته عندما أوقفه شرطي عند باب الطائرة فيما كان يهم بمغادرة بغداد ؛ ولقد غرف الهاشمي من المال العام أموالا طائلة في الوقت الذي يعاني فيه ملايين العراقيين الفقر وشظف العيش ؛ كذلك وجد الهاشمي نفسه و بسبب الاستقطابات الطائفية , محكوماً بعلاقات تبعية لدول تغذي الفتنة الطائفية مثل قطر والسعودية وتركيا , وهنا تحديداً يكمن السرّ الذي يتابع العراقيون تداعياته دون أن يقدر كثيرون منهم على تفسير أسبابها ؛ إن أطراف السلطة العراقية لا تتقاتل فيما بينها اليوم من أجل قضية عراقية , وإنما هو صراع تخوضه وكالة عن سادتها الاقليميين , فالإسلام السياسي الشيعي ينوب في هذا الصراع عن ايران , والاسلام السياسي السني ينوب فيه عن السعودية وقطر و حكومة أردوغان , فضلا عن كون تركيا عضواً في حلف الأطلسي الصديق الجديد لحركة الاخوان المسلمين .          
يرى بعضهم أن ما يجري في الوطن العربي , هو إحياء لاتفاقية سايكس – بيكو التي اقتسمت بموجبها فرنسا وانكلترا الوطن العربي بعد انهيار الامبراطورية العثمانية عام 1918 ؛ وفي ظني أن ما يجري في الوطن العربي اليوم هو تحديث لاتفاقية ” يالطا ” التي عقدها الحلفاء عقب انتصارهم في الحرب العالمية الثانية , واقتسموا فيها العالم الثالث وأوروبا الشرقية ؛ ولكن عقب انهيار الاتحاد السوفييتي – أحد أطراف اتفاقية يالطا – و بروزالدور المحوري للبترول في الحرب والسلم العالميين , وبسبب التدهور الخطير في اقتصادات الغرب ,  فقد قرر حلف الأطلسي – متحالفاً مع اسرائيل هذه المرة – امتطاء حكام الخليج العربي يقودهم شيخ قطر , و إعادة توزيع نفوذ دوله في العالم العربي عبر توريطه بحرب طائفية قطبا الرحى فيها تركيا ودول الخليج العربي معاً في مواجهة ايران , ويكون العراق ولبنان مسرحها الكبير , ودلائل هذا المخطط تتجلى بما حدث في ليبيا وتونس ومصر , و بالمؤامرة التي تحاك ضد سوريا والموقف الروسي منها , و باتجاه دول الخليج العربي لتطوير وحدتها السياسية .
……………………….
……………………….
يلفت النظر أن السيد المالكي شنّ هجمته على رموز الطائفية السنية فور عودته من الولايات المتحدة الأميركية , وبمجرد مغادرة آخر جندي أميركي أرض العراق , وفي ظني أنها محاولة منه لإجهاض نوايا المحافظات ذات الغالبية السنية نحو فك علاقتها بالسلطة المركزية وتأسيس أقاليمها , ولم يكن ذلك غيرة منه على وحدة العراق بقدر ما كان تماهياً مع السياسة الايرانية المتصارعة مع النفوذ التركي الذي سيمتد بحكم طبائع الأشياء الى تلك الأقاليم ؛ وليس مصادفة أن تتفجر بغداد بالسيارات المفخخة وبالعبوات الناسفة فور خروج صراع اللئام الى العلن ووصوله الى منحدر حرج , فهي مؤشر الى المنحى الذي سيتخذه هذا الصراع باتجاه تقسيم البلد في نهاية الأمر .
توقف الذين تابعوا المؤتمر الصحفي للسيد نوري المالكي عند لقطتين , كانت الأولى عندما أراد استعراض منجزات حكمه , فلم يجد الكثير ليقوله في هذا الصدد , وكذلك اعتبر لقاءه الأخير مع الرئيس الأميركي , وتوفيرالحماية لزوار العتبات المقدسة أهم منجزاته ! وكانت اللقطة الثانية هي قوله لصحفي أوشك أن يسقط المايكروفون من يده : إذا طلعت من ايدك , تروح عليك ! فإذا كان إفلات مايكروفون من يد صحفي سيتسبب ” بروحتها عليه ” , فكيف به وهو يمسك بسلطة وثروة بلد بحجم العراق ؟ .

أحدث المقالات