كثر ممن عاشوا على أرض جمهورية اليمن الديمقراطية وسط شعبها وبين ناسها من شيوعيين وحركات تحرر وقوى يسار وعلى وجه التحديد العراقيين والفلسطينيين ، وكانت لهم حضوة كبيرة من الأهتمام والامتيازات ، وشغلوا مراكز مهمة في جسم الدولة أنطلاقاً من الفهم الماركسي للتضامن الأممي ، لكنهم قله ممن كتب عن تلك التجربة ووثق الحدث الدامي بين رفاق الحزب الواحد والتجربة الواحدة والتاريخ المشترك من النضال والمقاومة .
دموية ذلك اليوم في ١٣ كانون الثاني العام ١٩٨٦لم تكن المفاجئة للمتابعين ولا للرفاق اليمنيين ولا لأصدقائهم ، كانت كل السيناريوهات مفتوحة للقتال والتصفية والثأر ، والتي أحتدمت بمفترق طريق بعد عودة القيادي الشيوعي عبد الفتاح إسماعيل من موسكو والثأر له من قبل رفاقه ومريديه ضد خط سياسة علي ناصر محمد القابض على دفة الحكم في اليمن بعدة سنوات وعلى أثر إبعاد رفيق النضال عبد الفتاح إسماعيل ورفاقه الى الاتحاد السوفيتي العام ١٩٨٠ أي كانت بمثابة عملية نفي وإقصاء ، قد تكون قريبة تلك التجربة من فصولها بما حدث في العراق في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم عندما نفي سكرتير حزب الشيوعيين العراقيين الشهيد سلام عادل الى العاصمة موسكو عندما تقاطعت رؤاه السياسية مع رفاقه حول سياسة الزعيم عبد الكريم قاسم ، فتغلب حوار الدم وكان هو السائد الذي ختم فصول المشهد السياسي للتجربتين اليمنية والعراقية وفي زمنيين مختلفين . كانت ميزة عبد الفتاح إسماعيل عن رفاقه هو عمقه الفكري في الادب الماركسي وأطلاعه على كنوزه الى أنه كان يلقي محاضرات ودروس في المدرسة الحزبية للدارسين في موسكو حول الماركسية اللينينية وقوانينها الديالكتيكية وتطبيقاتها العملية في مسيرة حياة الشعوب ، ولم يكن للرفاق السوفييت رأياً بعودته وهم الأدرى بطبيعة الصراع الرفاقي ومخاطره على التجربة الفتية . وفي أبان عودته أنعقد المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي اليمني في أكتوبر ١٩٨٥وتم أنتخاب الرفيق عبد الفتاح إسماعيل لقيادة الحزب وفي عضوية المكتب السياسي وحسب راوي عراقي قريب من وقع الحدث ، عندما أذيعت في قاعة المؤتمر نتائج التصويت من قبل الرئيس علي ناصر محمد أسم عبد الفتاح إسماعيل حرارة التصفيق هزت أركان القاعة وهتافات الحاضرين في قاعة المؤتمر لم تعطي للرئيس علي ناصر محمد برهة من الوقت أن يدلو بالأسماء التي تليه والتي فازت بالتصويت من بعده ، من هنا بدأ التوجس مرة أخرى والعودة الى صراعات السنوات الماضية وجدلية الانتقام الرفاقي والتمسك بكرسي القرار والجاه ، كانوا يعتقدون ( معارضيه ) أن غيابه أو أبعاده خمسة سنوات خارج البلد كفيله بتغيب دوره وحصر تأثيره بين أوساط رفاق الحزب الواحد ، لكن ليس كل مايعتقد ممكن أن يتحقق على أرض الواقع ، وبعد المؤتمر بدأت خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة أحاديث ليس مسرة عن أعتماد نتاهج الأنتخابات في التشكيلة الجديدة ، أي بمثابة ألغائها وعدم الأعتراف بها ومهما كان الثمن ومجرى الدم الذي سيسيل في شوارع العاصمة عدن ، وقد روى رفاق شيوعيين عراقيين قريبيين من الحدث ، عن لقاء جمع جورج حاوي وفخري كريم وبحضور علي عنتر المحسوب على خط عبد الفتاح إسماعيل الذي هدد قائلاً ( لو أبعد عبد الفتاح إسماعيل من سكرتارية الحزب سوف أقتلهم وأقتل نفسي أي أنتحر ) .
في العام ١٩٦٧ تمكن اليمنيين الجنوبيين في نضالهم ومقاومتهم البطولية من تحرير اليمن من أخر ثكنات الاحتلال البريطاني وتأسيس أسس نظام جديد في البناء والديمقراطية تأثرا بالتطورات العالمية في نهضة جديدة من التحرر والمقاومة واليسار ، وقد لعبت الجبهة القومية للتحرير دوراً نضالياً كبيراً في تحرير اليمن الجنوبي من خلال التعبئة الوطنية للشعب في التحرر الوطني بعد أحتلال بريطاني طال ١٢٠ عاماً لأرض اليمن ، وكانوا أغلب المنتسبين وأعضاء الجبهة القومية هم ينحدرون من القرى والأرياف خارج العاصمة عدن ومن أهم أنصارها وأعضاءها ( علي سالم البيض ، حيدر أبو بكر العطاس ) ، فكانت للإنتماءات القبلية والعشائرية والمحسوبية دور كبير في ضياع التجربة ، والتي تعتبر الدولة الماركسية الوحيدة في العالم بدين رسمي هو الاسلام ، ولم تكن بعيدة أحداث فيتنام وما سطروه من بطولات وطرد المحتل الامريكي وثورة الطلاب في العاصمة باريس ومواقف الاتحاد السوفيتي في دعم تطلعات تلك الشعوب تركت ظلالها على تطلعات شعوب العالم . ومن ذلك التاريخ حلم اليمنيين في أسس نظام ثوري عادل في البلد ، لكن الخلافات الأيديولوجية والتي لم تخلوا من دوافع شخصية وقبلية ومذهبية وبتأثيرات أقليمية ودولية ضاعت التجربة ومات الرفاق . وتعتبر الجبهة القومية للتحرير وجهتها الرئيسية الفكر الماركسي في مساندة الأنظمة الاشتراكية حول العالم لمقاومة الاستعمار والاحتلالات ودعم مقاومة الشعب الفلسطيني في أرجاع أرضه المغتصبة . ينقل عن الدارسين بأوضاع اليمن أن من النقاط الأساسية للخلافات بين القيادة اليمنية وعبد الفتاح أسماعيل مرده هو أصل الأخير ينحدر من اليمن الشمالي ( مذهب الأثني عشر الشيعي ) ما يسمون اليوم ( الحوثيين ) . وتحت هذا السياق والفهم فهو غير محبوب للطرف الآخر . إذن ” كان هناك صراع مخفي من نوع آخر سبق الأنتماءات الحزبية والعقيدة ورغم تحلي عبد الفتاح بالثقافة والفكر وقدرة التحليل والقيادة وتجاوز المذاهب .
في يوم ١٣ كانون الثاني العام ١٩٨٦ في ذلك الصباح الندي المرتقب والموحش بالخوف في العاصمة عدن وفي مبنى اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني طوت أخر صفحات الصراع السياسي بين الرفاق بالدم وضياع التجربة وممن قتل داخل المبنى علي عنتر وعلي شايع هادي وصالح مصلح الذي يعتبر وسيط بين الطرفين ونجا من المذبحة عبد الفتاح أسماعيل وعلي سالم البيض بخروجهم على ظهر مدرعة بأتجاه منطقة التواهي ، وهنا ضاعت الحقيقة بمصير عبد الفتاح إسماعيل وغيابه أي طريقة تصفيته هناك عدة سيناريوهات مطروحه ، حتى بعد أن هدأت الاوضاع شيع بتابوت من قبل رفاقه ومحبيه بدون جثة لانه لم يعثر على جثته ولاحتى على عظم واحد من جسده الهزيل . ورجال الرئيس علي ناصر محمد وتحديداً حراسه الشخصين هم من بادر بأطلاق الرصاص على رفاقهم داخل مبنى المكتب السياسي لتزهق الآف من الرفاق أرواحهم ، وعندما دخل حراسه قاعة الإجتماع في بناية اللجنة المركزية ، كانوا جميع الرفاق حاضرين الا علي ناصر محمد فوضع أحد حراسه ترمز الشاي أمام كرسيه الفارغ ، وعندما سألوا عنه المجتمعون قالوا لهم في الطريق وفي هذا الاثناء فتحوا حراسه النار على المجتمعين ، وفي لحظتها تطايرت دماء الرفاق وتلطخت جدران القاعة بطشاره . حرب شوارع ضروسه وأنتقامات وتصفيات قبلية وأيديولوجية طالت لمدة شهر كامل بعد أن ولى علي ناصر محمد بأتجاه اليمن الشمالي واضعاً على واحدة من يديه لفاف أبيض على أنه مصاب في المعركة ، ولكن الحقيقة هو لم يكن قريباً على دخانها ولا حتى على رائحة بارودها . في الختام هرب مع مئات من رفاقه ومقاتليه وأستقبلوا من حكومة علي صالح السعدي في صنعاء بالاحضان والاهتمام والرعاية وتركوا أرض اليمن تئن من ويلات الصراعات والحرب ولاشيء يلفت الى فداحة الاوضاع الا نظر العسس المدججين بروح الثأر والانتقام .
ومازال علي ناصر محمد حيياً الى يومنا هذا متنقلاً بين عدة عواصم عربية ، لكن الحقيقة مازالت غائبة عن ثمة تفاصيل مهمة في ضياع التجربة وقتل الرفاق من خلال كتابات وشهادات بعيدة عن الشخصنة والذاتية ، والآمر أيضاً ينطبق على علي سالم البيض وجميع الرفاق الذين نجو من تلك التصفيات لأجل تقييم مسارات تلك التجربة الفريدة في موقعها الجغرافي والبيئي . وبعد سنوات طويلة من تلك التجربة الفاشلة على أرض اليمن السعيد حول مصير عبد الفتاح إسماعيل نقل عن أهله ومحبيه في تلقيهم مكالمات هاتفية بصوت عبد الفتاح نفسه بعد عشرة أيام من الواقعة ، لكن ما شيع في حينها أن عبد الفتاح إسماعيل مات في يومها وهو على ظهر الدبابة التي خرجت به تحت جنح الليل من مبنى اللجنة المركزية مكان المواجهة الرفاقية وحوار الدم على أثر قصف قوات البحرية للدبابة التي تحمله ، وقد رآها بعد حين بعض العراقيين في الأيام التوالي من الاحداث وكانت محترقه بالكامل وعبارة عن هيكل حديد منصهر . وعلى ضوء تلك التطورات التي عصفت بالتجربة اليمنية الفتية وما قدمته من مجالات دعم شتى للحلفاء والاصدقاء على أراضيها ، لكن هناك ثمة تداعيات تفرض حالها على المشهد هو الموقف المعلن من تلك الاحداث وتطوراتها قبل الأحداث وأثنائها وبعدها من العراقيين والفلسطينيين والسوفييت ؟.
لقد أكد أكثر من طرف معني بأحداث اليمن ، أن هناك أتفاق مسبق جرى بين علي ناصر محمد والسوفييت في إبعاد عبد الفتاح إسماعيل الى موسكو ، رغم توجس السوفييت وعدم أرتياحهم من أدارة علي ناصر محمد لأدارة العملية السياسية في البلد . وعندما وصل عبد الفتاح إسماعيل الى موسكو في مطلع الثمانينات . كان يتساؤل بأندهاش عن الغرض والسبب الذي جاءوا بي الى هنا ؟. وقد حدثني الدكتور خليل عبد العزيز عندما ألتقاه في العاصمة موسكو أراد أن يعرف منه السبب في مجيئه الى هنا ولم يلتقيه أي مسؤول سوفيتي رفيع المستوى . ظل السوفييت على هذا الخط من السياسة والتي تثير الريبة والتساؤل تجاه الشعوب المناضلة والداعية الى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاحزاب الشيوعية والبلدان . وقد حان الوقت لكشف مواقفهم هذه أي بحاجة الى التوقف والدراسة في معرفة بواطن تفكيرهم حول تلك الصراعات . فالمواقف المعلنة والمخفية للسوفييت تجاه أصدقائهم من الشعوب والبلدان لم تكن أيجابية وتأتي دوماً متناسقة مع مصالحهم على حساب أرادة وتطلعات الجماهير والتي هي ضمن سياستهم وأنسجاماً مع عقائدهم .