لا يخفى على المتابع لما يجري في العراق من تصفيات وتسويات سياسية أقليمية ودولية انعكست بالسلب على الوضع الداخلي للعراق ، فتسير بهذا الاتجاه لترسم وضعاً جديداً في خارطته اسمها التخندق الطائفي ،ناهيك عن الوضع المقلق الذي ترغب به القوى الدولية في بقاءه وإدامته في العراق خصوصاً والمنطقة عموماً بشكل يسمح للعديد من الاتجاهات السياسية المختلفة العمل بهذا الاتجاه .
المراقب والمشاهد للفضائيات المحلية يجد انها التزمت هي الاخرى بهذا التخندق ، ورسمت لعملها مخطط جديد هي حرق الخصم وانهاء دوره ، وهذه السياسة بالتأكيد غير اخلاقية ولا تعبر عن اي مفهوم من المفاهيم الاخلاقية للسياسة ، بل هذه المنابر الإعلامية عكست مدى الخلاف والاختلاف في الرؤى والمفاهيم لدى اغلب الكتل السياسية التي مارست العمل الديمقراطي بعد سقوط النظام .
مفاهيم جديدة ظهرت في هذه الفضائيات هي الشتم والتخوين والتوهين ، حتى وصل الحال الى ضرب الخصوم بشخصهم وهذا لايعبر عن المعايير الحقيقية للسياسي الناجح ، او يعكس صورة حقيقية عن هولاء الساسة ، بل يعكس جهلهم وصراعهم الحزبي والشخصي الذي أوصل البلاد الى حافة الحرب الأهلية مرة ، ومرة الى هاوية السقوط بيد الارهاب الداعشي الذي وصل الى حدود بغداد لولا وقفة المرجعية الدينية العليا ، وإيقاف زحف هذه العصابات الإرهابية والتي كان الهدف الرئيسي هي بغداد وإسقاط العملية السياسية وانهاء المشروع الوطني الجديد ، بعد حكم ديكتاتوري دام اكثر من ٣٥ عاماً من تدمير للشخصية العراقية ، وسحق الكرامات ، واستخدام اقسى انواع التعذيب ضد الشعب الاعزل .
المؤسف ان القواعد الشعبية في العراق ( شيعية -سنية) هي الاخرى لم تساهم في إذابة هذه الخلافات ، وما نتعرض له اليوم من أجرام وارهاب منظم يستهدف جميع المكونات بدون استثناء ، ومع اننا لا ننكر هناك بعض المواقف والتي لم تكن بمستوى الحدث الكارثي اليوم ، فبدل توحيد الرؤى بأتجاه العدو المشترك (تنظيم داعش) نجد ان الوسائل الاعلامية تحولت الى منابر إعلامية للتسقيط السياسي فيما بين الكتل الحاكمة ، فما كان من نتائجها سقوط ربع البلاد بيد داعش ، مع تراجع كبير في الاقتصاد وانهيار للبنى التحتية للبلاد ، ناهيك مع العلاقات السيئة مع الجيران ، والصراع الطائفي والقومي الذي وصل الى حد المواجهة المسلحة لأكثر من مرة .
المستغرب هو الموقف الإقليمي الذي زاد الوضع تازيماً على اثر الدعم المتزايد للقوى الإرهابية الظلامية ، كما ان التصريحات المتزايدة ضد الحكومة الصفوية الموالية لإيران من قبل بعض السياسين زاد الوضع تازماً مما شجع هذه الجماعات النهوض من حواضنها في الموصل لإكمال مسلسل السيطرة الفعلية على المحافظة ، فبدل مواجهة هذا الزحف الإرهابي بوحدة الموقف الوطني ورص الصفوف نرى ان البعض يضع العراقيل والإتهامات امام اي تقدم او تطور في المسار السياسي ،وإيجاد الحلول للمشاكل الموروثة من الحكومتين السابقتين والتي اوصلت الحال على ما هو عليه اليوم .
كما ان الواضح ان سلوك المناطق التي استولى عليها داعش لم يكن متضامناً سواءً مع الحكومة او مع القوى السياسية الرئيسية في البلاد ، وانعدام الثقة بين هذه المكونات جعلت الأوضاع على الارض تصل الى ما عليه اليوم ، وهذا لايعني بالضرورة ان السنة من انصار لداعش ، لان هذا التنظيم الإرهابي يحارب اي شخص يختلف معه ، وان عقوبة من يختلف معهم هي قطع الرأس ، وحتى مع نهاية وجود الدواعش وطردهم من العراق سيبقى عامل عدم الثقة قائماً ، ولا تكفي المؤتمرات والندوات التي تهدف الى المصالحة الوطنية ، بل لا بد ان من وجود الإرادة الحقيقية في التعايش السلمي بين جميع المكونات والقوميات وتحت مظلة اسمها الوطن ، لان العدو وضع من ضمن أولوياته هو تفتيت الارض ، وتمزيق الروابط الاجتماعية بين ابناء الوطن الواحد وهذا ما نجح به الى حد كبير .