23 ديسمبر، 2024 10:55 ص

صراع البترودولار والبترودينار- أولا

صراع البترودولار والبترودينار- أولا

بحجج واهية،  ذات طبيعة ديماغوجية، نجحوا بتمرير قانون الخمسة دولار المحافظات المنتجة للنفط في البرلمان، جل هذه المبررات اعتمد الضرر البيئي الذي قد تتسبب به عمليات تطوير وإنتاج النفط.
سأحاول معالجة هذه الموضوع بشيء من الصراحة بالرغم من كونه موضوع حساس له تداعياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاتلة بالنسبة للعراق، لأن باعتقادي سوف يتسبب بانقسامات أكثر مما نراه اليوم من انقسام على أساس طائفي أو قومي أو سياسي، فالانقاسامات الجديدة ستكون أكبر بحيث يتم تقسم المقسم، لذا اقتضى تناول الموضوع بجرأة دون تحفظ.
للأسف الشديد وجدنا أن المختصين لم يحترموا اختصاصاتهم ولا اختصاصات الغير، فرجل الاقتصاد راح يتحدث عن نسب السرطان العالية في مناطق الإنتاج التي يدعي أنها وصلت إلى25%، والغريب في الأمر تحولت هذه الكذبة التي أطلقها رجل الاقتصاد إلى مانشيت للدعاية في محطة فضائية تروج لنفس الهدف، وكأن الاقتصادي أصبح مرجعا طبيا يعتد به.
الأكثر طرافة في هذه الكوميديا السوداء، أن الطبيب السياسي الذي يدافع باستماتة من أجل مشروع البترودولار لمحافظته لم يتكلم عن السرطان بسبب النفط، لأنه يعرف تماما عدم وجود علاقة بين هذا المرض والتلوث البيئي النفطي، وهذا جيد كونه احترم مهنته على أقل تقدير، لكنه وللأسف الشديد راح يتحدث بلغة قطاع الطرق ويهدد بغلق أنابيب النفط ويمنع تصديره من محافظته إذا لم تمنح الحكومة مبلغ البترولار.
أما السياسي الذي انتقد الدولة لأن خريج الجامعة في مدينته النفطية يبيع سجائر بالمفرد، وقد نسي أو تناسى أن خريجوا الجامعة في جميع مناطق العراق الأخرى يبيعون سجائر المفرد أيضا، أو حتى يفترشون الرصيف ببضاعتهم لأنهم لا يملكون ثمن عربة لعرض البضاعة، فهي ظاهرة ليست مرتبطة بمنطقة محددة، لكن هذا السياسي، استمرأ تسويق هذه الذريعة للحصول على منحة البترودولار لمحافظته، وهو يعرف تماما أن هذا البترودولار سوف يكون على حساب مناطق أكثر فقرا من محافظته، فهو ينظر لسرقة حقوق الشعب على أنها أمر مبرر.
وهكذا أصبح الاقتصادي طبيبا، والطبيب قاطع طريق متمرد على الحكومة، والسياسي لا ينام الليل ويذرف الدموع الحرى لأن خريج الجامعة في مدينته يبيع السجائر بالمفرد.
والأكثر غرابة، هو أنهم أقنعوا رجال الدين المتحدثين بإسم المرجعيات الدينية المحترمة بتبني نفس الخطاب الديماغوجي، فبالأمس تحدث رجل الدين من كربلاء المقدسة بإسم المرجعية الشريفة عن تشوهات خلقية وسرطان كنتيجة للعمليات البترولية.
رغم أن المرجعية الدينية قد اتخذت لها مكانا بعيدا عن الصراعات السياسية لكنها، للأسف الشديد قد وقعت هي الأخرى فريسة لهذا الخطاب المظلل، لأنها جهة ليست مختصة في العلوم الطبية والصناعية وما كان عليها أن تتدخل في هذا الموضوع إلا من خلال المختصين دعما لآرائهم وليس دعما لطامعين بخبز العراقيين من السياسيين، السياسيين الذين خربوا كل شيء والآن يريدون تخريب الاقتصاد العراقي.
لذا نطالب المرجعية الدينية تصحيح موقفها من هذه المسألة بأسرع وقت، من خلال استشارة ذووا الاختصاص لتبقى بعيدة عن الصراعات السياسية وخبثها.
للحقيقة أقول أني وبعد أكثر من أربعة عقود من العمل في الحقول النفطية عبر العالم ومع شركات عالمية كبرى لم اسمع ولم أقرأ أن العمليات النفطية تتسبب بالسرطان أو التشوهات الخلقية، فإنها، في حال عدم مراعات معايير حماية البيئة من التلوث سوف تتسبب بأضرار بيئية، وقد تكون خطيرة في بعض الأحيان بحيث تكون سببا للموت، لكن للعاملين في هذه الصناعة وليس للمجتمعات المحلية القريبة من العمليات البترولية، لكن لم نسمع أو نقرأ أنها تسبب السرطان أو التشوهات الخلقية بالمطلق.
ثم أن الجهات التي تدير الصناعية البترولية هي من ذوي الخبرة والمعرفة في مجال عملهم، ومن يقف على أعلى الهرم للصناعة النفطية هو رجل مختص بالصناعة النووية أيضا، وكذا الشركات التي تعاقدت معها الدولة، فهي شركات رصينة تعرف تماما معنى ملف “الصحة والسلامة والبيئة” ومدى خطورته، كما وتعرف كيف تتصدى للموضوع بوسائل حضارية متطورة وأنظمة عمل فعالة، ومع ذلك أرجع وأقول حتى لو كانت الشركات مهملة في هذا الجانب فإن التشوهات الخلقية أو السرطان لا علاقة لهما بإنتاج النفط والغاز والعمليات المصاحبة له، لأن هذه التشوهات والسرطانات تحدث في حال وجود تلوث اشعاعي نووي، وهذا غير موجود بالمطلق في هذه العمليات، فقد تكون هذه التشوهات أو السراطانات كنتيجة لبقايا الحروب التي دخل العراق فيها وتركت آثارها المدمرة على البيئة والناس، ومع ذلك، يمكن معالجة الموضوع بالطرق العلمية والتخلص من مصادر التلوث الإشعاعي، بطرق علمية صحيحة وليس بالبترودولار الذي سيسلبونه من أفواه الجياع من أبناء المحافظات الأكثر محرومية.
بهذه الديماغوجية تم تمرير قانون البترودولار في البرلمان العراقي البائس، وتمت شرعنة سرقة فقراء المحافظات الغير منتجة للنفط، وهم الأكثر محرومية من أبناء المحافظات المنتجة، وهذا ما سنوضحه في السياق.
ذريعة الضرر البيئي:
في الحقيقة إن عمليات إنتاج النفط استمرت في العراق منذ ثمانية عقود، ولم نسمع أنها تسببت بمثل هذه الأمراض، كما ولم نسمع أنها تسببت بها في مناطق العالم الأخرى التي ينتج منها النفط والغاز، ففي هولند، نجد أن الآبار محفورة بين الدور السكنية بداخل المدن، وكل مزارع تكساس هي بذات الوقت حقول نفطية تتعايش مع السكان المحليين بسلام طالما يتم تطبيق معايير الصحة والسلامة والبيئة بشكل سليم، ومن خلال إدارات مختصة بها.
إن تطبيق معايير البيئة بشكلها الصحيح لا يمكن أن تتسبب بأي ضرر بيئي ومن أي نوع كان، ولا يمكن أن تتسبب بالسرطان ولا التشوهات الخلقية، وهذه المعايير تؤخذ عدة مرات وهي كالآتي:
أولا- عند تصميم المشاريع التطويرية، فالمشروع إذا لم يستوفي معايير الصحة والسلامة والبيئة يجب أن لا يقر، وهذا من مسؤولية الشركات الوطنية التي تقبل بالمشروع التطويري، وقد تصل كلف حماية البيئة إلى أكثر من ربع كلفة المشروع، وهذا ما تم تطبيقه في التطوير البترولي في العراق، وعلى الحكومات المحلية للمناطق التي يتم فيها تطوير بترولي التأكد من ذلك، وأنصحها بالتمسك بحقها بمراجعة تفاصيل المشروع ومراجعة المواصفات التي تضمن حماية البيئة، وإذا لم تجد بنفسها الكفاءة بمراجعة مواصفات هذه المشاريع، يمكنها الاستعانة ببيوت الخبرة لكي تقوم بهذا العمل نيابة عنها.
ثانيا- إن الميزانيات التشغيلية لجميع الشركات العاملة في تطوير الحقول والمصافي تحتوي على بند خاص بالصحة والسلامة والبيئة، ويمكن للحكومات المحلية الاستعانة بأحد بيوت الخبرة لمراجعة الميزانيات السنوية للشركات العاملة في أراضيها وتظمينها ما هو ضروري لتحقيق هذا الهدف، وفي الواقع إن عقود التراخيص تمكن الحكومات المحلية من القيام بهذه المهمة ولا يستطيع أحد منعها بأي حال من الأحوال.
ثالثا- يوجد في العراق وزارة البيئة، وهذه الوزارة يمكن أن توفر الدعم الكافي للحكومات المحلية بتأدية واجبها إزاء حماية مواطنيها والبيئة، وهذه الوزارة لديها ميزانية يمكن زيادتها للقيام بالمزيد في هذا المجال.
رابعا- يمكن للحكومات المحلية فرض طرائق التطوير المناسبة للتقليل من هدر المساحات الصالحة للزراعة والتي تقام عليها منشآة بترولية، وهناك مفهوم متبع في العالم وفي مناطق الأهوار العراقية تحديدا، وهو مفهوم التطوير العنقودي الذي ينقذ أكثر من70% من الأراضي الصالحة للزراعة، لذا لا يوجد مبرر منطقي للتباكي على حقوق الفلاح الذي أخذت أرضه، وكما يعلم الجميع أن هذه الأراضي قد أخذت مقابل تعويض مجزي.
خامسا- غالبا ما يتباكى السياسيون على البنى التحتية التي تخربها حركة الشاحنات الكبيرة، وهذا الأمر أيضا يعتبر تقصيرا من قبل إدارات هذه المحافظات، لأن الطريق مصممة لتحمل أثقال معينة، لكنهم يسمحون بمرور أثقال مضاعفة دون رقابة منهم على حركة الشاحنات، كما وأن الطرق المخربة هذه تمر في محافظات أخرى أيضا وليست محصورة الضرر على المحافظات المنتجة.
وهكذا نرى بوضوح تام أن لا وجود لمبرر على الاطلاق لمنح البترودلار للمحافظات المنتجة، حيث أن المقصر، في حال وجود تقصير، والمسؤول الأول والأخير هو إدارات هذه المحافظات وسياسييها، والتي أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها خاملة وغير كفوءة، ولتغطية فشلها راحت هذه المرة تحرض المرجعيات الدينية في كربلاء المقدسة لتوفير نوعا من الدعم الديني لقضية ليست أخلاقية بالمرة، وللأسف الشيد وجدت لها آذان صاغية وقعت ضحية لديماغوجيتها اللئيمة.
سادسا-هناك ذريعة أخرى، وهي أن هذه المحافظات تستنزف مخزونها النفطي لصالح البقية، هي ذريعة واهية أيضا، لأن يوجد في العراق أكثر من500 حقل موزعة على جميع مناطق العراق، وما هو مطور منها فقط30 حقلا لحد الآن، حيث أن التركيز حاليا على إنتاج النفط من المناطق الجنوبية، وهذا له أسبابه، وهي أولا أنها سياسة موروثة من الأنظمة السابقة، وثانيا قربها من منفذ التصدير الأكثر أمانا للعراق وهو الخليج.
وفي حال استنزاف النفط في الحقول المنتجة حاليا سيتم تعويضه من خلال تطوير حقول جديدة في المحافظات الأخرى، وسيكون لهم فيه نصيبا، فهي مسألة اقتصادية لصالح جميع العراقيين في الوقت الحالي وليس لها بعد سياسي أو اجتماعي آخر.
مما تقدم يبدو جليا أن كل ما يسوقه السياسيون من مبررات للبترودولار ليس أكثر من ديماغوجية لا معنى لها على الاطلاق، لا تختلف كثيرا عن ديماغوجية الأخوة الكورد عندما يسوقون مشروعهم المخالف للدستور ومصالح الشعب العراقي عموما ويدعون أن سياستهم النفطية وفق الدستور، ولحد الآن لا ندري أي دستور يقصدون، فالدستور العراقي واضح جدا.
بتفسير منطقي لمثل هذه الهجمة الديماغوجية أنها تهدف إلى استدراج أصوات الناخبين في محافظاتهم المنتجة للنفط من أجل الوصول للبرلمان، أما بالنسبة لكوردستان، فهناك بعدا آخر متمثلا بتهيأة الأرضية الاقتصادية الصلبة التي تسهم باستقلال الاقليم عن العراق، وهو هدف قومي كوردي معرف.
لذا أدعو الجميع للتعامل مع الملف النفطي بحذر شديد لأن ثقافتنا النفطية مازالت محدودة جدا.
في الحلقة القادمة سنعالج موضوع التوزيع العادل للثروة ومشروع البترودولار والبترودينار.
[email protected]