تتوق الجماهير للانضمام إلى حركة جماهيرية تلبي طموحاتها عندما يكون هنالك هامش ولو بسيط من الحرية, وعادة ما يكونوا جاهزين للالتحاق بأية حركة فاعلة تظهر على مسرح الأحداث, وليس بالضرورة الالتحاق إلى حركة بعقيدة معينة او برنامج معين مع الاستعداد النفسي للتحول ما بين الحركات ونقل الولاء من حركة الى أخرى, وعلى هذا الأساس تنظر كل حركة جماهيرية الى أتباع الحركات الأخرى بوصفهم كأعضاء محتملين يمكن نقل ولائهم وضمهم بالاتصال المباشر او (التخاطر عن بعد) بتبني الفكر الذي ينجذب نحوه الأتباع المحتملون, فهي غالبا ما تستمد أتباعها من الأنماط البشرية نفسها وتجذب النوعية نفسها من العقول, لذلك يمكننا ان نستنتج ان جميع الحركات الجماهيرية براغماتية متجددة وبوسع أية حركة ان تحول نفسها بسهولة من حركة الى أخرى, حيث يمكن للحركة الدينية ان تتحول الى ثورة اجتماعية او حركة سياسية, كما يمكن للثورة الاجتماعية ان تتحول الى حركة سياسية او دينية وللحركة القومية الى ثورة اجتماعية او الى حركة دينية, وهذا التجديد الفكري المستمر يجنبها كثيرا من الاضمحلال الفكري ويديم لها البقاء على مسرح الأحداث … وقد يتطلب الأمر مع اشتداد المنافسة على مسرح الأحداث من إيقاف حركة جماهيرية مناهضة او إضعافها بفكرة إيجاد الحركة البديلة لها وإشغالها بصراع عقيم لا طائل من ورائه وتركيز أفكارها على مهاجمة هذا الند, حيث يمكن إيقاف ثورة اجتماعية بتشجيع حركة دينية او قومية لتكون ندا لها, وقد برز الصراع العقيم إبان الحقبة الاستعمارية للدول العربية ما بين تيارين قويين تزعما الحركات الجماهيرية وهما التيار القومي والتيار الإسلامي, ومع هذا فان استبدال حركة بحركة أخرى لا ينجح في كل الأحوال, وقد تكون باهظة التكاليف وعلى الذين يريدون البقاء في الحاضر كما هو ألا يغامروا باللعب في إيجاد حركات بديلة تخلق معها مناهضة جديدة للوضع القائم ومزيدا من الأزمات السياسية وهذا ما يبدو جليا في الوضع العراقي الراهن والتشجيع على إيجاد بدائل لبعض الحركات بإحداث الانشقاقات فيها فتتشظى هذه الحركات وتخلق معها مزيدا من المطالب السياسية والانتهازية, ويندر ان تكون للحركة الجماهيرية أيدلوجية واحدة, فهي كثيرا ما تظهر خصائص من حركات أخرى وأحيانا تأخذ مبادئها من حركتين او ثلاث في الوقت نفسه فالحركات السياسية الكبرى التي ظهرت على الساحة السياسية العربية قد جمعت خليطا من فكرين او أكثر من الأفكار القومية والاشتراكية والعلمانية والإسلامية لاستقطاب العدد الأكبر من الجماهير, فيما أخفقت الحركات التي كانت تتبنى نمطا واحدا من الأفكار.
ان الجهد المبذول من الحركات الكبرى لإزاحة بقية الحركات السياسية اللاعبة على الساحة السياسية سيؤدي بالضرورة الى إيجاد البدائل الأمينة لهذه الحركات للبقاء على مسرح الأحداث, فبالإضافة الى تشظي هذه الحركات وازدياد عددها بعكس ما هو مخطط له, فإنها تجد البديل الأفضل,وهو في الهجرة الى الخارج خاصة عندما تزداد المخاطر المحيقة بالحركة في الداخل وتتخذ طابع العنف والقسوة, والهجرة بالنسبة لها هو التغيير والبداية الجديدة,وسيسعى الراغبون بالالتحاق الى الحركات السياسية بالهجرة متى ما أتيحت لهم الفرصة لذلك, تماما كما حدث في هجرة العراقيين الأولى بعد غزو الكويت عام (1991) وتنظيم أنفسهم في حركات سياسية مناهضة للوضع القائم آنذاك وتكرر الأمر نفسه في الهجرة الثانية التي حدثت بعد احتلال العراق عام (2003), والهجرة الجماعية تمثل ميدانا خصبا لنشوء الحركات السياسية, وتحقق للمحبطين الأمل الذي يتوخوه عند الانضمام الى حركة سياسية, وهامشا كبيرا من الحرية يندر وجوده في بلدهم, إلا انه يعكس الهشاشة الفكرية وعدم القدرة على المنافسة والعجز عن إيجاد الأجواء الديمقراطية للحركات التي استحوذت على مسرح الأحداث, وهي تفتح بطغيانها الباب على مصراعيه للتدخل الخارجي, وصناعة وقولبة الحركات المناهضة للزج بها في معترك الحياة السياسية, وخلق معارضة سياسية بديلة أوجدها اللاعبون الكبار بتهميشهم الآخرين, فليس أمام الحركات الجماهيرية لتنامي جماهيريتها والبقاء على مسرح الأحداث سوى التنافس الفكري والمناظرة والبرامج وما قدمته وستقدمه لجماهيرها وفسح المجال للمتنافسين في اخذ مكانتهم على مسرح الأحداث, وإلا فإنها تصنع نعشها بأيديها وينتهي بها الأمر الى موتها فكريا وتخلي جماهيرها عنها, وتحل محلها حركات فكرية جديدة متجددة لها القدرة على استقطاب الجماهير وتلبية طموحاتها .