كانت الشهور الخمسة الاولى من عام 2016 حافلة بأحداث ووقائع دراماتيكية مثيرة ومقلقة في العراق، بدأت بتظاهرات وتجمعات احتجاجية متفرقة هنا وهناك، في اطار مطالبة رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي والبرلمان بتحقيق الاصلاحات وتشكيل حكومة من التكنوقراط والكفاءات بعيدا عن المحاصصة الحزبية والطائفية، وبلغت تلك التظاهرات ذروتها بدخول زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدري للمنطقة الخضراء شديدة التحصين، في السابع والعشرين من شهر اذار-مارس 2016، حيث نصب خيمة واقام فيها لفترة من الزمن، ليتبعها بعد اكثر من شهر، وتحديدا في الثلاثين من نيسان-ابريل، دخول مئات المتظاهرين المنطقة الخضراء، ومن ثم ليقتحموا بعد ثلاثة اسابيع مبنى البرلمان، وبعد ذلك بوقت غير طويل، اقتحموا مبنى مجلس الوزراء.
تمحورت مطالب زعيم التيار الصدري وجموع المتظاهرين حينذاك، حول انهاء المحاصصة وتشكيل حكومة من التكنوقراط، والعمل الجاد على محاربة الفساد واجراء الاصلاحات، وفيما بعد، تصاعدت الدعوات لتعديل قانون الانتخابات واختيار مفوضية جديدة للانتخابات يكون اعضائها من خارج المكونات الحزبية المشاركة في السلطة.
ورغم ان تظاهرات واحتجاجات 2016 رافقتها اعمال عنف وصدامات بين بعض المتظاهرين والقوات الامنية واعضاء برلمان، ادت الى سقوط عدد من القتلى والجرحى، الا ان سقف مطاليبها لم يتعد القضايا الانفة الذكر، بينما تمحورت التظاهرات والاعتصامات الاخيرة للتيار الصدري والمؤيدين له حول مطلب رئيسي هو تغيير النظام السياسي القائم وازالة الفاسدين، كما اكد ذلك زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر في احدى تغريداته. الامر الذي فتح تفاعلات المشهد السياسي العام على اخطر واسوأ الخيارات، بنظر بعض القوى والتيارات السياسية والنخب المجتمعية.
ولعل وصول الامور الى تلك الدرجة الخطيرة والحرجة من الاحتقان والانسداد، ارتبط بمجمل الاحداث والوقائع التي توالت على امتداد الشهور العشرة التي اعقبت الانتخابات البرلمانية المبكرة في العاشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر الماضي.
فالانتخابات التي اريد لها ان تكون مبكرة وتأتي بمخرجات تكفل معالجة اخطاء وسلبيات المرحلة او المراحل السابقة، جرت بعد اكثر من تأجيل لاسباب كانت في ظاهرها فنية واجرائية، بيد انها في واقع الامر كانت سياسية، ولانها افرزت نتائج جدلية، فبدلا من ان تمثل-اي الانتخابات-فرصة لحلول ومعالجات وتفاهمات للتأسيس لعقد اجتماعي بمسارات سليمة وواضحة، فأنها عمقت الازمات، ووسعت هوّة الخلافات، وزادت من حدة الاحتقانات، فالتيار الصدري الذي حصد 73 مقعدا من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 329 مقعدا، رأى في ان الانتخابات كانت نزيهة وشفافة، بل عدّها افضل انتخابات اجريت منذ عام 2003، وهكذا بالنسبة لاطراف كردية وسنية، حققت نتائج مرضية. في حين اعتبرت قوى اخرى-الاطار التنسيقي-جاءت النتائج صادمة بالنسبة لها، ان الانتخابات لم تكن نزيهة، وان هناك اطرافا داخلية وخارجية تلاعبت بنتائجها. ومع ان تلك القوى حشدت جمهورها لتظاهرات واعتصامات استمرت عدة اسابيع امام بعض مداخل المنطقة الخضراء، الا انها في نهاية المطاف اذعنت للامر الواقع، بعدما صادقت المحكمة الاتحادية العليا على النتائج المعلنة من قبل مفوضية الانتخابات، حرصا منها على السلم المجتمعي وعدم تعريض البلاد لمزيد من الازمات والفوضى.
بيد ان القبول والاذعان بنتائج الانتخابات، لم يكن نهاية الازمة، فقد راحت الاجواء تزداد تشنجا واحتقانا في ظل اصرار التيار الصدري الذي شكل تحالفا ثلاثيا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحالف السيادة-الممثل لجزء من المكون السني، على تشكيل حكومة اغلبية وطنية، بمقابل سعي قوى الاطار التنسيقي التي نجحت بكسب كيانات كردية وسنية لصفها، الى تشكيل حكومة توافقية، عبر تشكيل الكتلة البرلمانية الاكبر من قبل التيار والاطار، لضمان حق وثقل المكون الشيعي، الذي يمثل المكون الاجتماعي الاكبر.
وبعدما اخفق التيار الصدري في تأمين اغلبية الثلثين لانتخاب رئيس الجمهورية، كخطوة تسبق تكليف مرشح الكتلة الاكبر لتشكيل الحكومة، اتخذ قرارا مفاجئا بالانسحاب من العملية السياسية وذلك بتوجيه اعضاء الكتلة الصدرية في البرلمان لتقديم استقالاتهم، وبالفعل هذا ما حصل، ليزداد المشهد السياسي ارتباكا وغموضا مع عدم وضوح خيارات وبدائل الصدر بعد الانسحاب.
وبما ان الكرة باتت في ملعب قوى الاطار، وبما ان الصدر اعلن بأن حلفائه الاكراد والسنة في حلّ منه، وبأمكانهم اختيار ما يرونه مناسبا، لذا راحت الامور تتجه نحو تشكيل حكومة توافقية بمشاركة الاكراد والسنة والشيعة على وجه العموم. بيد ان الخلافات والاختلافات بين بعض قوى الاطار اخذت تطفو على السطح بخصوص رئاسة الوزراء، في ذات الوقت الذي تواصلت الخلافات والتقاطعات الكردية حول رئاسة الجمهورية، ويبدو ان زعيم التيار الصدري قد راهن على فشل قوى الاطار والاكراد في حسم خلافاتهم، وهو ما جعله يوصد بابه ويرفض رفضا قاطعا كل الدعوات للدخول والمشاركة في الحكومة بأي شكل من الاشكال.
الا ان نجاح قوى الاطار في احتواء خلافاتهم والاجماع على مرشح واحد لرئاسة الحكومة، وهو الوزير السابق والنائب الحالي محمد شياع السوداني، وترحيب مختلف القوى السياسية بترشيحه، ربما يكون قد فاجيء الصدر، ودفعه الى الاسراع بقطع الطريق امام السوداني، وكانت صلاة الجمعة الموحدة في مدينة الصدر بالعاصمة بغداد، منتصف شهر تموز-يوليو الماضي، التي شهدت حضورا جماهيريا كثيفا، تجاوز المائتي الف شخص من اتباع ومريدي التيار الصدري، اول وابرز رسائل الصدر الى خصومه، ومفادها انه يمتلك القدرة الكافية لتحريك الشارع متى ما تطلب الامر ذلك، وبالفعل فأنه بعد بضعة ايام وجه اتباعه بدخول المنطقة الخضراء ومن ثم الذهاب الى اعتصام مفتوح تحت قبة البرلمان، ولكن هذه المرة بشكل مختلف الى حد كبير عما جرى في ربيع عام 2016، ارتباطا بهدف “تغيير النظام السياسي القائم وازالة الفاسدين”.
واغلب الظن ان الصدر يدرك ان الشارع القادر على ارباك المشهد السياسي، واقلاق الطبقة السياسية، وخلط الاوراق عليها، وحتى وضع اليد على مبنى البرلمان ومؤسسات حكومية عليا غيره، لايكفي وحده لتغيير النظام السياسي، لاسباب عديدة من بينها، ان الطرف الخصم يمتلك هو الاخر جزءا من الشارع، ولديه ادوات قوة واوراق تمكنه من عرقلة اي مشروع سياسي ما، ولعل التظاهرة السلمية التي نظمتها قوى الاطار امام احدى بوابات المنطقة الخضراء في الاول من شهر اب-اغسطس الجاري-وشاركت فيها مختلف الزعامات السياسية الكبرى لقوى الاطار الى جانب عدد كبير من الشخصيات السياسية وقيادات الحشد وفصائل المقاومة-مثلت رسالة جوابية لرسائل التيار الصدري التحشيدية.
ومن بين هذه الاسباب، ان البرلمان وعموم مفاصل الدولة والحكومة، لاتقتصر على المكون الشيعي، بل ان هناك وجودا وحضورا للمكونين الكردي والسني، فضلا عن الاقليات الاخرى، ولاشك ان تلك المكونات لاترى انه من مصلحتها تهديم كل البناء على رؤوس ساكنيه، ناهيك عن ان نجاح مثل هذا الخيار في بغداد، سوف يشجع على تجريبه في اربيل والسليمانية والانبار ومحافظات اخرى، وبالتالي يفتح الابواب على مصاريعها للفوضى والعنف والصدام.
السبب الاخر يتمثل في انه لايمكن بأي حال من الاحوال تجاهل الكثير من الحقائق والمعطيات في الواقعين الاقليمي والدولي، لاسيما وان العراق ليس بمعزل عن كل الحراك والتفاعلات والازمات والمعادلات السياسية بأطارها العام الشامل. اضف الى ذلك، فأن قطاعات واسعة من المجتمع العراقي، تخشى من ان يؤدي خيار تثوير وتحشيد وتعبئة الشارع، بدلا من حل ومعالجة المشاكل القائمة الى مفاقمتها بدرجة اكبر، خصوصا وان الاوضاع السياسية لن تتجه الى الهدوء والاستقرار في ظل كسر الاردات وفرض الخيارات.
والخطاب الاخير لزعيم التيار الصدري، طرح بوضوح خيار حل البرلمان والتوجه نحو اجراء انتخابات برلمانية مبكرة، في ذات الوقت الذي شدد على ضرورة استمرار التظاهرات والاعتصام حتى تحقيق المطالب، وعلى ان لايكون للوجوه القديمة اي وجود بعد الان. وهذا يعني بشكل او باخر التراجع عن مطلب تغيير النظام السياسي، او بتعبير اخر، ربما اراد الصدر القول، بأن حل البرلمان واجراء انتخابات مبكرة، يعد خطوة تمهيدية لتغيير النظام من قبل ممثلي الشعب.
لاشك ان مثل هذا الخيار يعني استمرارا وتدويرا للازمة السياسية الخانقة في العراق، والابقاء على حكومة تصريف الاعمال الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي، والانتظار لعام او اكثر حتى تلوح ملامح ومعالم الانفراج، فضلا عن ذلك، فلابد من اتباع السياقات والاليات الدستورية لحل البرلمان، والتي تبدأ اما بطلب من رئيس الجمهورية، او بطلب من ثلث اعضاء البرلمان وبمواقفة غالبية الاعضاء، اذ تشير المادة 64 من الدستور العراقي النافذ الى انه “اولا: يُحل مجلس النواب، بالاغلبية المطلقة لعدد اعضائه، بناءً على طلبٍ من ثلث اعضائه، او طلبٍ من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية، ولا يجوز حل المجلس في اثناء مدة استجواب رئيس مجلس الوزراء.
ثانيا: يدعو رئيس الجمهورية، عند حل مجلس النواب، الى انتخاباتٍ عامة في البلاد خلال مدةٍ اقصاها ستون يوماً من تاريخ الحل، ويعد مجلس الوزراء في هذه الحالة مُستقيلاً، ويواصل تصريف الامور اليومية”.
وطبيعي ان حل البرلمان، باعتباره خيارا سلميا، يتطلب الذهاب الى السياقات والاليات الدستورية، وكذلك مشاركة وتباني مختلفة اطراف العملية السياسية، لاسيما الكتل البرلمانية لتطبيق تلك الاليات والسياقات الدستورية.وقد لاتشكل الحملات والمعارك الاعلامية والسياسية المتبادلة بين الفرقاء، ارضية مناسبة لتحقيق الاصلاحات المطلوبة، بل ان الحوار هو الاساس والمنطق الصحيح، وذلك ما جعل مبادرة الكاظمي الاخيرة بالدعوة الى أجراء حوار شامل يشارك فيه الجميع، تحظى بترحيب كل القوى والمكونات السياسية، فضلا عن اطراف من المحيط الاقليمي والفضاء الدولي.
وتبقى الخيارات والخطوات ذات الطابع السلمي هي الانجع والافضل، وان اتسمت بقدر كبير من التعقيد، وتطلبت الكثير من الوقت، وقبل ذلك وبعده، استلزمت كسر وتحطيم الحواجز النفسية، والبحث عن نقاط التفاهم والالتقاء والابتعاد قدر الامكان عن نقاط التقاطع والافتراق .
———————-
*كاتب وصحافي عراقي