ليس جديدا الحديث عن قضية “الصراع” أيا كان ميدانه ، ومن نافلة القول الحديث عن وجوده وتأثيراته وانعكاساته على فكر وسلوك ومواقف المتصارعين والمتفاعلين معه بل والمعايشين له ولو بحكم ما فرضه عليهم مكانهم الجغرافي وزمانهم الذي قدر لهم أن يعاصروه .
هل لا بد أن يحدث هذا الصراع؟ وهل هو نتاج طبيعي وسنة تأريخية أم هو انحدار أخلاقي واستيراد لحياة الغابة؟ ليس هذا محل كلامنا إنما الكلام كل الكلام في فهم حقيقة هذا الصراع وما هو ميدانه وبأي سلاح يمكن لنا أن نخوض غماره.
النظرية والتطبيق ثنائية معروفة تتكفل الأولى بمناقشة وتحليل وتثبيت الأسس التي ينبغي أن يستند إليها أي مشروع في أي بعد من أبعاد الحياة ، فيما ينطلق التطبيق ليمثل الصورة الخارجية والحالة العملية لتلك الأفكار والرؤى التي تم تأسيسها ، وفي خضم الواقع تبرز مشاكل وتناقضات وتحديات ومحطات توقف تستدعي مزيدا من النظر والمراجعة والتعمق في عملية مفصلية محفوفة بالمخاطر فيما لو لم تحظر الثوابت بقوة أو كانت غائمة ، فهاهنا تكمن الصعوبة في فرز المساحات والحدود بين الأسس الثابتة للبناء وواجهاته المتغيرة إذ عندما تتداخل هاتان المساحتان يبدأ الانحدار والانحراف عن الجادة.
صراع الأيديولوجيات والرؤى والقراءات اليوم يتناول النظرية والتطبيق كليهما ، وفي ظل القفزة العلمية في عالم الاتصالات لم تعد “نظرية الحجر” – لو صحت تسميتها بذلك – قادرة على الثبات في ظل عالم “كالقرية الصغيرة” لا تخفى فيه خافية ولا يؤتمن فيه على سر! إذ أصبح كل شيء معروضاً ومحل نقاش وتحليل وتجاذب وتنافر، ولم تعد القوالب الثابتة والأجوبة الجاهزة قادرة على بلوغ تطلعات الجيل الجديد.
بعد هذه المقدمة الموجزة أود طرح هذا التساؤل: ما هو محل النزاع الذي يملأ الأفق ضجيجا في مجتمعنا العراقي اليوم؟ وبعبارة موجزة: ما هو ميدان الصراع؟
أعتقد إن الإجابة تعتمد على زاوية النظر ، فتارة ننظر للصراع والسجال بين توجهات المجتمع العراقي ذي الأغلبية ذات الطابع الديني – ولو بالمعنى الظاهري للتدين – ، وأخرى ننظر من زاوية واسعة تدخل فيها إرادات دولية وإقليمية وبرامج معدة سلفاً ، هذا الصراع الأخير هو صراع إرادات معقد المشهد لا نخوض غماره هاهنا.
عوداً إلى الصراع وحالة الانقسام المجتمعي الذي يشهده المجتمع العراقي والذي بدأ يعطي انطباعاً بانكسار هيبة وقداسة الدين وبدأ يؤطر بإطار الصراع “الديني – المدني” ويسوق إعلاميا بهذا المنحى ، والحق والإنصاف إنه ليس ثمة بعد فكري يتبناه الأفراد الذين بدؤوا يرفعون شعارات معلنة معادية للدين أو يصفون أنفسهم بالعلمانيين بل وحتى بالملحدين أحياناً بل إنها حالة ردة الفعل استولت على هؤلاء الأفراد في ظل فشل سياسي بامتياز خلال (13) سنة مضت من تأريخ العراق كان ولا زال أغلب قادته – أي الفشل – من حملة الدين ودعاته ممن آلت إليهم مقاليد الأمور وأصبحوا ساسة البلاد والعباد ، فشل ليس بحاجة لوصف فلا تطلب أثراً بعد عين. استفحلت ردة الفعل يوما بعد يوم في ظل حالة فوران تعدت الفاشلين والمفسدين لتطال الأسس الدينية التي اتكؤوا عليها للوصول للسلطة والحق لولاها دون أن يبلغوا مرادهم خرط القتاد ، إنها حالة غضبية مشوشة يصعب معها امتصاص الصدمات المتتالية في ظل أجواء تكون فيها ردود الأفعال أوفر حظا بالظهور من أي فعل عاقل واع وفي ظل تيه دونه تيه بني إسرائيل.
إن الصراع اليوم بكلمة واحدة هو صراع النماذج ، صراع التطبيق وليس صراعا نظريا ، ومن هنا لا تجد ذلك الصدى لمئات الخطباء والمجالس الحسينية وعشرات المؤتمرات والندوات وورش العمل ، الناس بحاجة لشيء تراه أعينهم وتلمسه أيديهم مثلما رأوا ولمسوا فساد البلاد والعباد ، إنه لأمر مهم أن نعرف في أي حلبة نحن وفي أي مرحلة ، لا تتعبوا أنفسكم كثيرا بالحديث واجبنا اليوم أن نعمل أن نقدم النموذج أكثر من أن نعمل على تقسيم الناس بين الجنة والنار ونخون بعضنا بعضاً “قل كل يعمل على شاكلته” وما نحن عليه هو شاكلتنا فليكن همنا أن يرى الناس فينا “محمدا” و “عليا” في سياستهما وسلوكهما بعد أن ملت أسماعهم من تكرار قصصهما ومواعظهما على المنابر ولا من صدى لـ”محمد” ولا من ظل لـ”علي”.
إن هذا الجيل يتحمل مسؤولية تأريخية جسيمة تفرض عليه أن يجسد عمليا النموذج المحمدي العلوي في التعايش والبناء في السلوك والعقيدة وقبلها جميعاً في الوعي والبصيرة والثبات على المبادئ لتصحيح الصورة القاتمة التي أطرها راسموها بالدين وفرغوا محتواها بقدر فراغ عقولهم ونفوسهم من الخير والإيمان والمبادئ.
كن أنت ابن فعلك فإن فعلك أولى بالنطق عن نفسه من لسانك عنه.