يؤكد محمد حسين هيكل، في كتابه (الايمان والمعرفة الفلسفية- فصل الدين والعلم) أن ثمة خصومة بين رجال الدين ورجال العلم، ومتلاصقة منذ زمن، وفي الوقت نفسه هي ليست معيارها الدين، وهذه الخصومة كانت “قديمة؛ لأنها خصومة على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم، وأما الدين والعلم فلم تكن بينهما خصومة؛ لأن الدين يقرر المثل الأعلى لقواعد الإيمان التي يجب أن يأخذ الناس بها في حياتهم، والعلم يقرر الواقع في حياة الوجود ويترسم تطور الحياة في سبيل سيرها نحو ما يظنه الكمال، والواجب شيء والواقع شيء آخر، والكمال الذي يدعو الدين إليه كمال مقرر القواعد والأركان لا يمكن أن يتغير أو أن يتبدل، والكمال الذي يظن العلم أن الإنسانية تسير نحوه كمال ظني لا يستطيع العلم رسم قواعده؛ لأن العلم يعترف بأن الإنسانية، وهي بعض قليل من الوجود، خاضعة في تطورها لعوامل معروفة وأخرى ثابتة ولكنها ما تزال غير معروفة”.
ويبرر هيكل أن هذه الخصومة هي من اجل السلطة، والسعي والوصول الى سدة الحكم، ولا توجد خصومة حقيقة، واضحة المعالم، بشأن الدين والعلم، والسبب هو لطلب المنفعة وبهدف تسنم مناصب عليا في الدولة، فالتشبث بالدين يأتي من باب الذريعة “فإذا سمعت يومًا أن بين الدين والعلم خلافًا أو خصومة فاقطع بادئ الرأي بأن الخلاف والخصومة ليستا بين الدين والعلم، ولكنهما بين رجال الدين ورجال العلم، وأن أساسهما ليس في شيء من الدين لذاته ولا من العلم لذاته، ولكنه في سعي كل من هاتين الطائفتين سعيًا أنانيًّا صرفًا ليكون بيدها الحكم والسلطان دون الأخرى”.
وهذا الكلام ليس بدقيق، فالعلماء لم يكونوا في يوم من الايام انانيين، لأنهم افنوا اعمارهم من أجل العلم وخدمة الناس، وما هذا الذي نعيشه اليوم، من تطور في العلوم الانسانية والتكنولوجيا والعمران والحضارة، والتقدم الهائل الذي يشهده العالم الآن، ما هو إلاّ بفضل الجهود التي يبذلها العلماء العاملين، فلولا العلماء لبقيت المجتمعات الى الآن تعيش التخلف، والهمجية والبهيمية التي عاشتها تلك المجتمعات في العصور المظلمة. وأما الرجال الدين فهم من يحول بين العلم والعلماء، لأن الكتب المقدسة لا تنسجم بطبيعتها مع جُل ما جاء به العلم، من تقدم وتجارب وتغيير جذري في الحياة المعاشة اليوم، وهذا التغيير معظمه مناوئ لتعاليم تلك الكتب، فيثار حنق رجال الدين، وهم، بدورهم لم يقدوا أي شيء يذكر للبشرية.
رجال الدين تائهين في افلاك نصوصهم اللاهوتية. من تخلص منها نجا، ومن تمسك بها ضاح في لجة الطريق.
وهيكل يعتبر الخلاف الناشب بين رجال الدين ورجال العلم هو خلاف ليس بذات الخلاف، أنما هو خلاف لمنفعة فحسب، وهذا ليس بصحيح:” وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن بين رجال الدين علماء في العلم آخذون بأساليبه من غير أن يطعن ذلك في دينهم أو يغير من عقيدتهم، ومن بين رجال العلم من عمرت بالإيمان نفوسهم، وأخذوا في حياتهم بما يدعو الدين إليه من قواعد الكمال. وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن رجال الدين من إذا خلوت إليه أو خلا إلى نفسه رأيت الشك يملأ جوانب فؤاده فيعذبه أو يدفعه إلى السخر والاستهزاء من غير أن يخرجه ذلك من زمرة رجال الدين، ومن رجال العلم من يشك في طرائق العلم وأساليبه أكبر الشك، ويدعو لذلك إلى الأخذ بأساليب أخرى قد تكون إلى أساليب الدين أقرب”.
وهنا، نذكّر هيكل بكوبرنيكوس، صاحب اعظم نظرية في تاريخ المعرفة العلمية والانسانية، إلاّ وهي نظريته التي خالف بها بطليموس ومن قبله ارسطو، ومن لف لفهما، وحتى النصوص الدينية، فالنظرية القديمة كانت ترى أن الارض هي مركز الكون، وأن الشمس تدور حول الارض، وكوبرنيكوس اثبت العكس، وهذه النظرية مخالفة واضحة لما جاءت به الكتب المقدسة، حتى كان هذا العالم الكبير لم يجرؤ على نشرها إلاّ وهو على فراش الموت، خوفا على حياته، وعلى منزلته بين العلماء فضلا عن عامة الناس، ونظريته هذه، هي الآن قائمة ولم يفندها أحد. كذلك ما جاء به من بعده مثل كبلر وجاليلو ونيوتن، وعشرات غيرهم، وكلهم جاؤوا بنظريات تخالف مخالفة واضحة لتعاليم الدين، وقد يكون آخرهم دارون صاحب اكبر نظرية قالت بتطور الانسان، واليوم هذه النظرية تُدرّس في العديد من الجامعات العالمية.
ثم يأت لنا هيكل بنماذج من الفلاسفة والمفكرين الذين خالفوا الدين بنظرياتهم حتى رموا بالزندقة، ويتهم رجال الكنيسة بذلك الاتهام، ويرى أن الدين كان بمنأى عن ذلك: “ألم يكن رينان الكاتب الفرنسي الكبير من رجال الدين، ثم بلغ من خروجه على متعارف قواعد الدين أن رُمي بالإلحاد وأن أضافه أهل طائفته إلى رجال العلم ليحاربوه بالوسائل التي يحاربون بها رجال العلم، وبرجسون الفيلسوف الفرنسي الكبير يدعو إلى عدم التقيد بأساليب العلم الواقعي المقررة أن كان يراها أضيق من أن تتسع لكل الحقائق، وإلى الأخذ بوحي الإلهام فيما لم يصل العلم إلى الكشف عن حقيقته. ووحي الإلهام أقرب إلى الأساليب الدينية، بل هو قاعدة المذاهب الميتافيزيقية التي أنكرها العلم أشد الإنكار”.
نقول: ثمة كثير من الفلاسفة والعلماء كانوا يتحاشون الخوض في قضايا عويصة، من نظريات وحقائق علمية، يعلمون أن الخوض فيها يعرضهم للمخاطر والمهالك، وما كانت تهمة الالحاد ببعيدة عنهم وهي تهمة جاهزة، فكثير من النظريات العلمية هي قطعا تخالف تعاليم الدين، فالدين مبني على نصوص جاهزة كتُبت قبل مئات السنين، حيث أكل عليها الدهر وشرب، بينما العلم يسير على الحس والتجربة والبحث الدقيق المستمر في سبيل الوصول الى نتائج علمية ناهضة.العلماء جاؤوا بنظريات باهرة، الم يأت ديفيد هيوم ولوك ولابنتز وسبينوزا وغيرهم بما يخالف الدين حتى لاقوا ما لاقوه، من سجن ونفي واقصاء؟، ما لا يخفى عن الجاهل قبل العالم.
ويستمر هيكل ببحثه هذا، حول موقف رجال الدين من العلماء ليقول: “ويزيدك دلالة على ما تقدم وعلى أن الخلاف ليس بين الدين والعلم، بل هو بين رجال الدين ورجال العلم وأنه خلاف على السلطة ونظام الحكم قبل أن يكون خلافًا على شيء آخر، ما كان من الخلاف بين طوائف رجال الدين أنفسهم حين انقسامهم إلى مذاهب مختلفة. فقد بدأ الخلاف بين أهل هذه المذاهب على أنه خلاف في المبادئ لذاتها، ثم سرعان ما انقلب خلافًا غايته السلطة والحكم، وكلمة هنري الرابع: «باريس تساوي قداسًا»- يقصد أن امتلاك باريس يستحق انتقاله من البروتستاتنية إلى الكثلكة – تدل على معنى كبير. وكل الفرق بين هنري الرابع وغيره أن هنري الرابع كان صريحًا وأن كثيرين يذهبون مذهبه لو أنهم وجدوا ما يساوي ذهابهم هذا المذهب. فإذا لم يجدوه ورأوا في التعصب لرأيهم ما يساوي باريس تعصبوا لهذا الرأي أيما تعصب”.
وهيكل، هنا، كأنه لا يفرق بين السياسة من المستأثرين بالسلطة، الرامين الى التسلط والحكم فتزيوا بزي الدين، وما اكثرهم، وكلنا نعلم أن معظم الساسة – مسيحيون واسلاميون- لا يهمهم الدين بقدر ما تهمهم مصالحهم الشخصية ووصولهم الى مركز القرار، وهذا هو هدفهم، وصحيح أن رجال الدين كانوا هم من يحمي الحكم والسلاطين والملوك، ويعتذر عنهم اذا ما اساءوا أو اخطأوا، لأن ثمة مصالح مشتركة تجمعهم، فرجل السياسة يتغاضى احيانا إن حصلت ثمة إساءة للدين، بشرط أنْ لا تتعرض لمصلحته السياسية، أو تهز عرشه السلطوي، لكن رجل الدين لا يداهن ويكون متشددا في احيان كثيرة، وهذا ليس مدحًا لهم.
ثم يعود هيكل ويكرر ما قاله آنفا، كأنه لم يقتنع بالذي قاله سابقا حتى يكرر مرة أخرى، فيقول إنّ:” الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم إذن هي خصومة أساسها بعيد عن الدين والعلم جميعًا، وقاعدتها حرص كل طائفة على الاستئثار بالسلطة ونظام الحكم. وكلما تغلبت طائفة من الطائفتين على الأخرى قام منها رجال السياسة وأولياء الأمر في الدولة. ألم يكن ريشليو كبير وزراء فرنسا كاردينالا من أكابر الكرادلة. لكن مجده على التاريخ ليس مجدًا دينيًّا بل هو مجد سياسي؛ لأن رجال الدين كانت لهم الغلبة على رجال العلم في عصره، فآلت إليهم شئون الدولة وقام أذكياؤهم وذوو الدراية والدربة في الشئون العامة منهم بالتقدم إلى مصاف الحكم. لكن هؤلاء كانوا يتبادلون المعاونة مع أهل طائفتهم من رجال الدين. فكانوا يعينونهم على الحياة ومرافقها وييسرون لهم أسباب العيش فيها بما في يدهم من سلطان يسمح لهم بالتحكم في خزانة الدولة. وكانوا يستعينون بما لأهل طائفتهم من رجال الدين من سلطان على المجموع وحكم على عقائده وعلى أعماله”.
مصالح جُل الدينيين والساسة مصالح مشتركة، وغاياتهم مستوية، واهدافهم واحدة، لكن ليس كل رجال الدين على هذا المنوال، فمنهم المتشدد في دينه والمتعصب له، فذاك قد يجرّم ويحكم بالإعدام لصاحب كل نظرية يرى فيها تهديد لبناء الدين، وإنْ كانت، النظريات هذه، علمية لا يتسرب اليها الشك، أذا كان الامر بيده، فالذي فعلوه بـ (برونو) ليس ببعيد، فقد عاقبوه حرقاً بالنار حتى الموت، لأن الذي قاله برونو هو مناقض لما موجود في الكتاب المقدس.
ويواصل هيكل بحثه في هذا الاتجاه حتى يصل الى قوله: “ولم تنج دولة من الدول ولم ينج عصر من العصور من هذا الصراع الطائفي. وهو طائفي محتوم؛ لأن رجل الدين ليس في الواقع رجل دين باختياره، ورجل العلم ليس في الواقع رجل علم باختياره، بل كل واحد منهم له هذه الصفة بالنشأة التي نشأها والبيئة التي تربى فيها وبالطائفة التي يسرته الحياة ليكون أحد أفرادها؛ فهو في خصومته غير مختار بأكثر مما يختار الجندي المدافع عن وطنه، هذا الجندي يتحمس ويستميت لا لأن له في ذلك مصلحة ذاتية، ولكنه يعلم أو يشعر شعورًا لا سبيل فيه لريب أو شك أن هزيمة بلاده تخضعه لألوان من الذل يقاسيها بالاشتراك مع أهل بلاده جميعًا، كذلك رجل الطائفة يسير وطائفته جنبًا لجنب لمثل هذا السبب. والذي يخرج على طائفته متأثرًا بعقيدة خاصة أو رأي شخصي مثله مثل الذين لا ينخرطون في سلك الجندية، ولو اعتبروا فارين وأعدموا لاعتقادهم بأن الحرب إثم وحشي لا يجوز لإنسان أن يقدم على اقترافه ولو تحمل في سبيل ذلك ما تحمل من النتائج”.
ويتجاوز هيكل هنا تجاوز واضح للعلماء خصوصًا عند قوله” ورجل العلم ليس في الواقع رجل علم باختياره، وانا في عقدي الستين لم اسمع برجل علم يسيء، وهو جاء بدون اختياره، وهو لو كان مثل هذا العالم، فمن الظلم أن نقول عنه بأنه عالم. كل رجال الدين خدموا الانسانية، والذين انتجوا نظريات وابحت فيما بعد خاطئة أو مغلوطة، فهي التي توصلت اليها عقولهم آنذاك، لا بهدف الاساءة، وكلنا يعلم هناك مئات النظريات التي اسُتبدلت بأخرى وفنُدت غيرها مئات اخرى، وهكذا دواليك هي النظريات العلمية، لكن النظريات الدينية جامدة، وباقية في محلها لم تجد من يحركها الا القليل، والقليل هذا، أن وجد فمصيره معلوم”.
المؤسسات الدينية تعتقد إنِّ النظريات التي يأتي بها العلماء، وتؤيدها التجارب والواقع الراهن، هي بلا شك تهديد علني لنسف تلك المؤسسات، لأن النظريات تلك، تضرب بالصميم. لهذا نلاحظ إنِّ معظم الحروب التي وقعت على الارض هي حروب دينية، ولنا مثال صارخ هي حرب الثلاثين، كمثال، تلك الحرب التي خلفت الآلاف من الضحايا الابرياء، وغيرها من الحروب الكثيرة، وجُلها بأسباب دينية مبنية على نصوص ونظريات جاء من نفس الدين، وحتى الحروب التي وقعت بين المسلمين هي أيضًا لا تخلو من طابع ديني، مذهبي، لكن لا توجد حروب طاحنة وقعت بين العلماء، باستثناء حروبهم الكلامية، فالعالم يقتنع بما يأتي به العالم، أو يفنده بنظرية علمية أخرى تستند الى العقل والمنطق والتجربة، لكن ارباب الدين لا تقنعهم نظريات ولا منطق أرسو. وكان ابن تيمية قد هجم هجومًا عنيفًا على منطق ارسطو، وشن حربًا شعواء، لا تقل خطورة عن الحرب التي اجج سعيرها الغزالي على الفلاسفة، ووصفهم بالزنادقة، رغم كون الغزالي معدود من الفلاسفة.
“ولم يكن فوز طائفة رجال الدين بالحكم، ولا كان فوز طائفة رجال العلم راجعًا إلى الدين لذاته أو إلى العلم لذاته، بل كان راجعًا أبدًا إلى اعتقاد المجموع بصلاح واحدة من الطائفتين دون الأخرى لولاية شئون الدولة. واعتقاد المجموع بالصلاح لولاية شئون الدولة يرجع إلى اعتبارات عملية لا دخل للدين ولا للعلم فيها، وإنما الدخل لقوام الخلق وحسن البصر بالأمور وبعد النظر ودقة معرفة حاجات الدولة في الفترة التي يحكم المجموع فيها، سواء ما تعلق من هذه الحاجات بحكم الدولة في شئونها الداخلية وما تعلق بصلاتها بسواها من الدول”.
نعم، وامّا بشأن رجال الدين فاتفق مع هيكل في طرحه هذا، حينما يصفهم بأنهم طلاب سلطة، غايتهم الاستئثار بالحكم، وها بعضهم قد نال مأربه، لكن العلماء والفلاسفة ليسوا بطلاب السلطة، العلماء كرسوا حياتهم للبحث العلمي وللاختراع والابداع، ولإيجاد النظريات العلمية والطبية والهندسية، وحتى السياسية كما فعل ميكافيلي صاحب كتاب الامر. فالإنجازات العلمية التي نعيش اليوم تحت ظلها، كلها بفضل هؤلاء العلماء الذين سهروا الليالي ولاقوا النصب والمعاناة، في سبيل الوصول الى نظريات طبية أو علمية أو ابداعية أخرى، وهذا مما لاشك فيه.
الى أن يطرح هيكل كلامًا سليمًا، (ولا أريد القول أن كل كلامه ليس بسليم) أعني قوله: ” لقد قضت العصور الحديثة منذ قرون ثلاثة في أوروبا أن يتغلب رجال العلم على رجال الدين شيئًا فشيئًا، حتى كان ما كان من فصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا في العهد الأخير الذي سبق الحرب الكبرى. وإنما تغلبت طائفة رجال العلم أن نشأ المخترعون والاقتصاديون. وهؤلاء وأولئك جعلوا الناس أكثر حرصًا على حياة أكثر رفهًا ونعمة. وقد تقدمت الاختراعات على يد رجال العلم إلى حد أيقن الناس معه أن رجال الدين – على حاجة الناس إليهم لهدايتهم في سبيل الله – أقل صلاحًا للحكم وتنظيم شئون الدنيا من رجال العلم. وامتد هذا الاعتقاد وساد أوروبا كلها وانتقل مع الغزاة والمستعمرين الأوروبيين إلى أمم الشرق، وهو اليوم قد تغلغل في هذه الأمم حتى أصبح من البدهيات المسلم بها عند الناس جميعًا، أن خير ما يجب أن يتحلى به رجل الدين الورع والزهد في الدنيا وزخرفها، والتقرب إلى الله للعبادة والانقطاع له بدرس الدين من غير تعرض لشئون الدولة ولا لنظام الحكم فيها”.
نعم، أن الثورة الفرنسية جاءت على أسس علمية، وقامت على مبادئ انسانية، بفضل روسو وفولتير وبتأييد من ايمانويل كانت، وبغيرهم من المفكرين العظماء والمتنورين، الذين احترقوا بنار رجال الدين، من قسوة تلك النصوص الدينية الجامدة، والتي تريد من الانسان أن يكون بلا عقل ويسير فارغ اللب امام هيبة تلك النصوص المسلطة عليه، ولا اقول جميع النصوص، بل النصوص الاخلاقية لا يمكن الاستغناء عنا، لكن رجال الدين لا يعملون بها الا القليل. فابتعاد رجل الدين عن السياسة هو الحل الناجع، وهو حكم العلمانية، فرجل الدين يروم طريق الله، وهو المفروض والصحيح، ورجل السياسة هدفه السلطة والحكم والوصول الى اعلى هرم في الدولة، وهو ليس بالضرورة طريق الله، لأن السياسة فيها الكذب والتدليس، واما طريق الله فهو واضح.
بعدها يقرّ هيكل بأن العلم قديم، وهنا لا نريد أن نقول أن هيكل لم يكن يؤمن بالعلم، لكنه يفضل عليه الدين، والصحيح أن الدين هو يعني عقد صفقة رابحة مع الله، وليس للآخرين التدخل في هذه الصفقة، بينما نحن نرى كما يرى ايمانويل كانت، أو كما قال اينشتاين، حينما سُئل بأي إله تؤمن، فقال لهم أومن بإله سبينوزا. ” ولا ريب في أن العلم قديم؛ لأن أبسط المعارف هي أولى درجات العلم، فمنذ رأى الإنسان الأول مشرق الشمس ومغربها، ومنذ رأى المغرب والمشرق يتكرران كل يوم فعرف أن هذا بعض نواميس الوجود وإن لم يدرك سره، ومنذ رأى النجوم ولاحظ ثبات بعضها في اتجاه معين فاتخذ منه هاديًا في مسراه — من ذلك الحين كانت هذه المعارف الأولى؛ وما تزال؛ نواة العلم. وعلى توالي الأجيال تكاثرت وتداولت هذه المعارف التي تقع تحت الحس، والتي استنبط الإنسان منها نظام حياته بين الموجودات الكثيرة المختلفة التي تقع تحت حسه وملاحظته. وبتكاثرها وتداولها استطاع الإنسان التقريب بينها ومقارنتها واستنباط قوانين الوجود وسننه منها، واستطاع أن يستفيد بعلمه هذه القوانين والسنن ما يزيده سلطانًا على الوجود وتحكمًا فيه واستمتاعًا به”.
صحيح أن العلم كان في بدايته بسيطًا، كالوليد الحديث لا تهتدي الطريق، ولا يستطيع تلبية حاجاته الخاصة، لكنه حينما كبر وترعرع واشتد ساعده، وبات يعي، صار يعتمد على نفسه في قضاء كل ما يريد من متطلبات الحياة. كذلك العلم بدأ غضًا طريًا حتى اشتد بفضل تدرج العلم وبفضل النظريات العلمية التي طرحها العلماء الاوائل ثم من جاء بعدهم، وهكذا الى يومنا هذا، فالنظريات العلمية قائمة على قدم وساق، ولن تتوقف في يوم من الايام، بل تزداد اكثر فأكثر مما كانت هي عليه في ساعاتها الاولى “ولما كانت الإنسانية بحاجة مع ذلك إلى الاستفادة من علمها المحدود ومعارفها القليلة، فقد كانت معارف الحس بعض ما انصب عليه الإيمان الملهم وسلكه في نظامه. وبهذا التطابق سارت الإنسانية قرونًا طويلة يحس المجموع فيها السكينة إلى العيش والطمأنينة إلى الحياة وإلى الموت وإلى ما بعدهما”.
“في هذه القرون الطويلة أسلمت الإنسانية قيادها إلى أولئك الدعاة الصالحين الذين هدوها سبل الخير، وكان العلماء بعض طوائف هذه الإنسانية السعيدة. وقد أسلموا هم الآخرين القياد إلى الهداة؛ لأن علمهم كان أقصر من أن يقدم للإنسانية غذاءً ماديًّا كافيًا أو غذاءً قلبيًّا كافيًا أو غذاء روحيًّا كافيًا، لكنه كان مع ذلك نواة العلم الوضعي أو العلم الواقعي الذي أنتج اليوم من الثمرات أغزرها مادة واقواها سلطانًا.
إن الاولى بالإنسان الحر، والكاتب المستقل، والمفكر الفذ أن لا يجامل، ولا يداهن، ولا يتجاوز الحقيقة، لأن الحقيقة هي كالنور الساطع، وما بعد النور الا الظلام الدامس، والجهل المطبق الذي يخيم على الابصار فيحجب ذلك البصر عن رؤيا الحقيقة. وكلام هيكل هذا الاخير نشم منه رائحة المجاملة، أو الخوف من السلطة الدينية على ما يبدو، لأن حديثه هذا ينم عن خوف من الذين استأثروا بالسلطة والذين تحدث عنهم هيكل في بداية حديثه هذا.